09 October 2016

لطيفة الزيات: أوراق شخصية



لطيفة الزيات

حملة تفتيش

سجن القناطر، 13 نوفمبر 1981

التجربة التي عشتها بالأمس أثناء حملة التفتيش تستدعي المزيد من التأمل والفهم. ضحكت من سلوكي الذي بدا غريبًا بالأمس، وأضحكت منه الأخريات بالعنبر ليلًا، ولكني لا أضحك منه اليوم.

حملة التفتيش بالأمس لم تكن بالحملة الغريبة، ولا حتى بالقاسية إذا ما أخذنا في الاعتبار الحكايات التي يتداولها رواة السجن عن حملات التكدير السابقة في عنابر السجينات السياسيات من تغمية للعيون وضرب بالسياط، وما إلى ذلك. سلوكي أنا أثناء الحملة هو الذي بدا غريبًا.

من السهل استبعاد التفكير في الأمر بالقول إن الكل تعامل في هستيرية مع حملة التفتيش، ولم أكن أنا بالاستثناء. ولكن من الصعب أن أصالح بين هستيرية الأمس، وحالة التكامل النفسي التي أستشعرها اليوم. من السهل أن أقول إن لكل هستيريته المميزة، ولكن الهستيريا التي صدرت عني لم تكن عرضًا موحدًا، متسقًا ومتصلًا. كانت أعراضًا متغايرة ومتناقضة أحيانًا، تصدر عن عوالم بدت حتى اللحظة جزرًا منسية، ومنفصلة الواحدة عن الأخرى.

لم يحدث من قبل أن سقط من وعيي، وأنا يقظى، الخط الفاصل بين الحقيقة والخيال، بين الحياة والفن، ولا انبعثت في كياني من عدم، في نفس اللحظة الشعورية، الطفلة المرتعبة والفتاة الجسور التي وجدت الخلاص في الانتماء إلى الكل، والصبية يضنيها العجز عن الفعل، والمرأة في منتصف العمر محنطة بين دفتي كتاب تحاشيًا للصدام.

توقعنا بالأمس الحملة التفتيشية المألوفة. يقف المأمور بصحبة ضابطة وسجانة في حوش العنبر منتظرًا، يُمهل «الإسلاميات» في العنبر فرصة ارتداء الحجاب. تفتح الضابطة الحقائب، تدس يدها في الملابس في تهذيب رجال الجمارك في تفتيش لا يسفر عادة عن شيء. وقد استوعبنا، خلال شهرين ونصف، جدلية الصراع بين السجان والمسجون، وتمتعنا بالتالي بالقدرة على التنبؤ بعملية التفتيش قبل أن تقع، وتمرسنا في إخفاء ما يتعين إخفاؤه من ممنوعات.

غير أننا أخطأنا بالأمس فهم تطور عملية الصراع بين السجان والمسجون، صَعَّدنا الصدام بدل المرة مرتين تصعيدًا غير مألوف، وتوقعنا رد الفعل المألوف.

***

تعين علينا أن نفعل شيئًا توقيًا لخضوع أمينة (د. أمينة رشيد) لإجراءات التأديب بعد عودتها ظهرًا من التحقيق عند المدعي الاشتراكي.

سرب لنا الخبر مصدر من مصادر معلوماتنا في السجن، والخبر مفروض ألا يتسرب، فالخبر، أي خبر، معلومة، والمعلومات، أية معلومات، شخصية كانت أو مسموعة أو مقروءة أو مرئية، من داخل السجن كانت أو من خارجه، محظورة على المتحفظ عليهم وعليهن. بعد أن غادرت أمينة العنبر صباحًا خضعت عند بوابة السجن لتفتيش ذاتي، أسفر التفتيش عن خطابين، واحد لزوج أمينة والآخر لابنها. تم تحريز المضبوطات، وأرسلت على وجه السرعة إلى إدارة المباحث العامة. وحررت إدارة السجن محضرًا بالواقعة تمهيدًا لتنفيذ إجراءات السجن التأديبية على أمينة بعد عودتها من التحقيق.

وكان من المفروض وقد عرفنا بالمعلومة أن نتسلح بالمعرفة، ونتظاهر كما نتظاهر كل مرة بأننا لا نعرف، حتى لا يبتر ضابط المباحث المختص مصادرنا، ونضطر، وحاجة السجين إلى المعرفة تتساوى وحاجته إلى التنفس، إلى العودة إلى نقطة الصفر، ومعاودة البحث عن مصادر جديدة. ولكن تعين علينا هذه المرة أن نفعل شيئًا توقيًا لخضوع أمينة للحجز في زنزانة التأديب عند عودتها. ولو لم نفعل لمتنا غيظًا وغضبًا.

سحبنا أسرَّة عنبرنا إلى الحوش الملحق بالعنبر والمسوَّر بالحديد أيضًا. وأعلنت عريضة الإضراب أن الحال سيظل على ما هو عليه لحين الاستجابة للمطالب المذكورة على العريضة. حملت العريضة توقيع فريقين من السجينات، راهنت السلطة على وقوع صراع فيما بينهما بحكم اختلاف الاتجاهات السياسية والثقافية، وأسلوب الحياة والسن، الفريق الذي اصطلح الناس على تسميته بـ«الإسلاميات» والمكون من خمس بنات، والفريق الذي اصطلح على تسميته بـ«السياسيات» والذي تنتمي إليه أمينة وعواطف (د. عواطف عبد الرحمن) ونوال (د. نوال السعداوي) وأنا.

***

لحظة انفراج الباب الحديدي لحوش العنبر المسوَّر عن المأمور، أدركت أنه جاء معوِّلًا على «الإسلاميات» في كسر الإضراب، تجاوزت نظرة المأمور ثورة عواطف ونوال وثورتي، وتعلقت بمدخل العنبر في انتظار خروج المنقبات. وأنا أتتبع نظرة المأمور بدا لي مدخل العنبر، وهو خاوٍ أو يكاد من الأسرَّة، كفم حيوان أسطوري منزوع الأنياب.

وحين خرجت البنات الخمس، منقبات بالخمار والملابس السوداء، كشر العنبر عن أنيابه، وارتجفت في عيني المأمور نظرة خوف، والبنات مصطفات كالحائط المنيع جنبًا إلى جنب، صباح التي لم تكن، وأصبحت بعد التجاوز الواعي لبدايات الصراع بين الفريقين، طفلة عنبرنا المدللة، وأمل مدبرة عنبرنا، ونادية وزير تمويننا، وهدى، وسيدة زرقاء اليمامة التي تتنبأ بالخطر قبل أن يقع.

تنهدت ارتياحًا والمأمور ينتقل من الوعد إلى الوعيد، واستبعدنا الويل والثبور وعظائم الأمور، وطالبنا باستعادة الخطابات، واكتسبت خطابات أمينة الشخصية على لسان المأمور خطورة أطبقت على أنفاس العالمين وأنفاسي، ووجدت نفسي أنهي النقاش، وأنا أقول للمأمور مشيرة للخطابات موضع النقاش:
- بلَّها واشرب ميتها.

ويعاودني الانبهار للمرة الألف، وأنا أستخدم ألفاظًا اعتبرتها قبل السجن قذرة وسوقية، وأتجاوز، تواقة للصدام للمرة الألف، المرأة في منتصف العمر هاربة من الحياة بين دفتي كتاب.

(يحيل السجن القفازات البيضاء الحريرية الناعمة إلى قفازات ملاكمة تصيب الهدف إصابة مباشرة، يختزل السجن الإنسان إلى المقومات الأساسية للوجود، والمقومات حبلى بكل الإمكانيات، وتصبح أرضًا صخرية وخضراء يانعة الخضرة، نارًا وماء، طينًا تدوسه الأقدام، وخزفًا يحكي قدرة الإنسان على خلق الجمال وإعادة خلق ذاته. في السجن تصبح شرسًا وجميلًا).

***

بمجرد أن غادر المأمور المكان مندحرًا، تأهب العنبر للتفتيش، ولم يتأهب. أخفى البعض ما يتحتم إخفاؤه، وعوَّل البعض على المهلة التي تمنح عادة للمنقبات لاستكمال الحجاب.

جمعت مذكرات أمينة المكتوبة ومذكراتي، دسستها مع الأقلام ملفوفة في علبة من الصفيح، تركت للتمويه دفترًا يحمل اسم أمينة وآخر يحمل اسمي. أحكمت الغلاف النايلون على جهاز الراديو الجماعي. وقفت سيدة تراقب البوابة الخارجية، وسترتني صباح بعباءتها حتى انتهيت من وضع المحظورات في مخابئها.

خطر ببالي وأنا أملأ دلوًا بالماء أن أوراقي ترقد مخلوطة في مخابئها السرية، وأني حاولت دائمًا تنظيمها ولم تنتظم. سكبت ماء الدلو على صحف الأمس محروقة، في فوهة مرحاض لا يصله الماء. دست صباح رسالة من أبيها في صدرها، وأعلنت أن الرسالة لن تفارقها إلا في اللحظة الأخيرة وعند الضرورة. وفي جو احتفائي انتشرنا في حوش العنبر، نجلس هذه المرة على أطراف الأسرَّة بدلًا من أن نفترش الأرض. وجلسنا نتسامر ونتشمس، وثياب الحجاب قد أسفرت عن أثواب طويلة تصطخب بألوان الورود الزاهية الساخنة.

***

راعني خواء العنبر بعد أن تركت الجميع خلفي مسترخيات في الشمس، افتقدت الحياة المضطرمة بالصلوات بالدعوات، بالشجار بالضحك بالبكاء، بالتسابق جريًا، وبألعاب البنات الصبيانية. تطلعت إلى يساري حيث شغلت أسرَّة البنات حوائط ثلاثة من العنبر، ولم أجد سوى سرير أسود محطم من طابقين يحمل أمتعة البنات. ولمحت مفرودًا على الطرف الأعلى للسرير ثوبي الأزرق الشتوي الوحيد الذي خصصته للخروج للتحقيق، ولم يستخدم بعد. عرجت يمينًا في طريقي إلى دورة المياه. في ركني الحائط اللذين شغلتهما أسرَّتنا الأربعة تبقى صندوق كرتون مقلوبًا، أستخدمه كمائدة صغيرة، أخفيت تحته بعض الكتب وكراسة بها بعض الملحوظات تعمدت أن يجدوها أثناء التفتيش، لتصرف الأنظار عن الأوراق المكتوبة التي أخفيتها لصق الحائط على يمين سرير آخر قديم. تحتل الطابق الأعلى من هذا السرير حقائب ملابسنا، أمينة وعواطف ونوال وأنا، وفي الطابق الأسفل منه أربع علب كرتون تخص كل واحدة منها واحدة منا، وتحوي أشياء دقيقة مثل فرشاة الأسنان، والمعجون، مشط الشعر، صابون الحمام وصابون الغسيل، طبق الأكل، الملعقة، كوب الماء، إلخ. لصق السرير رفوف خشبية تخلفت من سرير قديم، تستند إلى صفائح فارغة، رصت فوقها مواد التموين من عدس وأرز والحلل اللازمة للطبيخ. أمام الرفوف موقد غاز، وصخرة تستخدم كمقعد لمن تطهو الطعام.

خطر ببالي وأنا أدلف إلى دورة المياه في نهاية العنبر الذي يمتد طويلًا كمستطيل، كم استطالت معاركنا مع إدارة السجن وتستطيل، لكي نحصل المرة بعد المرة على كل بند من هذه البنود، ولكي نصل إلى الحد الأدنى من المستوى الآدمي للمعيشة، بعد أن قطعت إدارة السجن الصلة بيننا وبين الأهل والعالم الخارجي.

في دورة المياه بلا باب مررت بالحوض الطويل ذي الصنابير الثلاثة حيث نستحم، وبالحائط المواجه مغروسًا بمسامير تستخدم كمشاجب للملابس، وبحبل غسيل يحمل الملابس الداخلية التي لا تحتمل نظرات الدخلاء. تجاوزت المرحاض الأول، والوحيد ذا الباب، إلى المرحاض الثالث الذي لا يستخدم، وصببت من جديد دلوًا من الماء حتى لا تبقى أية آثار للرماد المتخلف عن حرق صحف اليوم السابق.

***

بدأت حملة التفتيش، وأنا أجلس على مقعد مجوف أقضي حاجة في مرحاض بلا باب. رصدت أذني صرخات البنات المألوفة حين يفاجئهن رجل سافرات، وخطوات ركض، عشرات من الخطوات، وتشابك أصوات غريبة ومألوفة من السجانات والسجينات، وأرهفت السمع لأتبين طبيعة ما يجري في العنبر، ولم أتبين شيئًا، دهمتني صرخة صباح في المرحاض المجاور، وطرقات على باب المرحاض وشتائم، واكتشفت وأنا أهب لنجدة صباح أني في حالة لا تؤهلني للخروج من الدورة. صرخت في السجانة التي تطارد صباح في استفزاز متعمد:
- أنا هنا، تفضلي، فتشيني.

وفي محاولة لدرء المطاردة عن صباح حتى تلقي بخطاب أبيها المدسوس في صدرها في المرحاض وتشد السيفون، كررت نفس العبارة ولا جواب يواتيني، وصراع يدور حول باب المرحاض الوحيد في الدورة، وصرخة أخيرة لصباح، وخطوات تركض تلاحق خطوات. وصمت يخيفني أكثر من الصرخة، وصوت غير ذلك الذي ساط صباح يواتيني ردًّا على عبارتي بليدًا متخاذلًا بكلمة «لا».

***

حين خرجت وجدت مؤخرة عارية لسجانة تنحني بثوبها الرمادي على المرحاض، وذراعها اليمنى مدسوسة في الفتحة، وكفوف من البراز تخضب حائط المرحاض مثل كفوف الدم احتفاء بنحر الذبائح، ولا أثر لصباح في الدورة.

أتجاوز المؤخرة العارية وكفوف الدم، وضلفة أبلكاش مزقتها سكين الجزار. أتوقف مرعوبة، أمام امرأة مشوهة العينين، ممسوحة الصدر والأرداف، تسد عليَّ فتحة دورة المياه المؤدية إلى العنبر... وصرخات للضحية تضيع في دقات الزار، وما من أحد يسمع، وتداهمني في ظلمة الليل في فراشي، وأنا الطفلة في الثلاثينيات، ريا وسكينة أعتى قاتلتين في مصر.

أجري إلى سرير أمي لاهثة مرعوبة قبل أن تعريني ريا وسكينة، قبل أن أصرخ ودقات الزار تغرق صرختي ورنات الزغاريد، قبل أن تسلخني سكين الجزار ألف قطعة وقطعة وتشويني نار جهنم في الفرن الكبير، قبل أن أستحيل إلى حفنة رماد يسكب عليها المياه في فوهة مرحاض. نقطة البوليس أمام بيت ريا وسكينة وما من معين للضحية، نقطة البوليس في حد السكين في وهج النار، في رنة الزغاريد وفي دقات الزار، وما من معين للضحية.

ولأني لم أعد الطفلة التي تجد الملاذ في حضن أمها من شرور الدنيا، أتساءل وأنا أرقب السجانة المشوهة العينين الممسوحة الصدر والأرداف: هل هذه شبيهة ريا صلاح أبو سيف في الفيلم السينمائي أم سكينة؟ وأزيح السجانة عن طريقي المؤدي للعنبر.

وأتوهم أن ظل ريا وسكينة قد سقط عني، وهو لم يسقط.

***

بالأمس وأنا أقف على الحافة بين الكابوس والواقع، تعاملت لفترة مع استعراض شرس للسلطة، وكأني إزاء عصابة من اللصات بقيادة زعيم. وسقط من وعيي الحد الفاصل بين القهر الواقع من السلطة والقهر الواقع من عصابة من القتلة واللصوص. وهذا الربط بين المستويين من القهر، هو الذي شكل السلوك الذي وصفته بالغرابة، وهو الذي أضحكني بالأمس، وأضحكت منه الأخريات كخلط، وما من خلط.

(ما من خلط. أعرف الآن أني عرفت هذه الحقيقة منذ كنت صبية، وفي أغوار النسيان غيبتها، وأستعيدها اليوم، وما من خلط. قهر السلطة وقهر اللصوص القتلة هو ذات القهر. أعرف الآن أني كنت بالأمس الصبية تصفي مع اللصوص والقتلة حسابًا قديمًا، لم تصفه يوم أردى رصاص البوليس أربعة عشر قتيلًا أمام عينيها ولم تفعل شيئًا، لم تملك أن تفعل شيئًا).

لم تكن المذبحة التي شاهدتها الصبية في منتصف الثلاثينيات من شرفة البيت بشارع العباسي بالمنصورة كابوسًا، كانت واقعًا، ولم يكن الربط الذي رسخ في أعماق الصبية بين ريا وسكينة ورجال البوليس القتلة، ربطًا نظريًّا ولا وهميًّا، كان محصلة خبرة معاشة.

وأعرف الآن وأنا الصبية والمرأة في أواخر الخمسينيات أن ما تخيلته بالأمس كابوسًا مضحكًا، هو جوهر الواقع.

استوعبت المشهد بمجرد أن أزحت السجانة عن طريقي، العنبر المستطيل يتوسطه الباب الحديدي مقسم إلى قسمين بصف عرضي من السجانات، حتى يجري التفتيش على مرحلتين فلا يفلت شيء. يجري التفتيش الآن في القسم الذي تشغله البنات. تقف نادية في هذا القسم وحيدة، بلا خمار وبلا ملابس الحجاب السوداء، حولها مجموعة من السجانات، وملابس نسائية تتطاير متلاحقة متسارعة لتهوي على الأرض. وفي القسم المجاور للدورة والخاص بنا تتخبط زميلاتي وبقية البنات بالعديد من السجانات الرماديات الثياب، يمنعن أي تقدم نحو الدورة، وأي اقتراب من الأمتعة. باب العنبر موارب، وما من مسؤول يشرف على عملية التفتيش ولا مسؤولة، أتبين في السجانة التي تدس يدها في أمتعة البنات، مسؤولة الكانتين التي نتعامل معها يوميًّا. أقرر التفاهم معها في هدوء: فلننتظر حتى يكون التفتيش في حضرة مسؤول أو مسؤولة.

أكسر الحصار إلى منطقة التفتيش (تغيب عن ذهني لحظتها الحكايات التي يتداولها السجن عن خبل المرأة التي تخلع ملابسها، وتقف عارية كما ولدتها أمها عند أي معركة أو شبهة معركة). أضع يدي في رقة على يدها المدسوسة في حقيبة، وأفتح فمي لأقول ولا أقول، يختل كل شيء: خطة التفتيش المرسومة على مرحلتين، والحصار الذي يقسم العنبر إلى قسمين، وحسي بالواقع.

***

تطوقني السجانة وجسدها النحيل يرتج بالخبل، يتحول إلى زوايا حديدية وحادة من الأعصاب المشدودة. الكل يحتشد الآن حولي، سجانات وسجينات، الأيدي تتقاذفني، تنقذني من قبضة المرأة الحديدية، تلقيني إلى قبضة المرأة الحديدية، وصرخات احتجاج وشتائم متبادلة تمر عبر رأسي، والمرأة المخبولة تطلق دون أي داعٍ صرخة طويلة، وكأنما تلفظ نفسها الأخير. والجمع ينفرط من حولي كما احتشد، وخطوات مجنونة تركض تلاحقها خطوات، لا أدري لِمَ ولا إلى أين.

وأستقيم على صرخات فزع قصيرة تصدر عن دورة المياه. وأصوات تلاطم واشتباك، وعلى المأمور وقد انزرع في العنبر، لا أعرف متى انزرع، يدس رأسه في حقيبة أمينة. والأيدي تندس الآن في كل الحقائب، تسقط كالصقور الجارحة على ملابسنا الداخلية، على أوراقنا، على أدويتنا تلتقطها كالفرائس، تسقطها مغتصبة على الأرض.

ويختل حسي بالواقع والصرخات في دورة المياه تتصل وتتجمع في صرخة واحدة تلفني وتلف العنبر مجتمعًا، وأصرخ بعريي وقد اكتشفت أن الثوب الوحيد الذي أملكه للخروج من هذا الجحر قد اختفى من مكانه على حافة السرير ذي الطابقين:
- أين ثوبي؟

ولا يسمع أحد صراخي والمعركة تدور في الدورة، وصرخة الفزع تتحول الآن إلى صرخات مقاومة مستميتة. ومزيد من السجانات اختفى الآن داخل الدورة، ووقع أجساد ترتطم بالأرض، تُجر على الأرض، وأنا أعاود الصراخ:
- أين ثوبي؟

وأنا الآن أقف بحذاء المأمور يتوقف وجودي على استعادة ما سرق مني، ثوبي؟ آدميتي؟ ما سرق مني أم منا؟ في تلك اللحظة أم في كل عقد مضى؟ وأنا الآن أهز ذراع المأمور أطالبه باسترداد ما سرق، لا نظرة الدهشة في عينيه، ولا الذهول في عيون السجانات يثنيني، وأنا أهز ذراع المأمور في جنون.

وأسترد حسي بالواقع، وحائط رمادي من السجانات يدفع البنات غصبًا، منكفئات إلى العنبر، في حضرة المأمور، كالسبايا، عاريات من الحجاب.

***

أعرف الآن أني كنت الصبية في منتصف الثلاثينيات، تنزل من الشرفة إلى شارع العباسي بالمنصورة، تشتبك بالأزرار الصفر والبنادق السوداء الكابية. أعرف أني كنت الفتاة في منتصف الأربعينيات تجلس إلى جانب كوبري عباس، وقد تحجرت الدموع في عينيها ملحًا، تنتظر رفاقها الغرقى رفيقًا بعد رفيق، تستر بالعلم الأخضر جثة رفيق بعد رفيق، من ضحايا مذبحة كوبري عباس.

***

بدأت أنتشل من الركام عباءات البنات، وأغطية الرأس والوجه واليدين، والمعركة مستمرة في شراسة واستماتة، والبنات يعاودن اللجوء إلى الدورة، المرة بعد المرة، مستترات، وأنا أقطع العنبر ذهابًا وإيابًا إلى دورة المياه. أسلم لكل حاجة من حاجياتها عباءة، طرحة، خمارًا، قفازًا، وأعود أستكمل بحثي بين ركام هائل من الملابس والأدوية والمناشف، وأدوات المطبخ المكسورة. وفي المرة الثالثة لرحلتي ذهابًا وإيابًا لدورة المياه، لمحت التفتيش يتركز على حاجياتي، وأنا أحمل عباءتين، وأدق خصائصي تتطاير في الهواء. أستشعر غضبًا لا يعاودني، وأنا أواصل مهمتي. في المرة الرابعة شعرت وقطع الحجاب تتجمع قطعة بعد قطعة، والبنات يستترن بعد عري، والأشياء تتكامل، أن حملة التفتيش لم تعد تعنيني في شيء، وأن أحدًا لم يعد يملك القدرة على تعريتي أو النفاذ إليَّ.

دمعت عيناي وأنا أكمل مهمتي، وأسدل العباءة الأخيرة على صباح وأحتضنها في صدري، وقد انسابت في عيني دموع تحجرت ملحًا، في عيني فتاة جلست على شط النيل عام 1946، تنتظر غريقًا بعد غريق.
وتوجهت من دورة المياه إلى باب العنبر، وبدا الطريق ممرًّا ضيقًا وعرًا ومعتمًا، وتجاوزت ركام الممر وحطامه وعتمته، وفتحت الباب على اتساعه، وانفلت إلى فسحة الحوش وضي الشمس.

وخطر في بالي وأنا أسترخي في جلستي على طرف السرير أني أستطيع الآن أن أنظم أوراقي التي رقدت مخلوطة في مخابئها السرية.

No comments:

Post a Comment