16 October 2016

لودميلا أوليتسكايا: صونيتشكا



لودميلا أوليتسكايا

صونيتشكا

ترجمها عن الروسية
عياد عيد



منذ الطفولة المبكرة، وما إن تخطت «صونيتشكا» أعوامها الأولى، حتى غرقت في القراءة، وكان متندرُ المنزل - شقيقها الأكبر «إيفريم» - يُردد باستمرار الدعابة نفسها التي بدت قديمة الطراز مذ أطلقها:
- لقد اكتسبت مؤخرة «صونيتشكا» شكل الكرسي بسبب قراءتها التي لا تنتهي، واكتسب أنفها شكل الإجاصة.
لم يكن - يا للأسف - ثمة أي مبالغة في دعابته، فأنفها فعلًا مُبهم الخطوط وأشبه بالإجاصة، أما «صونيتشكا» نفسها فكانت طويلة القامة نحيلتها، وعريضة المنكبين، وذات ساقين جافتين ومؤخرة ضامرة لكثرة الجلوس، ولم يكن لديها من المفاتن سوى نهديها الكبيرين كنهود القرويات، واللذين نموَا مبكرًا، وعلى نحو لا يتناسب مع جسدها النحيف. انحنى كتفاها واحدودب ظهرها، وكانت ترتدي أثوابًا طويلة فضفاضة لخجلها من الثروة التي لا طائل منها في الأمام، والتسطُّح المقيت في الخلف.
شقيقتها الكبرى المتعاطفة معها، والمتزوجة منذ زمن طويل، تحدثت بشهامة عن شيء من الجمال في عينيها، لكن عينيها كانتا عاديتين، وغير كبيرتين، وعسليتين. صحيح أن رموشها الكثيفة كثافة نادرة قد نمت في ثلاثة صفوف، جاذبة إلى الأسفل حافة جفنها المتورِّم قليلًا، لكن لم يكن ثمة جمال خاص في هذا أيضًا، لا بل كان في الغالب مُزعجًا، لأن «صونيتشكا» حسيرة النظر، وتضع نظارات على عينيها منذ الصغر.
ظلت «صونيتشكا» تقرأ بلا انقطاع عشرين عامًا بالتمام والكمال، منذ السابعة من عمرها حتى صارت في السابعة والعشرين. وكانت تغرق في القراءة كمن تصاب بغيبوبة فلا تستفيق منها إلا مع آخر صفحة من الكتاب.
امتلكت موهبة عجيبة في القراءة، أو ربما عبقرية من نوع خاص، وكان ولعها بالكلمة المطبوعة عظيمًا إلى حد أن الأبطال المتخيلين كانوا عندها في صف واحد مع مقربيها الأحياء، فكانت في نظرها عذاباتُ «نتاشا روستوفا» النقية قُرب سرير الأمير المحتضر «أندريه» مساوية بصدقها للمصيبة الأليمة التي لحقت بشقيقتها حين فقدت ابنتها ذات الأعوام الأربعة بسبب إهمالها الغبي، حيث راحت تُثرثر مع جارتها ولم تلحظ كيف سقطت طفلتها السمينة الخرقاء ذات العينين الناعستين في البئر.
ما هذا؟ - أهو عدم فهم تام للعبة التي يبنى عليها أي عمل فني، وسرعة تصديق مذهلة من طفلة لم يكتمل نموها بعد، وانعدام مخيلة يؤدي إلى تحطيم الحدود بين الوهمي والواقعي؟ أم أنه - على العكس من ذلك - ابتعاد منكر للذات إلى منطقة المتخيل، يجعل كل ما هو واقع خارج حدوده بلا معنى وبلا محتوى؟
لم تكن قراءة «صونيتشكا»، التي تحوَّلت إلى شكل خفيف من أشكال الجنون، تفارقها حتى في أثناء نومها، فكانت بطريقة ما تقرأ مناماتها أيضًا. راودتها في أحلامها روايات تاريخية مشوقة، وكانت تُخمن من طبيعة أحداثها نوع خط الكتاب، وتشعر على نحو غريب بالفقرات والفواصل. أخذت هذه العزلة الداخلية المرتبطة بولعها المَرَضي تتعمق في منامها، فصارت تبرز هناك كبطلة مُطلقة، أو بطل مُطلق، على الحافة الضيقة بين إرادة الكاتب التي تعرفها سلفًا وسعيها الذاتي إلى الحركة والفعل والسلوك...
كانت «السياسة الاقتصادية الجديدة» تلفظ أنفاسها الأخيرة، فاضطر الأب، سليل الحداد المحلي من بيلاروسيا، والميكانيكيُّ بالفطرة والذي لا تنقصه المهارة العملية أيضًا، إلى أن يُغلق ورشة الساعات ويتغلب على نفوره العدواني المتأصِّل فيه من صناعة أي شيء في خطوط الإنتاج، والتحق بمصنع الساعات، على أن يروِّح عن نفسه في الأماسي بإصلاح الآليات الفريدة التي ابتكرها مَن سبقوه، ومن شتى الأمم، بأياديهم المفكرة.
أمها، التي تضع على رأسها شعرًا مُستعارًا تحت منديل نظيف أخرق ومزركش بدوائر كالبازلاء، ظلت حتى مماتها تخيط لجاراتها سرًّا، على آلة «السينجر»، الملابس القطنية البسيطة التي تتماشى مع زمن الفقر والضجيج ذاك، والذي انحصرت مخاوفه كلها لديها في اسم المفتش المالي المرعب.
أما «صونيتشكا»، وبعد أن تنهي دروسها كيفما اتفق، فكانت تتملَّص كل يوم وكل دقيقة من ضرورة العيش في أعوام الثلاثينيات المضطربة والصاخبة، لترعى روحها في رحاب الأدب الروسي العظيم، فتسقط تارة في الهاويات المقلقة لدى «دوستويفسكي» المريب، وتخرج تارة إلى ممرات «تورغينيف» الظليلة، وإلى البيوت الريفية المدفأة بالحب السخي واللامبدئي لدى «ليسكوف»، الكاتب من الصنف الثاني لسبب لا يعلمه أحد.
أنهت المعهد المتوسط في إدارة المكتبات، وصارت تعمل في مستودع الكتب في قبو المكتبة القديمة، وكانت واحدة من السُّعداء النادرين الذين يغادرون في نهاية يوم العمل القبو المغبر والخانق بألم خفيف ناجم عن انقطاع المتعة: فلم يكن يتسنى لها أن تشبع خلال اليوم لا من صفوف بطاقات الفهارس، ولا من ورقات الطلبات البيض التي كانت تأتي من صالة القراءة في الأعلى، ولا من الثقل الحي للمجلدات المتدلية من يديها النحيلتين.
ظلت أعوامًا كثيرة ترى في مهنة الكتابة نفسها عملًا مُقدَّسًا، وكان في نظرها الكاتب من الدرجة الثانية «بافلوف» بمعنى من المعاني في المستوى نفسه من الجدارة مع «بوسانياس» و«بالاماس» - على أساس أنهم شغلوا الصفحة نفسها في المعجم الموسوعي. لكنها تعلَّمت على مر السنين أن تميز بنفسها، في محيط الكتب الهائل، بين الأمواج الضخمة والأمواج الضحلة، وبين الضحلة وزبد الشاطئ الذي يملأ خزانات قسم الأدب المعاصر الزاهدة عن آخرها.
بعد أن عملت «صونيتشكا» عدة سنوات في مستودع الكتب مثل ناسكة مُنقطعة عن الدنيا، استسلمت لإلحاح رئيستها الشغوفة بالقراءة مثلها، وقررت الانتساب إلى الجامعة في قسم فقه اللغة الروسية. بدأت تتحضَّر على أساس برنامج كبير وأخرق، وكادت أن تتقدم للامتحانات، لكن كل شيء انهار وتبدَّل في غمضة عين، فقد بدأت الحرب.
ربما كان هذا هو الحدث الأول الذي أجبرها، خلال فترة شبابها كلها، على الخروج من ضباب القراءة المستمرة الذي كانت غارقة فيه. فقد أُجليت إلى مدينة «سفيردلوفسك» مع أبيها الذي كان يعمل في تلك السنين في ورشة لصناعة الأدوات، وسرعان ما وجدت نفسها هناك في المكان الأمين الوحيد - في قبو المكتبة...
لم يكن واضحًا إن كان هذا تقليدًا معششًا منذ قديم الزمان في موطننا - أن تحجَب لزامًا ثمار الروح الثمينة في الأقبية الباردة مثل ثمار الأرض - أم أنه لقاح وقائي للعقد اللاحق من حياة «صونيتشكا»، الذي عليها أن تقضيه مع الرجل الخارج تحديدًا من أقبية الحياة السرية، زوجها المستقبلي الذي ظهر لها في هذا العام الأول المظلم والصعب من نزوحها.
جاء «روبرت فيكتوروفيتش» إلى المكتبة في ذلك اليوم الذي حلَّت فيه «صونيتشكا» محل المديرة المريضة في تسليم الكتب. كان قصير القامة، ونحيلًا جدًّا، وأشيب الشعر، وما كان ليلفت انتباه «صونيا» لولا أنه سألها عن مكان فهرس الكتب باللغة الفرنسية. الكتب الفرنسية موجودة لكن فهرسها ضاع منذ زمن لعدم الحاجة إليه. وإذ لم يكن ثمة أحد من الزوَّار في تلك الساعة من المساء التي تسبق إغلاق المكتبة، فقد قادت «صونيتشكا» هذا القارئ غير العادي إلى القبو، إلى الركن الأوروبي الغربي البعيد.
وقف مصعوقًا مدة طويلة أمام الخزانة، حانيًا رأسه جانبًا، وبوجهٍ كوجه طفل مندهش لرؤية طبق من الفطائر، ووقفت «صونيتشكا» خلف ظهره، أطول منه بمقدار نصف الرأس، وقد تسمَّرت هي نفسها بسبب الاضطراب الذي انتقل إليها.
التفت نحوها، ولثم فجأة يدها النحيلة، وقال بصوت خفيض ومُرتجف كارتجاف نور مصباح أزرق من الطفولة المحمومة:
- يا للروعة... يا للفخامة... «مونتين»... «باسكال»...
ثم أضاف مُتنهدًا وهو لا يزال مُمسكًا بيدها:
- وبطبعات «الإلزيفيريين»...
تباهت «صونيا» المُتأثِّرة والمُتمكِّنة جيدًا من إدارة المكتبة:
- لدينا هنا تسعة من إصدارات «الإلزيفيريين».
نظر إليها نظرة غريبة من الأسفل إلى الأعلى، كما لو كان ينظر من الأعلى إلى الأسفل، وابتسم بشفتيه الدقيقتين مبينًا عن فمه الخالي من بعض الأسنان. تمهَّل وكأنه همَّ بقول أمر مُهم لكنه تراجع وقال شيئًا آخر:
- أعطني من فضلك بطاقة قارئ، أو كيف تُسمونها؟
سحبت «صونيا» يدها المنسية بين راحتيه الجافتين، وصعدا إلى الأعلى على السلم البارد جدًّا الذي يسلب الدفء الشحيح من كل قدم تلامسه... راحت هنا، في الصالة الضيقة من البناء الثري القديم، تخط أول مرَّة بيدها لقبه، الذي لم تسمع به من قبل قَطُّ، والذي سيصير لقبها بعد أسبوعين بالتمام والكمال. وفيما كانت تكتب الحروف الخرقاء بقلم الحبر الخشبي الذي أخذ يفتل ببطء في قفازها الصوفي المرتق، راح ينظر إلى جبينها النظيف، ويبتسم في قرارة نفسه من شبهها العجيب بجَمل فتي وصبور ولطيف، ويفكر: «حتى لونها أسمر وعنبري حزين ووردي دافئ...».
انتهت من الكتابة، ورفعت بسبابتها نظارتها المنزلقة، ونظرت بود وترقُّب خالٍ من الاهتمام: فهو لم يُملِ عليها عنوانه.
إحساسه بفعلة القدر، الذي خامره بقوة، وانهال عليه كالمطر الشديد من أعالي سماء صافية وساكنة، جعله يرتبك ارتباكًا شديدًا: لقد أدرك أن مَن تقف أمامه هي زوجته.

عن المؤلفة
ولدت «لودميلا أوليتسكايا» عام 1943. وهي أكثر كُتاب روسيا المعاصرة ترجمةً إلى اللغات الأخرى، وباعت أعمالها أكثر من أربعة ملايين نسخة في جميع أنحاء العالم. هي كذلك صاحبة الرقم القياسي في تاريخ الترشيحات لجائزة البوكر الروسية، فقد وصلت خمسة من أعمالها إلى القائمة القصيرة، منها «صونيتشكا» عام 1993. كما نالت «صونيتشكا» جائزة «مديسيس» الفرنسية للرواية الأجنبية عام 1996 وجائزة «جيوزيبيه أتشربي» الأدبية في إيطاليا عام 1998.

No comments:

Post a Comment