14 October 2016

حلمي النمنم: سيد قطب - سيرة التحولات



حلمي النمنم

سيد قطب: سيرة التحولات


الفصل الثالث
ماسوني قبل دخول المحفل
في حياة سيد قطب ومسيرته مرحلة مجهولة تمامًا، يمكن تسميتها المرحلة الماسونية، حيث لم يشر إليها هو، لا من قريب ولا من بعيد، ولا تناولها من أرخوا لحياته وأفكاره، في تلك المرحلة اعتنق مبادئ الماسونية، ويحددها بأنها: الحرية والإخاء والمساواة، وزعم أنه يعمل بها، المشكلة في هذه المرحلة ليست - فقط - فيما يلفها من غموض وألغاز، شأن أمور أخرى في حياة سيد قطب، ولكن لأن هناك مشكلة أكبر تتعلق بالماسونية والماسون في مصر، حيث قامت الماسونية المصرية - إن صحت التسمية - على الغموض والأسرار، وبسبب ذلك الغموض تم القضاء - رسميًّا - على الماسونية في مصر، ففي سنة 1964 صدر قانون الجمعيات الأهلية، الذي يلزم كل جمعية أو أي جهة تقوم بنشاط أهلي أن تبلغ وزارة الشؤون الاجتماعية بأسماء أعضائها والمشاركين فيها، فضلًا عن ميزانياتها وطبيعة عملها، ورفضت المحافل الماسونية الالتزام بذلك، لأنه يمثل خرقًا لقاعدتها الذهبية وهي السرية التامة والمطلقة، وكان أن أصدرت حكمت أبو زيد وزيرة الشؤون الاجتماعية - سنة 1964 - قرارًا بحل المحافل الماسونية في مصر، والغريب أن قرار الحل كان بسبب إجرائي، وهو عدم الالتزام بشروط وقواعد قانون الجمعيات الأهلية لكن الآراء والتحليلات انطلقت في الصحف ومن كبار الكتاب تتهم الماسونية في مصر أنها كانت ذات أهداف صهيونية وتخدم إسرائيل، ومن يومها باتت الماسونية في الوعي الثقافي العام رديفًا للصهيونية وللعمالة لإسرائيل، ومن جانبهم التزم الماسون المصريون الصمت التام، لم يردوا ولم يدافعوا، ولم يملك أحدهم شجاعة الإعلان عن نفسه كماسوني سابق، ربما لأن التزامهم الماسوني يفرض عليهم ذلك الصمت.
دخلت الماسونية مصر مع الحملة الفرنسية وأسس نابليون أول محفل بالقاهرة، والثابت أن الجنرال كليبر كان ماسونيًّا وكذلك الجنرال جاك مينو، الذي اعتنق الإسلام وهو في مصر وصار اسمه عبد الله مينو، وكان اعتناقه للإسلام كي يتزوج من زبيدة الرشيدية، ولما عاد إلى فرنسا ترك الإسلام، دعنا الآن من وجهة النظر التي ترى أن الماسونية ظهرت أول مرة في التاريخ بمصر الفرعونية، وبرزت في العصر الإسلامي مع الدولة الطولونية، وأن المهندس الذي بنى جامع أحمد بن طولون كان ماسونيًّا، يعنينا الآن مصر الحديثة، التي عرفت الماسونية مع نابليون.
يلفت النظر أنه بين ضباط الحملة الفرنسية وعلمائها كان هناك منهم الماسون وكان منهم أتباع سان سيمون، الأخيرون أعلنوا عن أنفسهم بوضوح، وبينهم من ظل في مصر حتى بعد خروج الحملة وعاشوا بها، وهؤلاء أصحاب فكرة شق قناة السويس لربط البحر الأحمر بالأبيض المتوسط، وهم أيضًا أصحاب فكرة ومشروع بناء القناطر الخيرية، وقد انتهى الحال بعدد من هؤلاء أن تمصروا وذابوا بين المصريين، أما الماسون فكانت السرية طابعهم والإظلام منهجهم، رغم أن أفكارهم المعلنة لا تقتضي السرية.
هذه الأفكار هي الحرية والإخاء والمساواة والسعي إلى أن يكون العالم أكثر إنسانية وأخلاقية.. وإذا كان الأمر كذلك وعلى هذا النحو فلماذا السرية والغموض التام؟
وهناك خلافات حول ظهور أول محفل ماسوني مصري، وهذا الأمر لا يعنينا الآن، المهم أنه مع الربع الأخير من القرن التاسع عشر كان هناك عدد من وجهاء وأعيان مصر انضموا إلى المحفل الماسوني، وأمامنا أسماء مثل جمال الدين الأفغاني والأمير محمد توفيق «الخديو فيما بعد» والأمير عبد القادر الجزائري، فترة إقامته بالقاهرة وقبل أن يسافر إلى الشام «سوريا» ليؤسس هناك محفلًا خاصًّا، وأديب إسحق ويعقوب صنوع وسليم النقاش وجورجي زيدان، وعدد من ضباط الجيش المصري الذين شاركوا في الثورة العرابية[i] وغيرهم من رموز ذلك الجيل والجيل اللاحق من السياسيين والكتاب والفنانين وعلماء الدين مسلمين ومسيحيين، فضلًا عن عدد من الشخصيات العامة.
وكانت المحافل المصرية تعلن أنه لا شأن لها بالسياسة ولا تتدخل فيها، ولم يكن ذلك صحيحًا، جمال الدين الأفغاني فكر في اغتيال «الخديو» إسماعيل على كوبري قصر النيل، والأمير حليم رئيس أول محفل حاول استغلال المحفل ليتولى هو عرش مصر بعد عزل إسماعيل، وحين اعتقلت السلطات البريطانية سعد زغلول ونفته خارج مصر، في بدايات ثورة 1919، هاج المحفل المصري وطالب بريطانيا بالإفراج عن الزعيم الجليل، ونظرًا لأن هذه القضايا كانت ذات طابع وطني بالأساس، لم يتوقف كثيرون أمام تدخل الماسونية في السياسة ولا انتبهوا إلى التناقض بين الفعل والقول، لكن حدث الانتباه والشك في الماسونية المصرية سنة 1922.
الذي حدث أنه منذ صدور وعد «بلفور» في نوفمبر 1917 احتدم النزاع في فلسطين بين أهلها والمهاجرين اليهود والمنظمات الصهيونية التي تدعمهم، وفي ظل حماية الانتداب البريطاني على فلسطين تسارعت وتيرة المشروع الصهيوني وإقامة الوطن القومي لليهود على أرض فلسطين، وكان طبيعيًّا أن يقلق الفلسطينيون ويهبوا للدفاع عن بلادهم وديارهم، وكان طبيعيًّا أن يبادر المصريون إلى التعاطف مع إخوانهم من أهل فلسطين ومساندتهم، وفي سنة 1922 كان هناك استعداد لاحتفال يهودي كبير عند قبر نبي الله موسى عليه السلام في ذكرى مولده، وإذا بالمحفل الماسوني المصري يصدر في 12 أبريل سنة 1922 بيانًا بعنوان «نداء إلى أهل فلسطين»، وقعه إدريس راغب الأستاذ الأعظم للمحفل، أي الرجل الأول فيه، ومعه هيئة المكتب أو قيادات المحفل. وجاء في هذا البيان بالحرف:
“يا أهل فلسطين: تذكروا أن اليهود هم إخوتكم وأبناء عمومتكم إذ ركبوا متن الغربة فأفلحوا ونجحوا. ثم هم اليوم يطمعون للرجوع إليكم لفائدة وعظمة الوطن المشترك العام، بما أحرزوه من مال وما اكتسبوه من خبرة وعرفان[ii].”
ونعرف الآن أن هذا البيان كتب وصدر بضغط شديد من «حاييم وايزمان»[iii] رئيس المنظمة الصهيونية العالمية واستجاب المحفل المصري وأرسل البيان إلى أهل فلسطين، ثم وصل أمره إلى الصحف المصرية وقامت القيامة، لكن المفاجأة كانت في أن بعض الماسون اعترضوا على هذا البيان، وتساءل «ماسوني متألم» في جريدة ماسونية.. كيف يتسنى لجمعية تزعم أنها خيرية ورفضت الدخول في المسألة الوطنية المصرية بدعوى أنه لا شأن لها بالسياسة ثم تصدر هذا البيان وتوجه ذلك النداء؟
أيًّا كان الأمر فإن هذا النداء أصاب الكثيرين بالشك في الماسونية المصرية وصار هناك اتهام معلق بأنها تعمل لصالح الصهيونية أو مخترقة منها وعند البعض صارت الماسونية تساوي الصهيونية والعدوان على فلسطين.
علاقة سيد قطب بالماسونية ظهرت قبل أن يدخل جماعة الإخوان وقبل حتى أن يقترب منها.. والمشكلة أننا لا نستطيع أن نضع أيدينا على تاريخ انضمامه إلى الماسونية ولا متى تركها؟ إن كان قد تركها، ولكن هناك بعض مؤشرات عامة يمكن الوقوف عندها، منها إشارة محمد الغزالي في كتابه «من معالم الحق في كفاحنا الإسلامي الحديث»، حيث أشار فيه إلى أن الماسونية اخترقت جماعة الإخوان بعد عهد حسن البنا، وأن المرشد الثاني حسن الهضيبي كان ماسونيًّا، وأن الهضيبي أدخل عددًا من الماسون إلى الجماعة ونلاحظ أن أبرز من ضمهم الهضيبي إلى الجماعة كان سيد قطب، وكان ذلك في العام 1953، إشارة الغزالي تشي بأن قطب كان لا يزال ماسونيًّا حتى انضمامه للجماعة، وقد تمسك الغزالي بهذا الرأي حتى صدور الطبعة الثانية من كتابه سنة 1963، وهذا يعني أنه لم يكن قد طرأ أي تغيير على الموقف الذي عبر عنه في كتابه، حين صدرت طبعته الأولى[1].
محمد الغزالي كان أول من أشار إلى ماسونية سيد قطب، كما أكد الباحث وائل إبراهيم الدسوقي في دراسته المتميزة عن الماسونية في مصر وجود اسم سيد قطب ضمن أعضاء المحفل الماسوني[iv].
على أن شهادة محمد الغزالي تستوجب التوقف والتساؤل.. تقول الشهادة بالنص:
“استقدمت الجماعة رجلًا غريبًا عنها ليتولى قيادتها وأكاد أوقن بأن من وراء هذا الاستقدام أصابع هيئات سرية عالمية أرادت تدويخ النشاط الإسلامي الوليد فتسللت من خلال الثغرات المفتوحة في كيان جماعة هذا حالها وصنعت ما صنعت، ولقد سمعنا كلامًا كثيرًا عن انتساب عدد من الماسون بينهم الأستاذ حسن الهضيبي نفسه لجماعة الإخوان ولكني لا أعرف بالضبط كيف استطاعت هذه الهيئات الكافرة بالإسلام أن تخنق جماعة كبيرة على النحو الذي فعلته، وربما كشف المستقبل أسرار هذه المأساة.”
كان الغزالي حانقًا بشدة على حسن الهضيبي ومن استقدمهم معه إلى الجماعة، خاصة سيد قطب، واعتبر وجودهم بالجماعة، فضلًا عن تولي أمرها مؤامرة كبرى «هيئات سرية عالمية»، وما يثير التساؤل: هل كان دور ما أسماه الغزالي «هيئات سرية عالمية» طارئًا على الجماعة أم كان مرتبطًا بها منذ النشأة؟ المؤشرات تذهب بنا إلى الارتباط الوثيق بين الجماعة منذ التأسيس وتلك الهيئات السرية العالمية، بدءًا من مبلغ الخمسمائة جنيه التي تبرع بها رئيس مجلس إدارة شركة قناة السويس إلى حسن البنا سنة 1930 التي أقام بها أسس الجماعة، لم تكن شركة القناة شركة خيرة ولا مهتمة بالشأن الإسلامي، كانت شركة استعمارية بامتياز، امتدت أصابعها داخل مصر والبلاد المحيطة بها، ولم يجد حسن البنا غضاضة في أن يتعامل معها، وقد احتج عليه بعض إخوانه بسبب ذلك التصرف، وكما روى في مذكراته، لم يكن لديه أي استعداد للتراجع، وقال لهم إن كانت الشركة وفق ما يرونه ويراه المصريون فيها، فإنه قد حصل منها على بعض أموالنا، ولم يتوقف إخوانه يومها ليسألوه: ولماذا هو من دون المصريين جميعًا الذي تتعامل معه الشركة بهذا الكرم الحاتمي؟.. هل كان كرمًا فقط أم شراء، والمساهمة في تأسيس جماعة ورجل يهمهم ويخدم مصالحهم أن يكون موجودًا؟
لم يكن محمد الغزالي وحده في ذلك، بل إن سيد قطب نفسه، لديه رأي مشابه، نقله عنه تلميذه وعضو تنظيم 1965، علي عشماوي. يذكر عشماوي نصًّا في مذكراته:
“وكان مما قاله أن الأستاذ البنا كان يعلم أن الجماعة مستهدفة من الخارج من القوى المعادية للإسلام وأنهم أدخلوا إلى الجماعة بعض أعضائهم، أو جندوا من داخل الجماعة أفرادًا يعملون لصالحهم، على سبيل المثال ذكر أن الدكتور محمد خميس حميدة كان ماسونيًّا بدرجة عالية من الماسونية وقد وصل إلى أن أصبح وكيل عام الجماعة وأن الحاج حلمي المنياوي كان ممثلًا للمخابرات الإنجليزية داخل الجماعة[v].”
وطبقًا لرأي سيد قطب فإن الجماعة كانت مخترقة من الداخل، بزرع أعضاء فيها أو تجنيد أعضاء من داخلها، وهذا يعني أن الجماعة كانت مفتوحة للاختراق من جميع الجهات، لكن ما يضيفه سيد قطب إلى شهادته ويعد جديدا عليه، أن ذلك تم في عهد حسن البنا وأنه كان يعلم ذلك، فما بالنا بما تم بعد اغتياله؟
وإذا كان سيد قطب تحدث عن أن وكيل الجماعة كان «ماسونيًّا بدرجة عالية من الماسونية» فهل يمنع ذلك أن يكون المرشد نفسه ماسونيًّا أو مخترقًا من جهاز مخابرات أجنبي؟ وإذا كان هذا ما يعرفه سيد قطب، فماذا عما يجهله ولا يعرفه هو؟!
كان الطابع «السري العالمي» لصيقًا بالجماعة منذ نشأتها الأولى، إلى الحد أن الغزالي وعددا آخر من «الكبار» تصوروا أن الهضيبي رجل غريب على الجماعة، هو لم يكن كذلك، كانت علاقته قديمة بالجماعة، وعبر حسن البنا نفسه، بايع الهضيبي حسن البنا سنة 1943 وظل أمره مجهولًا داخل الجماعة، جاء في مجال التأريخ للهضيبي ما يلي:
“لقد كان هذا الخفاء أمرًا متفقًا عليه بين الإمام الشهيد حسن البنا والهضيبي الصديق من أول لحظة انعقدت فيها البيعة. وكان مرد هذا الاتفاق إلى طبيعة التواضع وحب العمل في خفاء من جانب الهضيبي وإلى الرغبة في أن يكون للدعوة جنود وأنصار غير ظاهرين من جانب حسن البنا، وإلى ما يحظره القانون المصري على رجال القضاء من الانتساب إلى الهيئات والجماعات التي تشتغل بالسياسة[vi].”
هذا يعني أن حسن البنا هو الذي ضم الهضيبي إلى الجماعة، وأن طابع الخفاء والسرية وافق هوى كل منهما، لكن لا بد من القول إن حب العمل في خفاء الذي اتسم به الهضيبي هو أحد أبرز شروط «الأخ الماسوني» وقواعد التربية الماسونية، ومن جانب البنا فإن الرغبة في وجود أنصار غير ظاهرين، يعد ملمحًا ماسونيًّا في عمل الجماعة كما أرادها هو، وفي تلك الفترة كان البنا أسس التنظيم الخاص، وبات معروفًا أن نمط البيعة الخاصة لهذا التنظيم، كانت قريبة الشبه إلى حد بعيد بالقسم والولاء في المحافل الماسونية، حيث الدخول في غرفة مظلمة، ليبايع رجلًا منقبًا تمامًا وتكون البيعة على المصحف والمسدس، هكذا كانت البيعة في المحفل الماسوني[2]، غرفة مظلمة ووجوه مغطاة ومتنكرة تمامًا والمسدس موجود أيضًا. وقد ذكر عبد العزيز كامل في مذكراته أن البنا أسس التنظيم الخاص على الطريقة الماسونية، وقد ارتكب هذا التنظيم من الجرائم والعمليات الإرهابية الكثير والكثير، ولا يتسع المجال هنا لذكر هذه الجرائم وصدى ارتباط بعضها مع الأهداف الصهيونية في الأربعينيات.
اختير الماسوني حسن الهضيبي وهو كذلك عضو الجماعة، وإحدى خلاياها النائمة، مرشدًا عامًّا للجماعة، واختار ذلك المرشد زميله سيد قطب ووضعه بالصفوف الأولى للجماعة، متجاوزًا التراتب المعمول به داخلها، وكلفه بمهمات خاصة، أرسله إلى سوريا ولبنان في بعض المهام وفي الاحتفال بالمولد النبوي الشريف بمدينة المنصورة - سبتمبر 1953 - أشاد به الهضيبي وتحدث عنه بتعبير «الزميل سيد قطب» وهو تعبير غريب عن اللهجة الإخوانية، التي تعتمد مفردة ومصطلح «الأخ»، ترى هل كان ذلك تعبيرًا عن الزمالة القديمة في المحفل الماسوني؟!
وإذا كان انتماء حسن الهضيبي للماسونية وكذلك للإخوان غامضًا وسريًّا فإن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة لسيد قطب، فهو كاتب، والكاتب لا يمكن له أن يكون سريًّا ولا مختبئًا، الكاتب تكشفه كلماته وتعلن عنه وإن شئنا الدقة تفضحه، قال أحمد شوقي يومًا: «الصب تفضحه عيونه»، وكذلك الكاتب تفضحه كلماته ومقالاته، إنها تكشف أفكاره، بل وما وراء الأفكار، وهذا ما حدث مع سيد قطب.
ومن بين المجلات الكثيرة التي عمل بها وكتب لها سيد قطب، هناك مجلة «التاج المصري»، لم يذكرها ولا حتى أشار إليها كل الذين تناولوا حياة سيد قطب بالبحث والدراسة، توقفوا عند معظم المجلات وحاولوا تحليل رسالة ودور كل مجلة، إلا «التاج المصري»، ولا أتهمهم بالتجاهل العمدي، فلم يخطر ببال أحدهم أن يكون سيد قطب، الذي نسجت حوله الأساطير، ماسونيًّا، وليس ماسونيًّا عاديًّا بل من كبار الماسون في مصر، وهذا ما تثبته مجلة «التاج المصري».
«التاج المصري» هكذا عنوانها وأسفل العنوان مباشرة «لسان حال المحفل الأكبر الوطني المصري»، ورئيس التحرير: فتح الله أحمد المتولي المحامي، وسوف نجد اسمه كاملًا على سطر وأسفله على سطر آخر صفة «المحامي» وأسفل هذه الكلمة الجملة التالية: يشترك في تحريرها نخبة من كبار الماسون، أي أن الذين يقومون ويشتركون في تحريرها ليسوا من الماسون العاديين، بل هم من كبار الماسون، كانت المجلة تصدر كل 15 يومًا تقريبًا، وكانت تصدر منذ سنة 1938، وفي سنة 1943، كان سيد قطب يكتب المقال الافتتاحي للمجلة، وكان يوقعه باسم «سيد» فقط، وكان دأب من يكتب المقال الافتتاحي أن يوقعه باسمه الأول فقط، وليس باسمه كاملًا، ومن ثنايا الأخبار التي تنشر في العدد، بعد المقال الافتتاحي نعرف اسم الكاتب كاملًا، مثلًا كان يكتب في هذه المجلة زكي مبارك، ورغم أنه في المجلات الأخرى كان مغرمًا أن يسبق اسمه بلقب الدكاترة زكي مبارك، نجد هنا أنه يوقعه باسم «زكي» فقط، وعرفنا ذلك من الأخبار التي تلت المقال الافتتاحي، يبدو أن السرية لدى الماسون، كانت عنصرًا حاكمًا، والأهم في هذه المجلة هو الأخبار التي كانت تنشرها حول أعضاء المحفل، لندرك أنهم كانوا يسيطرون على مفاصل الدولة وأن كبار شخصيات الدولة كانوا أعضاء بالمحفل.
في عدد الجمعة 23 أبريل سنة 1943، كان المقال الافتتاحي الذي كتبه سيد بعنوان: «لماذا صرت ماسونيًّا؟»، طرح فيه السؤال على نفسه وحاول الإجابة:
“السؤال سهل ميسور والجواب من القلب إلى القلب.. فعرفت عندئذ أنني صرت ماسونيًّا لأني أحسست أن في الماسونية بلسمًا لجراح الإنسانية، طرقت أبواب الماسونية لأغذي الروح الظمأى بالمزيد من الفلسفة والحكمة، ولأقتبس من النور شعلة بل شعلات تضيء لي طريق الحياة المظلم، ولأستمد قوة أحطم بها ما في الطريق من عراقيل وأشواك، ثم لكي أكون مجاهدًا مع المجاهدين وعاملًا مع العاملين.
لقد صرت ماسونيًّا - لأنني كنت ماسونيًّا - ولكن في حاجة إلى صقل وتهذيب - فاخترت هذا الطريق السوي، لأترك ليد البناية الحرة مهمة التهذيب والصقل - فنعمت اليد ونعم البنائين الأحرار (...) ليس الماسوني من أجريت له المراسيم بذلك - واكتسب هذه الصفة عن هذا الطريق - وإنما الماسوني من يعمل ولكن في صمت دون ضجة أو إعلان، هو من يفتح قلبه للجميع يتساوى لديه في ذلك الصغير والكبير (...) هو من يعمل الواجب لأنه واجب والخير لدواعي الخير، دون أن يبغي من وراء ذلك جزاء أو يطمح لنيل مطمح، هو من ليس له حق وإنما عليه واجب.”
ويحاول أن يقدم تعريفًا خاصًّا للماسونية على هذا النحو:
“الماسونية هي التي تجمع بين مختلف الأديان، ولا تعرف للتخريب معنى، ولن تجد كلمة التعصب مكانًا في قاموسها، هي التعويذة السحرية التي تؤلف بين القلوب جميعها في أقاصي الشرق أو أدنى الغرب، هي المكان الوحيد الذي يستطيع فيه الجميع - الصغير منهم والكبير أن يتصافحوا مصافحة الأخ لأخيه، ويجلسوا جنبًا إلى جنب دون نظر إلى فارق اجتماعي أو مركز أدبي، ولا غرو في ذلك إذ إن دعائمها وأسسها مشيدة على الحرية والإخاء والمساواة، فما أعظمها من دعائم وما أقواها من أسس وما أنبلها وأسماها من مبادئ.”
يقدم سيد في المقال نفسه تعريفًا آخر ربما ينسف ذلك التعريف الذي يجعلها قائمة على مبادئ الثورة الفرنسية: الحرية والإخاء والمساواة، يقول:
“عرفت أن الماسونية ليست مبدأ أو مذهبًا يعتنقه، وإنما هي الرجولة والإنسانية التي تدفع بالإنسان إلى عمل الخير دون وازع إلا وازع من وجدانه وضميره، هي روح عالية نبيلة تسمو بالإنسان عن الصغائر وتنـزهه عن السفاسف، هي المثل الأعلى لكل من ينشد كمالًا أو يبغي رفعة ومجدًا، هي الفضيلة التي تنطوي على أسمى المعاني وأشرف المقاصد وأنبلها، هي مبدأ الكمال ومنتهاه.”
على هذا النحو يمضي المقال، ولم نجد أحدًا كتب عن الماسونية بهذا الانبهار أو الإعجاب المبالغ فيه، من قبل كتب الشاعر أحمد زكي أبو شادي كتابين عن الماسونية، وكان ماسونيًّا في محفل بورسعيد، وكان مؤمنًا بحق بالماسونية، ورغم ذلك لم يكتب بمثل هذا الانبهار الساذج أو البريء.
بقية مقالات سيد قطب في «التاج المصري» دارت في المجال الأخلاقي والإنساني العام، وهناك مقالات تدخل في المجال السياسي، ولم يكن معنيًّا فيها بالشأن المصري، لكن بأجواء الحرب العالمية الثانية في العالم، وكانت الحرب وقتها على أشدها، وجاءت مقالاته متوافقة مع معسكر الحلفاء، لذا راح يبشر بانتصارهم ويدافع عنهم، مهاجمًا ألمانيا النازية وروما الفاشية، ورغم أن سيد هاجم الشيوعية والاتحاد السوفيتي فيما بعد هجومًا حادًّا، لكنه آنذاك كان يشيد بروسيا، التي كان يحكمها ستالين، وصمودها في الحرب، كانت روسيا، حليفة لدول الغرب الرأسمالي ضد ألمانيا النازية، وكان ستالين موضع إشادة صحف الغرب وتقدير تشرشل تحديدًا.
من بين هذه المقالات تلك التي نشرت في عدد الجمعة 16 يوليو سنة 1943 بعنوان «النصر للديمقراطية»، تناول فيها تواصل القتال والمعارك، ويقول:
“هاهي الأصداء تتجاوب بأنباء استئناف الكفاح وها هي ذي الصحف تطالعنا صباح مساء بما دار وجرى، وفيه ما يطمئن النفوس ويبعث فيها الأمل قويًّا، أمل حلو بسام في أن تكلل جهود الديمقراطية والعاملين لنصرتها بباقة بل بباقات من الفوز والنصر المبين.”
ويهاجم أعداء الديمقراطية مستنكرًا موقفهم:
“لا أدري بم أسمي تلك الفئة التي تناهض الحرية محاولة أن تقف حجر عثرة في طريق الديمقراطية، بل إن تلك الشرذمة لتذهب إلى أبعد من هذا وذاك فتدعي - من غير حياء أو خجل - أن بغيتها وجل مقصدها ومأربها تحرير العالم من ربقة الاستعباد ونصرة الضعيف وإعطاء كل ذي حق حقه.”
ثم يواصل هجومه عليهم وسخريته منهم:
“ألا كبرت كلمة تخرج من أفواههم، فهم يحاولون بهذا تضليل عقول الأبرياء والمساكين وحسبوا أن سمومهم التي ينفثونها بين الحين والحين، قد سرت في الشرايين من الأوصال، فآمنوا برسالتهم وصدقوا دعايتهم، ولكن ها قد تكشفت الحقيقة وبدت سافرة ناصعة للعيان، ووضح الحق لكل ذي عينين. نعرف أن هذه الدعاية السمجة الممجوجة إنما تنهض على غير أساس وإنما هي من نسج خيال كاذب واختراع عقل منافق فاجر..”
ورغم هذه الدعاية وذلك الكذب فإنه يرى أن النصر والمجد للديمقراطية:
“وليس من شك في أن الله سيكتب النصر للديمقراطية، والنصر العظيم، ولأعداء الحرية الحزن المبين والله لا يضيع أجر العاملين.”
ثم يقول كذلك:
“لم يخل العالم منذ نشأته من الحروب وشن الغارات ولم تهدأ في أية حقبة من حقبات التاريخ عوامل الطغيان والاستبداد. ولكن علمتنا الحوادث والأيام أن دولة الظلم ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة.”
في مقال سابق حمل نفس المعنى، مساندة الحلفاء والتهكم على خصومهم، ولكن بأسلوب أوضح، نشر في عدد 14 مايو سنة 1943، جاء في المقال:
“لقد طغى الألمان وبغوا حتى تجاسروا على انتهاك حرمة الصحراء والعبث بقدسيتها فألقت عليهم الصحراء الأمينة الوفية بالعهد - درسًا بل دروسًا قاسية مريرة الطعم لاذعة المذاق، وتحت شمسها الوهاجة وعلى رمالها الملساء وقف حلفاؤنا الأعزاء يذودون عن العرين فكان لهم النصر المبين بقوة الحق واليقين.”
يتحدث هو - هنا - عما جرى في الصحراء الغربية على حدود مصر وليبيا، فيما عرف بمعركة العلمين، لكن لاحظ قوله «حلفاؤنا»، والمقصود القوات البريطانية بقيادة مونتجمري، التي هزمت قوات روميل، لم يكن أحد في مصر وقتها يستعمل تعبير «حلفاؤنا» باستثناء مجموعة المرتبطين بالإنجليز وبالاحتلال البريطاني، دافع عباس العقاد وقتها عن الحرية والديمقراطية، وهاجم النازية وهتلر هجومًا حادًّا، لكنه لم يدافع عمن سماهم سيد «حلفاؤنا» ولا استعمل مثل هذا التعبير.
ويذهب سيد إلى أبعد من ذلك قائلًا:
“فهنيئًا للمجاهدين من إخواننا الإنجليز والأمريكيين هذا النصر المبين وقل سيروا على بركة الله فقد هان الأمر وبدت تباشير الفوز والله معكم.”
لم يطلق عليهم مصطلح المجاهدين فقط، بل رفعهم إلى درجة أسمى، هي درجة الرسالة، يقول:
“لقد جاء الحق وزهق الباطل. بل قل لقد انتصر الحق وزهق الغادر وبدت أعلام النصر ترفرف في زهو وفخار، وخلت الصحراء إلا من رجالها البررة الأوفياء. فقد استطاع رجال الحق ورسل الديمقراطية أن يردوا كيد الكائدين إلى نحورهم ويقذفوا بأبالسة الحرب وأعداء السلم والإنسانية من حالق ليجدوا أنفسهم وقد علت وجوههم قترة وامتلأت قلوبهم كمدًا وحسرة وباءوا بالفشل والحزن المبين. وهكذا مصير الظلم والظالمين”.
سوف نلاحظ في هذا المقال وغيره أن لغة سيد الأدبية تختلط ببعض الألفاظ والمصطلحات التراثية، فضلًا عن بعض الكلمات القرآنية، ولا غرابة ففي تلك الفترة كان سيد وضع كتابه عن «التصوير الفني في القرآن».
غير أننا هنا نجد أنه يدافع عن الديمقراطية والحرية بروح دينية ورسالية، فقد اعتبر الإنجليز والأمريكيين «المجاهدين»، وهم «رسل الديمقراطية».. «رجال الحق»، والأهم من ذلك هو تماهيه التام معهم - فيسميهم - «حلفاؤنا» وأيضًا «إخواننا»، ويدعو لهم «الله معكم».
كانت المجلة وكانت المحافل الماسونية في مصر مع الحلفاء في الحرب قلبًا وقالبًا، وكان المحفل الأكبر الوطني المصري، الذي تعبر عنه مجلة «التاج المصري» قد أخذ موقفًا حادًّا من قبل تجاه ألمانيا بسبب موقفها المأساوي من اليهود وما يتعرضون له، وأعلن ذلك الموقف بوضوح، حتى قبل نشوب الحرب العالمية الثانية، التي وقعت خلالها، محارق اليهود أو «الهولوكست».
هذه المقالات وتلك الروح الماسونية أو الحماس الماسوني من جانب سيد، يمكن أن يساعدنا في فك ألغاز البعثة التي ستجيء له إلى الولايات المتحدة سنة 1948.
لولا هذه المقالات ما عرفنا أن سيد قطب كان ماسونيًّا من «كبار الماسون» بوصف مجلة «التاج المصري»، لكن متى التحق بالماسونية؟ لم يذكر هو ذلك، ولا ورد بالمجلة، وإلى متى ظل ماسونيًّا؟ لا نعرف بالضبط، غير أن هناك رأيًا بأن الماسوني لا يمكن أن يتحول عن ماسونيته أو يخرج منها، وطبقًا لهذا الرأي كان من يخرج على الماسونية يعامل معاملة المنشق الخارج عن السرب ويتعرض لأذى شديد قد يصل حد الموت، لكن المؤكد أن سيد قطب في مرحلته الأخيرة خرج تمامًا على الأفكار التي بشر بها في مقالاته بالتاج المصري، وصار معاديًا لتلك الأفكار تمامًا، مثل الديمقراطية والحرية وغيرها، ومن المهم هنا أن نضع عدة ملاحظات، في مقدمتها أن سيد قطب كان يجمع مقالاته في كتبه أو يضمنها هذه الكتب، وفي العادة كان يشير إلى ذلك في صفحات الكتاب وهوامشه، مثل كتابه «معركة الإسلام والرأسمالية»، لكننا نجد أنه نشر كتابه «الأطياف الأربعة» في مجلة «التاج المصري»، ولما صدر الكتاب، لم يشر في أي من صفحاته إلى أنه نشر من قبل في مجلة المحفل الماسوني، والأمر المؤكد أن ذلك لم يقع منه سهوًا، بل كان مقصودًا، فلماذا تعمد أن يخفي على قارئ الكتاب صلته بالماسونية؟
وقد نفهم أنه منذ انضمامه لجماعة الإخوان المسلمين سنة 1953، صار معاديًا للأفكار التي طرحها في التاج، ومن ثم لم يكن محببًا أن يشير إليها، ولم تكن صفحته الإخوانية مع حسن الهضيبي واتهامهما معًا بالماسونية تحتمل إشارة من هذا النوع، خاصة أن عددًا من قدامى الإخوان أخذوا على حسن الهضيبي الدفع بسيد قطب إلى مقدمة الصفوف رغم عدم سابقته بالجماعة، ومن ثم فإن تذكير أعضاء الجماعة بماسونيته سوف يزيد الأمر سوءًا بالنسبة له، لكن ماذا عن السنوات السابقة على التحاقه بجماعة الإخوان؟
في الواقع ليست مقالاته الماسونية فقط التي تجاهلها، لكنه تجاهل كذلك مقالاته في مديح الضباط الأحرار، بعد 23 يوليو 1952، والتي انطلق يدبجها بعد أقل من أسبوع من تحرك الضباط الأحرار، وكان متحمسًا لهم، مثل حماسه الماسوني بالضبط وربما أكثر حيث اعتبر بطولاتهم تفوق بطولات مطالع النبوات.
لعن سيد قطب الجميع، في رحلته الأخيرة، وندد بالأفكار التي دافع عنها من قبل، مثل الديمقراطية والحرية التي يتبناها «حلفاؤنا»، وكان قاسيًا وحادًّا في هجومه على حلفاء الأمس، هاجم الأفكار والنظريات والتوجهات الغربية كلها، غير أن الماسونية ظلت بمنأى عن هجومه، صار الغرب عنده تعبيرًا عن الصليبية العالمية وروسيا التي كانت رمزًا للصمود وللصبر في مرحلته الماسونية، وحين كان يحكمها ستالين بكل بطشه، أصبحت معقل الكفر والإلحاد، وصارت الشيوعية هي الوجه الآخر للرأسمالية، وكل من النظريتين لديه مجرد فلسفة مادية ومعادية للإسلام تحديدًا، وللأديان عمومًا، وقيمها الروحية، بينما نراه يلزم الصمت التام عن الماسونية، حتى وهو في السجن، فقد كان يكتب من داخل السجن، وأصدر عدة كتب لم يهاجم في أي منها الماسونية، وبقي الحال على هذا النحو حتى خرج من السجن سنة 1964 حيث أصدر طبعة جديدة من كتاب «العدالة الاجتماعية في الإسلام» قام فيها بإجراء بعض التعديلات، حذفًا وإضافة، ومن بين الإضافة، هامش صغير في الفصل الأول من الكتاب، كان يتحدث في متن الكتاب عن سبب ما أطلق عليه «العداء الجاهر الصريح بين الشيوعية والدين»، عند هذه الجملة أضاف في الهامش ما يلي:
“لا ينبغي أن ننسى - مع ذلك - أن الشيوعية مؤسسة يهودية كالماسونية، وأن أولى ركائز الخطة اليهودية في تدمير العالم - غير اليهودي - هو سلب الدين منه وإبعاده عن هذا المقوم الأساسي للحياة[vii].”
ولا نعرف متى توصل إلى هذا الاكتشاف، هل وهو داخل السجن أم بعد خروجه من السجن؟ وهل يعني ذلك انخلاعه التام من الماسونية أم أنها حالة من التقية بعد أن تم حل المحافل الماسونية واتهامها من كبار المثقفين والكتاب، فضلًا عن عدد من كبار علماء الأزهر بأنها كانت مجرد أبواق صهيونية وتعمل لصالح إسرائيل.
لو أن لديه موقفًا عدائيًّا من الماسونية ولو أنه تركها نهائيًّا لكتب عنها باستفاضة في متن الكتاب، وتولى الأمر بالشرح والتفصيل، وهو كانت لديه رغبة في الاستطرادات المطولة، هو هنا لم يفعل ذلك، هل بسبب أنه ليس لديه ما يقوله أو أن لديه ولكنه تخوف - منهم - إن هاجمهم فيبادر أحد منهم بفضح علاقته بهم وما كان منه معهم وما فعلوه تجاهه؟
الموضوع غامض وشائك، خاصة أن بعض أفراد الماسون في مصر سارعوا إلى مهاجمة الماسونية بعد قرار حلها سنة 1964، وبعضهم تبرأ منها، ويمكن أن نفهم ذلك على أنه استباق للأحداث وربما الخوف من إمكانية ملاحقتهم أمنيًّا من الدولة.. بالتأكيد لم يكن سيد قطب يتخوف من الملاحقة الأمنية فقد كان خارجًا لتوه من السجن بعفو من الرئيس جمال عبد الناصر، وحتى لو لاحقت أجهزة الأمن بعض قيادات الماسونية - وهو ما لم يحدث - فلم تكن لتلاحقه لأن صلته عمليًّا كانت منقطعة بهم منذ دخوله السجن، لكن يبقى الفضح الإعلامي، هل هذا ما تخوف منه وحاول اتقاءه أم أنه راجع أفكاره نهائيًّا تجاه الماسونية؟
هو لم يتحدث في الأمر قَطُّ، وتكتم ارتباطه بالمحفل الماسوني طيلة حياته، وحتى حينما أشار الغزالي إليه في كتابه لم يحاول الرد عليه، وعمومًا هو لم يكن يرد على من ينتقده ويهاجمه، كان يلزم الصمت، وقد رأينا ذلك حين انتقد د. شوقي ضيف كتابه عن النقد الأدبي واتهمه بالنقل عن كتب أخرى، أي السرقة العلمية، ولا حاول الرد على محمود شاكر حين وبَّخه بسبب تهجمه على الصحابة.
وإذا كان هو لم يتكلم عن هذا الأمر، فاللافت أن شقيقه محمد قطب (توفي سنة 2013) لم يذكر أي شيء عن هذه المرحلة، رغم أنه تحدث إلى كثير من الباحثين مثل صلاح الخالدي عن تفاصيل حياة شقيقه سيد، وكان المصدر المعتمد لدى الكثيرين حول أسرار شقيقه، وساهم محمد مساهمة كبيرة في ترويج الكثير من أساطير الإعجاب حول سيد.
هو لم يتحدث عن الأمر ولم يتحدث شقيقه، أما ملفات المحفل الماسوني وأرشيفه فقد اختفت نهائيًّا ولا نعرف أين هي ولا من أخفاها، إن كان قد تم إخفاؤها عمدًا، وعلينا أن ننتظر ربما تظهر هذه الملفات يومًا في مكان ما، هنا أو هناك. وساعتها يمكن أن نتحدث أكثر وباستفاضة أعمق عن ماسونية سيد قطب، متى كانت البداية وماذا حدث خلال علاقته بالمحفل وكيف انتهت هذه العلاقة ولماذا هاجمهم على استحياء سنة 1964؟!




[1] صدرت طبعة هذا الكتاب قبل وفاة الشيخ الغزالي مباشرة، وحذف منها الفقرة التي تحدثت عن اختراق الماسونية للجماعة، ولما راجعه ثروت الخرباوي في ذلك أجابه بأنه ما زال على رأيه، لكنه حذف الفقرة لأن الإخوان هم الذين قاموا بنشر الكتاب.
[2] أوجه الشبه عديدة بين الماسونية وجماعة الإخوان، ويستحق الأمر نقاشًا ودراسة خاصة، لا يحتملها هذا الفصل.



[i] علي شلش، «الماسونية في مصر»، ص 42؛ أيضًا: وائل إبراهيم الدسوقي، «الماسونية والماسون في مصر: 1798-1964» (انظر أدناه).
[ii] نص البيان في علي شلش، المرجع السابق، ص 129-133.
[iii] المرجع السابق، ص 95.
[iv] أعد وائل إبراهيم الدسوقي رسالته للماجستير عن الماسونية في مصر في قسم التاريخ بكلية الآداب عين شمس، تحت إشراف أحمد زكريا الشلق، وكانت الرسالة من قبل تحت إشراف أحمد عبد الرحيم مصطفى، الذي وافته المنية أثناء إعداد الرسالة، وشارك في مناقشتها سنة 2005 عبد الخالق لاشين، وكان رئيس لجنة المناقشة، وأجيزت الرسالة بامتياز. وقد نشرت عام 2008 بعنوان «الماسونية والماسون في مصر: 1798-1964».
[v] «التاريخ السري لجماعة الإخوان المسلمين: مذكرات علي عشماوي»: ص 81.
[vi] «الإسلام والداعية: الإمام المرشد حسن الهضيبي»، جمعه وقدم له أسعد سيد أحمد، ص 12.
[vii] راجع الهامش في صفحة 11 من «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، طبعة دار الشروق، 2002.

No comments:

Post a Comment