07 October 2016

ريتشارد باخ: النورس جوناثان ليفنجستون



ريتشارد باخ

النورس جوناثان ليفنجستون



ترجمها عن الإنجليزية
محمد عبد النبي

الجزء الأول

كان الوقت صباحًا،
والشمس الوليدة تنثر الذهب على مويجات بحرٍ وديع.
على بُعد ميل من الشاطئ بدأ أحد قوارب الصيد يُلقي الطعم في المياه للأسماك، وبسرعة البرق سرى في الهواء خبر حلول وقت فطور السِّرب، وفي الحال احتشد ألف نورس وراحت تراوغ وتقاتل للحصول على مزق وفتات الطعام. كانت بداية يوم آخر مشحون بالعمل.
ولكن بعيدًا عن هذا كله، ومنفردًا بنفسه تمامًا، فيما وراء القارب والشاطئ، كان النورس «جوناثان ليفنجستون» يتدرب. على ارتفاع مائة قدم في السماء، خفض قدميه ذاتَي الوترات، ورفع منقاره، وكافح للاحتفاظ عبرَ جناحيه بانحناءة ملتوية، انحناءة صعبة ومؤلمة. كان هدفه منها أن يطير ببطء، فتباطأ حتى صارت الريح مثل همسة في وجهه، وسكنَ المحيط ثابتًا من تحته. ضيَّق عينيه في تركيز بالغ، وكتمَ أنفاسه، وجهدَ ليتقوَّس أكثر، ولو بمقدار بوصة... واحدة... أخرى... بوصة واحدة... عندئذٍ انتفشَ ريشه، وتجمَّد جسده ثم هوى.
كما تعلمون، لا ترتبك النوارس هكذا في طيرانها أبدًا، ولا تهوي هكذا أبدًا. بالنسبة لها لا يعني السقوط في الهواء سوى الخزي والمهانة.
غير أن النورس «جوناثان ليفنجستون» - الذي بسط جناحيه من جديد من دون شعور بالخزي، ليؤدي تلك الانحناءة المرتعشة العسيرة، ببطء، ببطء، فتجمد وهوى مرة أخرى - لم يكن طائرًا عاديًّا.
أغلب النوارس لا تهتم إلا بتعلُّم أبسط حقائق الطيران - أي كيف لها أن تصل من الشاطئ إلى الطعام وتعود من جديد. بالنسبة إلى أغلب النوارس، ليس الطيران هو المهم، بل الأكل. لكن هذا النورس شيء آخر، فعنده لم يكن الأكل هو المهم، بل الطيران. كان النورس «جوناثان ليفنجستون» يحب أن يطير أكثر من أي شيء آخر.
وقد اكتشف أن هذا النوع من التفكير ليس بالوسيلة المثلى لكي تحبه الطيور الأخرى. حتى والديه كان القلق يساورهما عليه، حينما يقضي أيامًا كاملة بمفرده، يقوم بمئات الانزلاقات المنخفضة، يتدرب ويتدرب.
على سبيل المثال، لم يكن يعرف لماذا، حينما يطير فوق الماء على ارتفاع خفيض لا يزيد على نصف طول جناحه، كان بوسعه أن يبقى في الهواء لوقت أطول، وبمجهود أقل. لم تكن انزلاقاته في الهواء هذه تنتهي كما هو معتاد بالغطس في البحر لمسافة قَدَم، وإنما بأثر طويل ممتد على سطح الماء إذ يلامسه بقدميه المشدودتين لتوازن حركة جسده. حينما بدأ يطير منزلقًا وعائدًا للبر، ليحطَّ على الشاطئ، قاسَ والداه مسافة انزلاقه في الرمل، فانتابهما عندئذٍ خوف كبير حقًّا.
سألت أمه:
- لماذا يا «جون»؟ لماذا؟ لماذا يصعب عليك كثيرًا أن تكون مثل بقية السرب يا «جون»؟ لماذا لا تترك الطيران المنخفض للبجع وطائر القطرس؟ لماذا لا تأكل؟ لقد صرت ريشًا على عَظم يا بنيَّ!
- لا مانع عندي في أن أكون ريشًا على عَظم يا أمي. كل ما أريد هو أن أعرف ما أقدر على فعله وأنا في الهواء، وما لا أقدر على فعله، هذا كل ما في الأمر، أريد أن أعرف وحَسب.
قال والده بنبرة عطوف:
- أنصت إليَّ يا «جون»، صار الشتاء وشيكًا، وسوف يقل عدد قوارب الصيد، وأسماك السطح سوف تغوص عميقًا. إذا كان لا بد أن تدرس شيئًا، فلتدرس الطعام، وكيف تحصل عليه. مسألة الطيران هذه لا بأس بها بالمرَّة، ولكنك لا تستطيع أن تأكل انزلاقًا منخفضًا في الهواء، كما تعلم. إياك أن تنسى أبدًا أنك تطير لتأكل.
أومأ «جوناثان» برأسه في طاعة. وخلال الأيام القليلة التالية حاول أن يسلك مسلك النوارس الأخرى؛ حاول بإخلاص، وأخذ مثلها يصيح ويصارع بقية السرب حول مرافئ الشاطئ وقوارب الصيد، غائصًا في الماء خلف بقايا السمك وفتات الخبز. لكنه لم يشعر بالرضا عن محاولاته.
فكر في نفسه قائلًا: إن الأمر كله بلا معنى - بينما يُسقط من فمه، عامدًا، سمكة أنشوجة تعبَ حتى فاز بها، إلى نورس عجوز جائع كان يلاحقه. وتابع: بوسعي أن أقضي كل هذا الوقت في تعلُّم الطيران، فما أكثر ما يجب عليَّ تعلُّمه!
لم يمضِ وقت طويل قبل أن يبتعد النورس «جوناثان» ويختلي بنفسه من جديد، بعيدًا في داخل البحر، جائعًا، وسعيدًا، ودارسًا ما يجب أن يتعلمه.
كان موضوع الدرس هو السرعة، وفي خلال أسبوع من التمرُّن تعلم عن السرعة أكثر مما يعرف أسرع النوارس في هذه الحياة.
من ارتفاع ألف قَدم، راحَ يخفق بجناحيه بأقصى جهده، واندفعَ في هبوطٍ حاد ومتقد نحو الموج، فتعلم لماذا لا تقوم النوارس بمثل هذا الهبوط الحاد المتقد. فما هي إلا ست ثوانٍ وصار يتحرك بسرعة سبعين ميلًا في الساعة، وهي السرعة التي يضطرب فيها جناحا أي طائر في حركتهما للأعلى.
تكرر الشيء ذاته مرة بعد أخرى. ومع أنه كان في غاية الحرص، وأنه اجتهدَ حتى بلغ ذروة قدرته، إلا أنه كان يفقد سيطرته عند هذه السرعة البالغة.
التحليق حتى ارتفاع ألف قدم، ثم الاندفاع بكامل طاقته إلى الأمام أولًا، ثم الرفرفة بجناحيه، منقضًّا للأسفل بوضع رأسي تمامًا. وعندئذٍ، وكما يحدث في كل مرة، كان يتجمَّد جناحه الأيسر ويرتبك في حركته للأعلى، ويدور بعنف جهة اليسار، فيوقف جناحه الأيمن ليستعيد توازنه، فيجد نفسه مقذوفًا كقطعة نار، وهابطًا في دوامة عاتية جهة اليمين.
لم يستطع أن يتوخى الحرص بما يكفي مع حركة بسط الجناحين للأعلى تلك. عشر مرَّات يحاول، وفي كل مرَّة من العشر، وإذ يندفع بسرعة سبعين ميلًا في الساعة، كان يتحول إلى كتلة عشوائية من الريش المخضوض، فاقدًا كل سيطرة، ساقطًا نحو المياه كالحطام.
وبينما كان يتقطَّر منه الماء، فكر أخيرًا، أن السر لا بد أن يكون في الحفاظ على الجناحين ثابتين عند السرعات العالية - أن تتسارع رفرفته تدريجيًّا إلى أن يصل إلى سرعة الخمسين ميلًا، وعندئذٍ يحتفظ بجناحيه ثابتين ساكنين.
وحاول مجددًا من ارتفاع ألفي قدم، منقضًّا في دوران سريع، ومنقاره ممتد إلى الأسفل مباشرة، وقد بسط جناحيه وجمدهما منذ اللحظة التي تجاوز فيها سرعة الخمسين ميلًا في الساعة. اقتضت منه هذه التجربة قوة هائلة، غير أنها نجحت. وفي غضون عشر ثوانٍ اندفع بسرعة تسعين ميلًا في الساعة حتى غشي بصره. لقد حقق «جوناثان» رقمًا قياسيًّا عالميًّا في السرعة بالنسبة إلى النوارس!
غير أن هذا النصر كان قصير الأجل، فما إن شرع ينسحب متراجعًا، ما إن غيَّر زاوية جناحيه، حتى انقذف في لمح البصر إلى تلك الكارثة الرهيبة ذاتها حيث يفقد كل سيطرة على حركته، وإذ كان يطير بسرعة تسعين ميلًا في الساعة فقد صعقته هذه المرَّة وكأنها ديناميت، وكأن النورس «جوناثان» انفجرَ في الجو وسقط مهشمًا فوق بحرٍ صلب كأن ماءه حجارة.
كان الظلام قد حل منذ وقت عندما استرد وعيه، وراح يطفو في نور القمر على سطح المحيط. كان جناحاه أقرب إلى عيدان مخلخلة من الرصاص، غير أن وطأة الفشل كانت أثقل منها على كاهله. راودته أمنية باهتة لو أن هذا الثقل كان كافيًا ليسحبه برفق للأسفل حتى القاع، فينتهي كل شيء.
وإذ أخذ ينخفض غائصًا في الماء أكثر، تردد في داخله صوت غريب وأجوف: لا حيلة في الأمر. ما أنا إلا نورس، محدود بأوامر الطبيعة. لو كان مكتوبًا لي أن أتعلم الكثير والكثير عن الطيران، لوجدت خرائط ومخططات مرسومة في دماغي. لو كان مكتوبًا لي أن أحلِّق بسرعة بالغة، لولدت بأجنحة قصيرة كأجنحة الصقور، ولكنت أقتات على الفئران لا الأسماك. كان أبي على حق، لا بد أن أنسى هذه الحماقة، ولا بد أن أطير عائدًا إلى البيت، فأنضم إلى السرب وأرضى بما كُتب لي أن أكونه، مثل أي نورس مسكين محدود.
تبدد الصوت شيئًا فشيئًا، واقتنع «جوناثان». المكان المناسب لأي نورس في الليل هو الشاطئ، ومن هذه اللحظة فصاعدًا، هكذا أقسم، سيكون نورسًا عاديًّا، وسوف يجعل جميع مَن حوله أسعد وأهنأ.
مرهقًا وضجرًا، دفعَ نفسه بعيدًا عن المياه المظلمة وطار باتجاه البر، ممتنًّا لكل ما تعلمه من دروس الطيران الخفيض في أمان.
ولكن كلَّا، هكذا حدَّث نفسه. لقد انتهيتُ من هذه الحكايات كلها، انتهيت من كل شيء تعلمته. ما أنا إلا نورس مثل سائر النوارس، وسوف أطير كما يطير أي نورس منها. وهكذا صعد متألمًا حتى ارتفاع مائة قدم ورفرف بجناحيه بمزيد من القوة، ضاغطًا الهواء أمامه ليبلغ الشاطئ.
شعرَ بأنه أفضل حالًا لقراره بأن يكون مجرد طائر آخر في السرب. لن تشده بعد الآن أية روابط بتلك القوة التي دفعته لأن يتعلم، لا مزيد من التحدي، ولا مزيد من الإخفاق. وكان أمرًا جميلًا، أن يتوقف عن التفكير وحسب، وأن يطير في الظلام، نحو الأضواء التي تعلو الشاطئ.
«الظلام!»، انبعث الصوت الأجوف الأجش منذرًا. «النوارس لا تطير في الظلام أبدًا!».
لم يكن «جوناثان» منتبهًا بما يكفي لينصت إليه. إنه أمر جميل، هكذا فكر. القمر والأضواء تتلألأ على الماء، ملقية نقاط النور هنا وهناك عبر الليل، وكل شيء مفعم بالسكينة والسلام...
«اهبط! النوارس لا تطير في الظلام أبدًا! لو كانَ مكتوبًا لك أن تطير في الظلام لخُلقتَ بعيني بومة! ولكان لك دماغ يرسم ويخطط! ولكانت أجنحتك قصيرة مثل أجنحة الصقر!».
هناك في الليل، وعلى ارتفاع مائة قدم في الهواء، التمعت عينا النورس «جوناثان ليفنجستون». تلاشى ألمه، وتبددت قراراته.
أجنحة قصيرة. أجنحة صقر قصيرة!
تلك هي الإجابة! كم كنتُ أحمق! كل ما أحتاج إليه هو جناح صغير دقيق، كل ما أحتاج إليه أن أطوي الجزء الأكبر من جناحيَّ وأطيرَ معتمدًا على طرفيهما فقط! أجنحة قصيرة!
حلَّق عاليًا لارتفاع ألفي قدم فوق البحر المسود، ومن دون تفكير ولو للحظة واحدة في الإخفاق والموت، ضم أعلى جناحيه بشدة إلى جسده، تاركًا فقط الأطراف المدببة الضيقة مُشرعة في الريح، وانقض غاطسًا في هبوط عمودي.
كان صوت الريح في رأسه مثل زئير أحد الوحوش. سبعون ميلًا في الساعة، تسعون، مائة وعشرون، بل أسرع من ذلك. إن مقدار جهد الجناح الآن بسرعة مائة وأربعين ميلًا في الساعة ليس شاقًّا بقدر ما كان سابقًا بسرعة السبعين ميلًا، وبمعونة أهون التفافة لأطراف جناحيه أوقف انقضاضه للأسفل بسهولة وانطلق فوق الموج، مثل قذيفة مدفع رمادية تحت القمر.
أغمض عينيه لينزلق في مواجهة الريح وقد غمرته البهجة. مائة وأربعون ميلًا في الساعة! وكل شيء تحت السيطرة! ماذا لو أنني غطست للأسفل من ارتفاع خمسة آلاف قدم بدلًا من اثنين، تُرى كم ستبلغ سرعتي؟
إن وعوده لنفسه، قبل لحظة واحدة، قد صارت كلها نسيًا منسيًّا، كنستها بعيدًا تلك الريح السريعة الجبارة. ومع ذلك فلم يساوره الشعور بالذنب لأنه أخلف الوعود التي قطعها على نفسه، فمثل تلك الوعود تصلح فقط للنوارس التي تتقبل العادي المألوف. أما مَن لامس التفوق في تعليمه فلا حاجة به إلى مثل هذا الوعد.
مع طلوع الشمس، كان النورس «جوناثان» يتدرب من جديد. ومن ارتفاع خمسة آلاف قدم كانت قوارب الصيد تبدو لعينيه مثل بقع صغيرة في الماء الأزرق السَّاجي، أما سرب الطيور الملتمس فُطوره فبدا مثل سحابة باهتة من ذرات غبار، تدور في موضعها.
كان حيًّا، يرتجفُ بدنه أهونَ ارتجاف من فرط الفرح، فخورًا بأن خوفه كان تحت السيطرة. عندئذٍ ومن دون أي طقوس احتفالية، ضم إليه منابت جناحيه، وفردَ أطرافهما القصيرة حادة الزوايا، وغطس نحو البحر مباشرة. عندما تجاوز الأربعة آلاف قدم كان قد بلغ سرعته القصوى، كانت الريح جدارًا صلدًا من الصوت يقرع ويضرب بشدة، جدارًا لم يستطع النورس إزاءه أن يزيد سرعة حركته. كان يطير الآن للأسفل مباشرة، بسرعة مائتين وأربعة عشر ميلًا في الساعة. ابتلع ريقه، مُدركًا أنه لو انبسط جناحاه وهو يطير بهذه السرعة لانفجر متفتتًا إلى مليون قطعة نورس ضئيلة الحجم. غير أن السرعة كانت قوة، والسرعة كانت بهجة، والسرعة كانت جمالًا خالصًا.
على ارتفاع ألف قدم بدأ انسحابه، بينما ترتطم أطراف جناحيه بتلك الريح الجبارة وتكاد تنطمس فيها، وبدا له القارب وحشد النوارس مثل نيزك يميل ويتسارع ليعترض طريقه مباشرة.
لم يستطع التوقف؛ لم يكن يعرف حتى كيف يمكنه أن يغير اتجاهه وهو بتلك السرعة.
سيكون الاصطدام موتًا خاطفًا.
وهكذا أغمض عينيه.
ما حدث في ذلك الصباح، حينذاك، وبُعيد شروق الشمس، أن النورس «جوناثان ليفنجستون» قد اخترق مباشرة كالسهم مركز سرب الفطور، وقلبه يدق بسرعة مائتين واثني عشر ميلًا في الساعة، بعينيه المغلقتين بشدة، ووسط صياح حاد وزئير هائل لاحتكاك الريح بالريش. هذه المرَّة ابتسم له «نورسُ الحظ»، فلم يهلك بسببه أحد.
عندما مد منقاره للأعلى وصعد نحو السماء مباشرة كان لا يزال يتحرَّق ملتهبًا بسرعة مائة وستين ميلًا في الساعة. وحين أبطأ حتى العشرين ميلًا وفردَ جناحيه من جديد أخيرًا، لم يكن القارب سوى كسرة فتات على وجه البحر، تحته بأربعة آلاف قدم.
كان النصر هو ما يفكر فيه. السرعة القصوى! نورس يطير بسرعة مائتين وأربعة عشر ميلًا في الساعة! كان إنجازًا غير مسبوق، اللحظة الأعظم في تاريخ السرب، وفي تلك اللحظة ابتدأ عصر جديد للنورس «جوناثان». وبينما كان يطير لمنطقة تدريبه المنعزلة، طاويًا جناحيه ليغطس أفقيًّا من ارتفاع ثمانية آلاف قدم، عقد عزمه في الحال على أن يكتشف كيف يستدير ويغير اتجاهه.
اكتشفَ أنه إذا ما حرك ريشة واحدة في طرف جناحه بمقدار جزء صغير للغاية من بوصة، يعطيه هذا التفافة جارفة وسلسة وسط سرعة هائلة. لكن قبل أن يتعلم هذا اكتشف أن تحريك أكثر من ريشة واحدة بتلك السرعة يجعله يدور حول نفسه مثل قذيفة بندقية... وقد أدى به ذلك إلى أن يكون أول طائر نورس على وجه الأرض يطير طيرانًا بهلوانيًّا.
في ذلك اليوم، لم يبدد أي وقت في الحديث مع النوارس الأخرى، بل واصل الطيران لما بعد الغروب. اكتشف الشقلبة، والدوران البطيء، والدوران حول المحور، والالتفاف العكسي، وضربة النورس، ولُعبة المروحة (الفُرِّيرة).
***
عندما لحق النورس «جوناثان» بالسرب على الشاطئ، كان الليل قد حل واكتمل. كان رأسه يدور وفي غاية التعب. ومع ذلك فقد طار مسرورًا طيرانًا لولبيًّا ليحط بالقرب منهم، وقبيل أن يلامس الأرض التف التفافة خاطفة. قال لنفسه إنهم حينما يسمعون بذلك الإنجاز غير المسبوق الذي حققه سوف تذهب الفرحة بعقولهم. سيدركون أنه توجد الآن أسباب أكثر للحياة! أسباب أخرى غير جرجرة أنفسنا في بلادة ذهابًا إلى قوارب الصيد وعودةً منها. يوجد سبب للحياة! نستطيع أن ننتزع أنفسنا من الجهل! نستطيع أن نجد أنفسنا كمخلوقات ذات تفوُّق وذكاء ومهارة! نستطيع أن نكون أحرارًا! نستطيعُ أن نتعلم الطيران!
أشرقت السنوات القادمة بابتسامة الأمل.
كانت النوارس قد احتشدت في «اجتماع المجلس» عندما حط «جوناثان»، ويبدو أنها كانت مجتمعة منذ بعض الوقت. كانت تنتظر في الحقيقة.
- أيها النورس «جوناثان ليفنجستون»! تقدَّمْ إلى المركز!
بهذه الكلمات صاح كبيرهم بنبرة رسمية للغاية. أن يتقدَّم نورس ليقف في المركز لا يعني غير أمرين اثنين: إما خزي عظيم، وإما شرف عظيم. الوقوف في مركز السرب للتشريف كان الطريقة التي اتبعها القادة من أسلاف النوارس في السابق. حدَّث نفسه قائلًا: بالطبع، لقد رأى سرب الفطور هذا الصباح ما حققته من إنجاز مذهل! لكني لا أريد تشريفًا، ولا أطمع أن أكون زعيمًا. لا أريد إلا أن أشاركهم ما اكتشفته، أن أطلعهم على تلك الآفاق الممتدة أمامنا جميعًا. وخطا إلى الأمام.
قال كبيرهم:
- أيها النورس «جوناثان ليفنجستون»، قف في المركز ليُعلَن خزيك وعارك على مرأى جميع رفاقك النوارس!
شعرَ كأنه تلقى ضربة لوح خشبي. ارتخت ركبتاه، وتدلى ريشه، وامتلأت أذناه بالطنين. يقف في المركز ليتلقى الخزي والعار؟! هذا مستحيل! وإنجازه؟! لا يستطيعون أن يفهموا! إنهم مخطئون! إنهم مخطئون!
أخذ الصوت الجليل يرتل الكلمات ترتيلًا:
- ... نظرًا لانعدام إحساسه بالمسؤولية، وانتهاك كرامة عائلة النوارس وتقاليدها...
أن يمثل أمامهم في المركز ليعلَن عاره على الملأ معناه أن يُنبَذ ويطرد من مجتمع النوارس، أن يُنفى ليعيش حياة العزلة على «المنحدرات القصية».
- ذات يوم، أيها النورس «جوناثان ليفنجستون»، سوف تتعلم أن عدم الإحساس بالمسؤولية لا يجدي نفعًا. الحياة هي المجهول، وهي ما لا يمكن لنا أن نعرفه، ولكننا نعرف أننا نعيش في هذا العالم لنأكل، لنبقى أحياء بقدر ما أمكننا أن نحيا.
لا يُمكن لأي نورس أن ينطق ردًّا على كلام «مجلس السرب»، غير أن صوت «جوناثان» ارتفع وصاحَ قائلًا:
- عدم المسؤولية؟! يا إخوتي! ومَن أكثر مسؤولية من نورس يجد معنى للحياة ويتبعه، يجد مقصدًا أسمى للحياة ويسعى إليه؟ لآلاف السنين ظللنا نخمش ونخربش سعيًا وراء رؤوس السمك، ولكن الآن لدينا سبب لأن نحيا - أن نتعلم، أن نكتشف، أن نتحرر! امنحوني فرصة واحدة، ودعوني أطلعكم على ما اكتشفتُه...
وبدا كأن السرب كله تجمد فهو كالحجارة أو أشد قسوة.
ردد النوارس معًا بكلام محفوظ:
- لا أخوة بيننا وبينك بعد الآن!
وفي تطابقٍ تام كأنهم جميعًا كتلة واحدة صموا آذانهم عنه في جدية مهيبة، وأداروا ظهورهم له.
***
أمضى النورس «جوناثان» بقية يومه هذا بمفرده، لكنه طار بعيدًا إلى ما وراء «المنحدرات القصية». لم يكن آسفًا على وحدته، كان أسفه الوحيد أن النوارس الأخرى رفضت أن تصدق ما ينتظرها من مجد وروعة الطيران؛ لقد رفضت أن تفتح عيونها وتبصر.
كان يتعلم شيئًا جديدًا في كل يوم. تعلم أن هبوطه بزاوية حادة وسرعة عالية يساعده في العثور على سمك نادر ولذيذ مما يتجمع تحت سطح المحيط بمسافة عشرة أقدام: لم يعد بحاجة إلى قوارب الصيد والخبز البائت ليضمن قوت يومه. تعلم أن ينام في الهواء، متخذًا سبيله في الليل عبر الريح التي تهب من جهة الشاطئ، قاطعًا مائة ميل من شروق الشمس حتى غروبها. وبالدرجة ذاتها من السيطرة الداخلية على نفسه، حلَّق عبر غيوم بحرية كثيفة وصعد من فوقها إلى سماء صافية بدرجة تعشي العيون، في اللحظة ذاتها التي كان كل نورس آخر فيها يقف على الأرض لا يرى فوقه غير الضباب والمطر. تعلم أن يمتطي الرياح العالية نحو الأراضي الداخلية البعيدة عن البحر، ليتناول هناك عشاء من حشرات شهية طيبة.
ما تمناه ذات مرَّة للسرب كله، ناله الآن بمفرده؛ لقد تعلم أن يطير، ولم يكن آسفًا على الثمن الذي دفعه. واكتشف النورس «جوناثان» أن الضجر والخوف والغضب هي الأسباب التي تقصِّر أعمار النوارس، وحينما تبددت تلك الأسباب من نفسه وخاطره عاش حياة مديدة وسعيدة حقًّا.
***
ثم جاء النورسان في المساء، ليجدا «جوناثان» يطير بمفرده منزلقًا في سكينة وسلام عبر سمائه الحبيبة. كان النورسان اللذان ظهرا على جانبي جناحيه نقيين مثل نور النجوم، وبالبريق الذي ينبعث منهما رقيقًا وودودًا في هواء الليل العالي. غير أن أجمل ما فيهما كان طريقتهما البارعة في الطيران، وكيف كانت أطراف أجنحتهما تتحرك بدقة وثبات على مبعدة بوصة واحدة من جناحيه.
ومن دون كلمة واحدة، أخضعهما «جوناثان» لاختباره - اختبار لم يجتزه من قبل أي نورس. ثنى جناحيه، وأبطأ سرعته حتى بلغت ميلًا واحدًا في الساعة وثبت في موضعه. فأبطأ الطائران البراقان حركتهما معه، وعلى هينة ولين، ثبتا في موضعيهما. كانا يعرفان حيلة الطيران البطيء.
طوى جناحيه، وانقلب، وهوى بجسده في غطس عمودي بسرعة مائة وتسعين ميلًا في الساعة. هويا معه، مندفعين للأسفل في تكوين لا تشوبه شائبة.
أخيرًا، حوَّل تلك السرعة دون إبطاء إلى دوران بطيء، عمودي وطويل، فأخذا يدوران معه، وهما مبتسمان.
استعاد مستوى الطيران العادي، وظل صامتًا لبرهة قبل أن يتحدث إليهما. قال:
- هذا كله رائع جدًّا، ولكن من أنتما؟
- إننا من سربك يا «جوناثان»، إننا أخواك.
كانت الكلمات قوية وهادئة.
- أتينا لكي نأخذك إلى أعلى، لكي نأخذك إلى الوطن.
- لا وطن لي ولا سرب! إنني منبوذ! ونحن نطير الآن على ذروة «رياح الجبل العظيم». ولم يعد بوسعي أن أرفع جسدي العجوز هذا، إذا ما حلَّقنا لأعلى بضع مئات أخرى من الأقدام.
- ولكنك تستطيع يا «جوناثان». ذلك لأنكَ تعلمت. لقد أنهيت مدرسة، وحان الوقت الآن لتبدأ دراستك في مدرسة أخرى.
كانت هذه الفكرة تومض خلاله كالبرق طوال حياته، لذلك فقد أضاء نورها النورس «جوناثان» في تلك اللحظة بالفهم التام. كانا على صواب، يستطيع أن يطير أعلى، وقد حان وقت الرجوع إلى الوطن.
رنا نحو السماء بنظرة أخيرة طويلة، نحو تلك الأرض الفضية ذات الجلال والبهاء، حيث تعلم الكثير والكثير.
قال أخيرًا:
- إنني مستعد.
وهكذا ارتقى النورس «جوناثان ليفنجستون» برفقة النورسين المضيئين كالنجوم حتى اختفوا تمامًا في سماء داكنة وكاملة الأوصاف.

No comments:

Post a Comment