11 November 2015

أحمد حجي: مذكرات جندي مصري في جبهة قناة السويس



أحمد حجي
مذكرات جندي مصري في جبهة قناة السويس


الأربعاء 5 أغسطس 1970

في الجبهة يولد الإنسان الجديد، يولد بين اللهب وأمام رصاص البنادق الآلية، وشظايا الدانات والقنابل، وتحت طائرات العدو المغيرة، هنا يجب على الإنسان أن يتخذ موقفًا واضحًا محددًا، إما أن يخاف ويجبن، وإما أن يقف في شموخ، دون أن تهتز منه شعرة واحدة. وفي الجبهة شاهدت ميلاده مع الاشتباكات اليومية بيننا وبين العدو، هذا الإنسان الجديد الذي علمه الرصاص كيف يكون الوطن هو حبه الأكبر، وكيف يحمل في قلبه مشاكله وهمومه، وما هو الحق، وكيف يكون الواجب.
إن اللحظة التي يعيشها الإنسان بين اللهب وتحت الخطر هي التي تخلقه من جديد، هي التي تجعله يلقي بحياته الرتيبة المرهفة لينام في الخنادق الترابية ويجوب ظلمة الليل الحالكة، ويعوِّد أذنيه على دوي المدفعية وهدير الدبابات. وبرغم الظلمة فإنه هنا يرى مصر أكثر من الجالسين في مقاهيها، هذا الصمت أحيانًا ثم ضجيج الاشتباكات أحيانًا أخرى، الطلقات المضيئة في الليل، السلاح والذخيرة والخوذة الحديدية.. ماذا بعد؟ إنها لحظة رائعة تلك التي يحس بها الجندي وسلاحه على كتفه وعيونه تخترق الليل، إنه حارس شجاع يحمل مصر كلها في قلبه ويحس بها مع كل خفقة.
إن هذه الحياة على الجبهة هي التي ألهمت قائد المدفع الذي بترت صواريخ الطائرات المعادية ذراعيه، فثبت قدميه على المدفع وأسقط إحداها. إنني أذكره جيدًا، وأذكر أيضًا ذلك الجندي الذي كان يحمي مؤخرة العبور، ورفض أن ينجو بحياته بعد أن اكتشف العدو خط انسحاب زملائه، وأصر على حماية ظهورهم، واستشهد في قاع القناة.
ماذا بعد أن ينزف الدم منا.. علينا أن نواصل القتال.. هل يموت الإنسان مرتين؟ إنها مرة واحدة وميتة واحدة، فمع تصاعد الموقف يتزايد الرجال الشجعان وتشتد حماستهم للقتال. هذه المجموعة من الرجال التي عبرت القناة إلى الضفة الشرقية كانوا يقبلون الأرض، ظلوا أكثر من خمس ساعات يتحرشون بالعدو حتى فوجئوا بطابور من المدرعات المعادية. وعلى الرغم من أن أسلحتهم وذخيرتهم كانت بسيطة لم يترددوا، اشتبكوا مع تلك المدرعات ودمروا منها دبابتين وعربتين نصف جنزير وعربة جيب.. كانوا يصيحون:
- الله أكبر.. الله أكبر.
وبين النار المشتعلة كانت طائرات العدو تبحث عنهم، إلا أنهم عادوا جميعًا بلا جريح واحد وهم يقبلون بعضهم بعضًا، ويقولون:
- لو كانت هناك ذخيرة أخرى.. لأبدنا طابور المدرعات عن آخره.
هنا وراء كل خبر عسكري قصة لإنسان ولد من جديد على الجبهة، إنسان يعرف كيف يحب وطنه، ويعرف معنى الواجب.. ويدرك اللحظة التي يقرر فيها شيئًا للوطن، ولذلك فإنساننا الجديد لا يهمه الرصاص ولا ما تردده إذاعات العدو.
إن المقاتل على الجبهة يثق بأن حل مشاكل الوطن الداخلية والصراع ضد الاستعمار هو بالمزيد من القتال.



الأحد 16 أغسطس 1970

في أول الأمر كنا نخجل من زملائنا المقاتلين في الجبهة عندما كانوا يسألوننا عن تسليحنا، كنا نقول لهم ونحن نعرف مسبقًا باستهزائهم:
- مدفعية 25 رطل.
فقد كان هذا السلاح من مدفعية الحرب العالمية الثانية قديمًا، بدائيًّا، قصير المدى، صعب التشغيل، وهناك الآن أسلحة أكثر خطرًا وزئيرًا منه متفرقة على امتداد جبهتنا، وكنا نستطيع أن نميز صوت مدافعنا من أصوات المدافع العديدة الممتدة من ورائنا على طول خطوط القتال، وكان لا بد لكتيبتنا أن تأخذ مكانها بالقرب من القناة حتى يكون لمدافعها العتيقة المدى المؤثر في مواقع العدو الممتدة أمامنا.
ومرت الأيام، ورأينا أن كتيبتنا تحتل موقعًا من أهم المواقع الدفاعية في منطقتنا، وأن علينا بمدافعنا القديمة أن نكون رجالًا وأن ننفذ تعليمات القيادة بأن نصمد في أماكننا مهما كانت ظروف الاشتباك مع العدو، فقد كانت القيادة تعلم بالطبع مدى الفارق الكبير في التسليح بيننا وبين مواقع العدو المواجهة لنا.
وكانت منطقة «الكاب» من المناطق التي تقع في دائرة دفاعاتنا، وكم من مرة حاول العدو العبور من هذه المنطقة وأغرقته مدفعيتنا القديمة في قاع القناة.
وذات ليلة وبعد أن كثفت طائرات العدو غاراتها الوحشية على المنطقة.. وركزت نيرانًا كثيفة على مواقعنا وحول كل ملجأ من ملاجئ الأفراد، حتى أصبح من الصعب أن يفكر الإنسان في الحياة تحت كثافة نيران العدو. وبرغم ذلك فحينما أراد العدو في تلك الليلة أن يعبر بقواته من المنطقة التي تحميها مدافعنا القديمة، دقت أجراس التليفون الميداني وتناولت الأيدي بثبات سماعات التليفون.. وجاء صوت جندي الاستطلاع يقول:
- العدو يعبر من منطقة «الكاب».
وقتها اختفت كل الهواجس، وفي لحظة كان هناك صوت قائد الكتيبة يأمر الرجال من خلف المدافع:
- اضربوا حتى آخر طلقة من أجل زملائكم على القناة.
اتجهت الفوهات على الفور صوب مواقع العدو وانطلقت منها القذائف متتالية عنيفة، واحتل الرجال الآخرون مواقعهم في لمح البصر في الخنادق وفي الحفر التي صنعتها قنابل الطائرات المعادية، يصبون من بنادقهم ومن رشاشاتهم وابلًا من الرصاص، وصوت القائد ما زال يهتف من التليفون الميداني:
- اضربوا حتى آخر طلقة.
كانت طائرات العدو تلقي على مواقعنا شحنات وحشية من القنابل، وتضربنا بالصواريخ المتتالية دون توقف.. أصيب عدد من مدافعنا.. واستشهد عدد من رجالها، وأصاب اليأس عددًا آخر من أفراد المدافع الباقية، وهموا بالتراجع.. صاح قائدهم:
- من يتراجع سوف أضربه بالنار فورًا.
عادوا إلى مواقعهم واستبسلوا مع بقية زملائهم.. ولكن الطائرات المعادية لا تكف عن إلقاء حمولتها المميتة على رؤوسنا حتى بلغت القلوب الحناجر، والقائد ما زال يصيح:
- اضربوا.. اضربوا حتى آخر طلقة.
انتابتنا روح من الجنون.. لم يعد يهمنا شيء.. نسينا الدنيا كلها، ولم يصبح أمامنا سوى العدو الذي يريد قهرنا واختراق مواقعنا.. كان الجنود ينتهزون فرصة انطلاق طائرات العدو وهي تحوم لتعاود الضرب من جديد.. ليعاودوا حشو مدافعهم بالقذائف، ويطلقوها قبل أن تعود الطائرات.
لقد أصبحنا نحن والمعركة جسدًا واحدًا، ولم نتنبه إلى أن مدفعيتنا القديمة أغرقت زوارق العدو، وأن جحافله كانت قد فرت عن آخرها.. لم ننتبه لذلك إلا بعد أن توقفت الطائرات عن الظهور فوق رؤوسنا.. ولم ننم حتى الصباح.. كانت المدافع ما زالت مشرئبة الأعناق، وحضر القادة مع طلوع أول ضوء، التقوا بجنود مجموعة من مدفعيتنا. كانت عيونهم حمراء، وما زالوا يلهثون من التعب، ربت القائد على أكتافهم وقبلهم، ووضع على صدر كل منهم شارة البطولة، وكنا نحن حينما نركب أو نتجول في المنطقة ويسألنا أحد من أي سلاح أنتم، كنا نتحاشى الإجابة على هذا السؤال خوفًا من السخرية، ولكننا الآن نقول باعتزاز:
- مدفعية 25 رطل.
فنحن الرجال الذين جعلناها تساوي وتواجه أعتى الأسلحة، وببسالتنا وإيماننا صارت هذه المدافع القديمة سلاحًا ماضيًا فعالًا.
وأصبح زملاؤنا على خط النار عندما يعرفون سلاحنا هذا يقولون:
- رجال حقيقيون.
كنا فخورين حقًّا.. وكان الجنود سعداء لدرجة غير عادية، وكان منظرهم مؤثرًا للغاية وهم ينظفون مدافعهم القديمة ويلمعونها، ويضبطون معداتها استعدادًا لقتال قادم لا بد منه.. وأخذوا يربتون على فوهاتها بحنان وحدب وكأنما قد أصبح لهذه المعدات الفولاذية قلب يحس ويعلم ويستجيب لصاحب الحق الذي يبحث عن حقه ولا يخذله.
وفجأة وبعد ستة عشر شهرًا من القتال المتواصل.. وكنا قد تعودنا الحياة تحت اللهيب المستعر وألفنا زئير المدافع ودوي القذائف، جاءنا الأمر بالتحرك والعودة إلى الخلف.
وفي الليل تحركت العربات تجر المدافع، وارتدينا نحن معاطفنا الصوفية اتقاء لبرد الليل القارس، كنا نشعر ببعض الحزن، ولكنه سرعان ما أصبح حزنًا مقبضًا ثقيلًا، عندما علمنا أن مدافعنا القديمة الحبيبة سوف تخرج من الخدمة بعد أن أمكن تسليحنا بسلاح جديد متقدم.. كانت لحظات اختلطت فيها مشاعرنا وقبلنا تلك المدافع قبل أن تغيب عن عيوننا كما يقبل الأخ أخاه.. وملأت الدموع عيون كثير منا، وهي تختفي في ظلمة الليل خلف العربات العسكرية.. ألم تحمِ كرامتنا؟ ألم تستجب لنجوانا؟ ألم تعطنا خير ما لديها؟ يجب أن يكون الإنسان وفيًّا حتى للصخر ليكون جديرًا بالحياة.
وقبل أن نغادر الموقع، وقفنا لحظات من الحزن العميق والصمت على أرواح شهدائنا التي فاضت في هذا المكان، وتذكرنا جرحانا الراقدين الآن تحت السلاح.. وقلنا دون أن ننطق.. إننا دائمًا سنكون رجالًا كما كانوا هم تمامًا.

10 November 2015

جميل عطية إبراهيم: النزول إلى البحر


جميل عطية إبراهيم
النزول إلى البحر

1
تزوَّج والده من فتاة صغيرة في عمر ابنته، وقد تجاوز عمره الستين عامًا، فأنجب منها طفلًا دهمته الحُمى منذ أسبوعين.
دق جرس التلفون في شقته بعد الظهيرة وكان ممددًا على أريكة. كانت عيناه مغمضتين وجاءه صوت والدته وهي تتحدث من دكان الأمانة خائفة لتُذكره بموعد الاستشارة وتطلب منه الحضور.
كادت الكلمات أن تخرج من فمه جارحة، لكنه لم يشأ في تلك اللحظة القائظة أن يزيد مرارة فمها مرارة، فبلع الكلمات قبل أن تخرج من فمه فتقلب الأوجاع عليها وتزيد مرارة فمها من جراء التهاب المرارة والبنكرياس.
قال لها وهو في أشد حالات الغيظ وقد انتقلت مرارة فمها إليه:
- دعي سنية تنتظرني بالرضيع الساعة الرابعة.
أسند سيد رأسه إلى حافة الأريكة، ورأى سنية تقف في بير السلم أسفل العيادة في الظلمة وترقبه قادمًا من ناحية السكة الحديدية فتندفع صوبه باكية وهي تقول له:
- أخوك مريض.
في تلك اللحظة يرفسها بقدمه صائحًا فيها:
- ليس لي إخوة يا ابنة الحرام!
يضرب الرضيع في الجدار ويحطم له جمجمته ويستريح منه؟!
استمر في جلسته فوق الأريكة في غرفته المظلمة يتحدث إلى نفسه وكأنه يخاطب لواحظ كما كان يخاطبها، فقال لها وهو يلوح بيده اليمنى:
- ذهبت إلى الطبيب وطلبت منه إجراء جراحة لأبي تمنعه من الزواج، أو الخِلفة على الأقل، فوبَّخني وسبَّني، وذكَّرني بأن دولة الاتحاد الاشتراكي والمخابرات قد دالت، وأن هذه الجراحة جريمة لا تُغتفر، ولا يُقدم عليها ابن إلا إذا لوثته الأجهزة.
التفت سيد بجسده إلى الناحية الأخرى وهو يتخيل لواحظ جالسة إلى يمينه قائلًا لها:
- ماذا أفعل؟! اللعنة على هذا العالم!
ونحى أوراقه جانبًا وهو يقول «اللعنة على الأوراق»، ثم حزم أمره وقام لينطلق إلى المقابر.
دق الدكتور صابر على صدر الرضيع وبطنه وتمتم ضاحكًا:
- عامان ونصف. ما شاء الله. سوف يعوض والدك خيرًا.
الدكتور صابر يسخر من معارضة سيد لزواج أبيه من تلك المرأة الشابة، ومن ضعف بنيته وقد أصيب بالسل في صباه. يتابع فحص الرضيع، ويداعب الممرضة، ويسبه بكلمات جارحة، ويدعي أنه دودة مثل والدته، وأنه لم يكتسب شيئًا من رجولة أبيه. «الناس في المدافن ديدان أو جدعان» هكذا يقول الدكتور صابر لمعارفه، وقالها قبل التحاقه بكلية الطب أيضًا. وقال سيد لنفسه: «هذا الطفل الممدد على المائدة دودة أيضًا».
قطع الدكتور صابر الصمت بضربة قوية من يده على المائدة قائلًا:
- ها نحن ننزل البحر مرتين يا سيد!
هل هي العودة إلى الجذور كما يقولون؟ وأكمل سيد متحدثًا إلى نفسه قائلًا: «لا أدري! لا أدري!».
التفت إليه الدكتور صابر متعجبًا وقال:
- أما زلت تتحدث إلى نفسك بعد كل هذا العمر؟
ورماه بنظرة فاحصة، ثم خفف من سخريته وقد راعه اصفرار وجهه، واستيقظت فيه حاسة الطبيب وتناول يده وعد نبضه، وسأله عن شعوره عند اليقظة، فأجابه سيد وعيناه زائغتان قائلًا:
- أحس بشخص في السرير يجذبني إليه ويمنعني من القيام.
عاد الدكتور صابر إلى طبيعته الضاحكة وسأله:
- رجل أم امرأة؟!
أجاب سيد في عفوية وبطريقة جادة:
- لا أدري!
طلب منه الدكتور صابر أن يعوده غدًا في المستشفى ليُجري له عدة تحليلات.
غادر سيد العيادة ورأسه يدور، والرضيع يتلوى بين يديه، وعبَر الميدان الصغير المليء بالسيارات والماشية والكلاب والأطفال ولافتة العيادة خلفه يراها دون أن يلتفت إليها: «الدكتور صابر عبد الحي» وبجوارها بخط أصغر قليلًا مكتوب: «أستاذ نساء وولادة وباطنية».
يقرأ سيد ذلك كله وهو يسير إلى الأمام وقد اختلطت دقات قلبه المتعب بدقات قلب الرضيع المصاب بالحمى الذي يتلوى بين يديه، ولا يدري هل يسنده إلى صدره أم يبعده عنه لحمايته من السل الذي دهمه في صباه وربما عاوده ثانية على كبر!
أقلبت سنية عليه وكأنها خرجت من الأرض وقد انشقت عنها فجأة فوجدها في قبالته بعد أن سمع صوتها يأتيه من الخلف وهي تنادي:
- سيد بيه.. سيد بيه.
أسلمها الرضيع والروشتة، وزودها ببعض النقود وابتعد عنها، وقد أرَّقته الطريقة التي تناولت بها الطفل وكأنها تخطفه خطفًا، وأحس بها تراه وهو يضرب الطفل في الجدار ويهشم رأسه وسأل نفسه: هل تقرأ هذه المرأة الجاهلة أفكاره أم أنه تفوه أمامها بشيء؟ وعندما أفاق من تساؤلاته كانت المرأة قد رمحت بعيدًا عنه ناحية البيت الذي يعرف رائحته وملمس حجارته المتساقطة، فودَّعها بعينيه حزينًا على الطفل، وعلى أبيه العجوز، وعلى أمه، وعليها أيضًا، وقد التصق بكاء الرضيع بصدره، وترك على ملابسه بعضًا من لعابه. وقال لنفسه: «عيناه تشبهان عيني أمه الواسعتين وقبضة يده الصغيرة ممتلئة مثل قبضة أبي».
أثارت ملابسها الرثة قرفه، وذكرته بأيام الطفولة عندما كان ينبش القبور والأرض بحثًا عن شيء يسقط من المعزين. وكلما ابتعدت المرأة عنه علا صراخ الرضيع كأنه يلاحقه ويسد عليه منافذ الهرب من الماضي.
سأل سيد نفسه وهو يضرب على الطريق: «أين ترمي الرياح بهذا الطفل الرضيع؟ هل يبقى في المقابر أم يذهب بعيدًا ويعبر النيل إلى حياة أخرى؟!».
في عيني الطفل رأى سيد طفولته وعذابات صباه وشبابه وسأل نفسه: هل يدهمه السل كما دهمه في صباه؟ أشد ما كان يحنقه في صباه في أثناء عمله بالجراج بعد توقفه عن الدراسة بسبب السل، سخرية السائقين منه في الرواح والإياب، ضاحكين من ضعف بنيته وشحوب وجهه، مشيرين إلى قوة أبيه الذي ضربة يده تهز الجبل قائلين: «نار تخلِّف رماد».
فجأة تذكر سيد الناي الذي كان يعزفه في صباه فيقلق به عفاريت الجبانة، وكيف أصبحت نفخة واحدة فيه تمزق صدره بعد أن دهمه السل وسأل نفسه: «هل الناي آلة حزينة أم أن عازف الناي يتعمد الشجن؟». وزلقت قدماه قليلًا، وأصابه دوار خفيف، لكنه تماسك في مشيته وقال لنفسه: «لا أدري!». وخرج طنين من رأسه وغمره من كل جانب، وأصبح مثل الطوفان، يأتيه من الأرض ومن الهواء الذي يتنفسه وسأل نفسه ثانية: «هل الناي آلة حزينة؟». وأجاب ثانية: «لا أدري!». وظل التساؤل يطارده، وأصوات متلاحقة تناديه وهو يندفع هاربًا من النداءات، والهدير يلاحقه ويحيطه بدائرته الشريرة وهو يرد على النداءات قائلًا: «لا أدري! لا أدري!».. ويلهث.
علا الهدير، وأطبق على الكون. انتهى كل شيء. وبعدها أحس بشيء طري تحته يتململ، وبذراعين تحيطان به، وبالقطار يمر بجواره، وبعد برهة خالها كالدهر مد رأسه وقد ابتعد القطار فلمح فردة حذائه على مبعدة منه وسأل نفسه كيف طارت فردة حذائه. وتعجب، ولم يعد يرى شيئًا سوى عشرات من الأيدي تحيط به وتجذبه بعيدًا عن القضبان.
من صرخاتهم أدرك أن حادثًا قد وقع له، وترك نفسه للآخرين يحملونه ويهرولون، ولم تعد به قدرة على الاستفسار منهم عما جرى له.
تكاسل بواب المستشفى عن فتح البوابة لعربة الموتى السوداء القادمة عصرًا، فترجل الدكتور صابر من العربة، وسقط بيده القوية على صدغه وهو يصرخ:
- طوارئ!
بوغت البواب بالدكتور صابر ينزل من عربة الموتى ثم يصعد إليها ثانية، فدق جرس الطوارئ وعاد إلى جلسته، وغرق في ضحك هستيري قائلًا لنفسه وأثر الصفعة على صدغه يحرقه: «عاد الدكتور صابر إلى أصله ثانية مغسلًا ومكفنًا للموتى كأبيه وجده». وسرح به الخيال قليلًا وقد تذكر ما يروونه عنه أنه أغلق عيادته في وسط البلد وانتقل إلى المقابر، وأكمل لنفسه: «لا بد أنه يعمل في شركة عائلية لإنقاذ الموتى بدلًا من دفنهم».
وسحب نفسًا عميقًا من سيجارته متأملًا حال الدنيا: «هذا الميت سوف يتم ترميمه فإذا فشل الدكتور صابر في مهمته تولى أعمامه دفنه».
سحابات خفيفة معطرة تعبق سيجارته وتحمله إلى مظان بعيدة، وروى لزميله، بعد أن قضى حاجة، ما جرى في غيبته، وكيف أن الدكتور صابر صفعه على قفاه عندما ضحك لما رآه في عربة الموتى وقال له: «العرق دساس يا دكتور صابر»، فأطل عليه من العربة وصفعه.
ساور زميله الشك في الحكاية بأكملها، ورأى مسايرته في تخيلاته، وأن يلفا سيجارة أخرى بالحشيش، وأن يضحكا قليلًا، فلا الدكتور صابر في المستشفى ولا عربة للموتى هناك أمام المشرحة.
أدخل سيد إلى غرفة الجراحة والدكتور صابر إلى جواره، وأفاق سيد برهة من غيبوبته وسأل قائلًا:
- هل ننزل البحر مرتين يا دكتور صابر؟
فقال له الدكتور صابر:
- نعم.. نعم.
قدمه تحرقه مثل النار، ويحس بروحه تسيل منها. روحه تتسلل من قدمه وتفارقه. واستسلم للجراحين في دعة.
روت زينات ما شاهدته للمحقق في عين المكان، فقالت:
- طلب مني الدكتور صابر أن ألحق بالأستاذ سيد وأعود به. نزلت السلالم جريًا، وخرجت إلى الطريق، ورأيته يسير على قضبان السكة الحديدية ويخرج عنها، وجريت خلفه وناديت عليه لكنه لم يسمعني، وكان القطار قادمًا من الخلف، فجريت ولحقت به وجذبته من ملابسه جذبة قوية سقطنا بعدها على الأرض في اللحظة التي مر فيها القطار فوقنا.
وبينما زينات تروي للمحقق ما حدث لها وقد لحقت قطع الزفت المشتعل بفستانها، سمعت صفير القطار قادمًا فانخرطت في البكاء، فأثبت المحقق الواقعة، وأمر بتأجيل التحقيق قبل اتهامها بالتسبب في قطع قدمه اليمنى.