18 January 2016

إبراهيم عيسى: دم على نهد


إبراهيم عيسى

دم على نهد

بينهما منضدة صغيرة، عليها قماش نزعَته بيدها بعيدًا، وأوراقُها وقلم حبر بين أصابعها، وجهاز كاسيت صغير، وشريطان في حقيبتها، وهي تلف بإصبعها القلم في دوائر كاملة قلقًا وتوترًا. مد يده مرتجفة قليلًا، ارتجافًا لا تلحظه إلا عينا امرأة تحدق في تصرفات رجل، لمسها فذُعرت وارتجفت وارتدَّت تشعر بالمفاجأة.. على المكتب في آخر الغرفة انتبه الصول الجالس بشاربه الكث:
- فيه حاجة يا أستاذة؟
عيناه امتلأتا بالثقة والقوة واللامبالاة، وقال لها بثبات شديد:
- لم أقصد شيئًا، هذه الحركة العصبية تُضايقني فقط، أرجوكِ يا أستاذة مي توقَّفي عن حركتكِ بالقلم.
صدَّقته ببساطة، والتفتت إلى الصول:
- لا تقلق يا حضرة الصول.
كأن الصول كان يريد هذه الجملة ليهدأ ويعود إلى ضحكات سريعة مؤقتة.
- لم تقل لي يا محمود...
قاطعها:
- لماذا أصبحت أنا، محمود حلمي سفَّاحًا؟! لقد سئمت السؤال يا أستاذة.. سألوني لمدة عام كامل نفس السؤال، البوليس والنيابة والصحافة والتلفزيون وبرامج الإذاعة، الإخصائيون النفسيون، الكل سألني، ولم يعُد بداخلي سنتيمتر يكفي للإجابة عنه.
عادت مي تلملم أوراقها، وعادت برأسها إلى الخلف، ورفعت نظارتها وابتسمت ابتسامة خرقت المجال الفاصل بين حدودهما. كانت تستريح من هَم وعبء الأسئلة المزدحمة في داخلها، وكان هو لأول مرة يرى ابتسامة هنا بعد عام من السجن، وربما كان يرى هذه الابتسامة لأول مرة منذ سنوات طويلة، ربما منذ ولدته أمه عاريًا وصارخًا ومصحوبًا بدم فاسد أحمر قانٍ.
إذا جاز لنا أن نصف ابتسامة مي الجبالي فهي تمثل نصف مبررات الحياة كي يعيش قاتلٌ، لكن من المؤكد بنظرة موضوعية خالصة أن محمود حلمي المحكوم عليه بالإعدام لم يكن أمامه إلا أن تنقلب حياته بعد هذه الابتسامة؛ براعتها، بكارتها، كأنها أول ابتسامة تفلت من شفتين في الوجود، تفرُّدها كأنها ابتسامة مفصلة لك خصيصًا، ممنوحة لعينيك في برق لحظة! اهتز تمامًا.. وفقط.. بدأت أشياء غامضة تتراكم داخله وتزدحم وتنفعل وتتفاعل.. وانكشفت كل حصونه، اقترب من الكاسيت أكثر، كأنه يُدلي بتصريح فوري لوكالات الأنباء:
- تِعرَفي؟ أنا قلبي حجر صوان صلد، يعني لو شَقيتِ (رسم بإصبعه طريقة سريعة ومحترفة لشقِّ بطيخة) هنا لن تجدي قلبًا.. ساعات والله العظيم أحس إن ربنا بعت حد بالليل (لماذا بالليل تحديدًا؟) وفك صواميل قلبي كلها.. خلعها ومشى.
وضعت القلم في فمها فصدر صوتها مبلولًا بلعاب ما:
- لا يوجد أحد بلا قلب يا محمود. صلاح جاهين قال: «قلبي رميته وجِبت غيره حجر.. داب الحجر ورجعت قلبي رقيق».
في غمرة بلاهة انطلق صوت عالٍ ممزوج بضحكة متقطعة:
- عجبي!
فزعت، وقام الصول من غفلته، ثم عاد لما ألقى نظرة فوجد سكنًا تامًّا في تلك المنضدة التي بلاه الله بها منذ صبيحة هذا اليوم... استدعاه الضابط منذ يومين وأمره بإعداد غرفة النبطشي القديمة وتجهيزها (مروحة ومنضدة ومقعدان)، إذ ستحضر صحفية إلى السجن كل أسبوع لتقابل السفَّاح محمود حلمي لتعمل معه كتابًا. اندهش. هذه هي المرَّة الأولى التي يسمع فيها حكاية الكتب. كل يوم أو يومين يأتي صحفي أو صحفية لعمل حوار أو تحقيق لجورنال من داخل السجن، ويقعد في مكتب مأمور السجن، ونحضر له مَن يريد، أما حكاية كل أسبوع، وكتاب، وصحفية، ومحمود حلمي، فصعبة قليلًا. لكن متى كانت له أي كلمة في هذا المكان؟ ثم إن الولد محمود حلمي غريب وشرس وابن حرام، لا يملك قلبًا، وليست عنده أي مشكلة في أن يحطم ذراع أي حارس في السجن، ثم يدفع له مائة جنيه تعويضًا! كيف تأتيه هذه الشجاعة؟! ومن أين تأتيه كل هذه الفلوس؟! غريب وغامض، والكل يخشاه ويخافه، والله العظيم حتى المأمور يعامله معاملة مختلفة، لم يرها مع أي سجين آخر، ثم هذا محمود حلمي المُعدم رسميًّا، سيقتلونه، سيقتلونه رغم أنه أحيانًا يسمعه فجأة صارخًا وسط فناء السجن حيث الهدوء والصمت وكل واحد في حاله، وحيث لا أحد يقدر على إسكاته، يصرخ وهو واقف وحده مرتجفًا برعشة تسري في عضلاته وأعضائه:
- لن يعدموني يا كلاب!
فيه حاجة مع هذا الرجل.. رجل إيه؟ واد عمره 27 عامًا لا راح ولا جاء.. لكن ماذا تفعل؟
- حضرتك جميلة قوي!
بوغتت مي بهذه الجملة التي بدت تخرج بصعوبة من فم محمود، بصعوبة وبسرعة معًا.. كأنه يتخلص منها. لم تبتسم ولم ترد ولم تصد. حاولت أن تعطي كلامها بعض الحزم، وقليلًا من الصرامة (فشلت لكنها واصلت):
- اسمع يا محمود، هذه الجلسات لا أنا ولا أنت مُجبران عليها. أنا أريد كتابًا، لكن ليس على حساب أعصابي، وأنت تريد استراحة من جو السجن، ووافقتَ على الكتابة، فرصة للحياة قليلًا بعيدًا عن السجن والسجَّان. أنا أكيد مهتمة بشخصيتك، وأريد أن أعرف أكثر، وأريد أن يعرف الناس والأطباء والإخصائيون والقُرَّاء أكثر عنك؛ حتى نستطيع أن نكشف هذا العالم الذي نسمع عنه ونراه أحيانًا، لكن لا ندخل في أعماقه أبدًا.
وضع كفيه على بطنه كأنه يقاوم ألمًا:
- تريدين الدخول إلى أعماقي؟ أي! أي!
واصلتْ مخافة الضَّعف:
- محمود، بَطَّلْ تفاهة! اليوم ممكن تكون أول وآخر مقابلة.. لا تعرف أنت كيف عانيت للحصول على تصريح لقائك أسبوعيًّا وبعيدًا عن الزيارات الرسمية، ثم أنت قعدت أسبوعين على ما تجاوب وتوافق، إذا كنت تريد التهريج وترييح الأعصاب، فالكل حذَّرني من ذلك، قالوا لي لسنا في أمريكا.. ولن يُحدِّثكِ عن شيء، سيضحك عليكِ...
قاطعها وهو يضع إصبعه على أنفه الكبير الذي يظهر عليه قَطع مخيط بأكثر من غرزة قديمة:
- أنا شفتك قبل اليوم، أليس كذلك؟ رأيتكِ، صح؟ أيام القضية.. ولَّا لَما قبضوا عليَّ؟ أنا أعرفك وشُفتك.
سحبت دهشتها داخلها، ونظرت في عينيه مستعيدة جرأتها:
- ذاكرة قوية.. ولَّا استهبال على الآخر؟
ضحك ضحكة مخنوقة:
- لا، ذاكرة قوية.
«صح.. رأيتُك ورأيتَني من قبل، بعد يومين من القبض عليك. التقتكَ زميلتي في المجلة وكنت أنا معها؛ كانت خائفة وفي حاجة إلى رفيقة، ذهبت معها، يومها كانت كل ملامحك مدغدَغة، الدم الناشف فوق وجهك، وأنفك مقطعًا، والسلاسل في يديك وقدميك. قعدنا معك سبع دقائق في المديرية، ولم توجه نظرًا إليَّ، ولا إليها، واضعًا نظراتك في الأرض وصامتًا، كنت طوال الوقت تتكلم كلمة أو اثنتين وتسكت.. لغاية ما صورك المصور فرفعت رأسك ونظرت إليه بقوة كأنك تخاطب الناس بعينيك، كأنك تريد أن تنظر في أعين الملايين الذين سيرون الصورة، أو إنك عايز توجِّه نظرك إلى أحد بعينه وتريد أن تنظر في عينيه بقوة وتوجِّه إليه كل ما لديك من لغة، نظرات مليئة بالوعد والوعيد والكلام والحزن والتهديد والرقة. يومها قررتُ أنك مهم، وأن شيئًا ما داخلك، خرجت أنا وزميلتي، هي قرفانة مذهولة ومندهشة من نفسها، لأنها جلست مع سفَّاح قتل ثمانية في فندق، وأنا بُحت لها بتعاطفي معك. اتهمتني بالوحشية وبالإعجاب بالقتلة وبالخلل النفسي وبظروف الخروج من الطلاق، لكن.. لكن.. ماذا أقول؟».
كل هذا الكلام الذي قالته مي الجبالي قالته لنفسها لا لمحمود حلمي الجالس أمامها منتظرًا أي إجابة.. قالته ودفسته ودفنته داخلها، لا تعرف ما الذي يمكن أن تفهمه هي نفسها.. ماذا يمكن أن يخرج ذهنها به من هذا الكلام.. فما بالك لو سمعه محمود حلمي!
كأن وحيًا جاء فجأة:
- اسمع.. تريد أن نكمل؟ فلا غزل تافهًا! ولا محاولات عيال لجذب الانتباه! ولا كذب!
هكذا قالت بلا مواربة وبسرعة، كأنها تملي شروط هذه الحرب، فأجابها خاطفًا الكلام من فمها:
- ولا أريد شروطًا منك، ولا تحاولي إعادة تربيتي، ولا أريد أن أسمع أحكامًا على تصرفاتي؛ فأحكام القضاء العادل النزيه تكفيني.

لطيفة الزيات: الباب المفتوح



لطيفة الزيات
الباب المفتوح


1

كانت الأمسية، أمسية 21 فبراير سنة 1946، والساعة السابعة، والهواء ساكن، فيه برودة محببة، والجو نظيف كما لو كانت السماء قد أمطرت وغسلت الأرض، والقاهرة على غير عهدها لا تتلألأ بالأنوار، والناس على غير عهدهم لا يزدحمون في شوارعها الرئيسية، يدخلون دور السينما والمحال العامة ويخرجون منها ويتوقفون عند محطات الأتوبيس والترام.
كانت دور السينما مُضربة، وكذلك المحال العامة والأتوبيس والترام. وسيارات البوليس تمر في الشوارع ببطء محملة بجنود مسلحين بالبنادق، والمارة قلائل، جماعات من اثنين أو ثلاثة أو أربعة يسيرون في الشوارع في بطء أو يقفون عند مفارق الطرق ويتحدثون. يتحدثون بلهجات متباينة، وبمستويات لغوية مختلفة، ولكن الحديث يدور حول نفس الموضوع، حول ما حدث في الصباح في ميدان الإسماعيلية:
- يا سيدي التصادم ما جاش صدفة، التحرش كان مقصود، مظاهرة من 40000 شخص، مظاهرة قايمة أساسًا ضد الإنجليز، يقوم الإنجليز يخرجوا لها خمس عربيات مسلحة تمر وسطها!
- فوتك إنت، إحنا برضه بلد الجدعنة، العربية دهست الواد من هنا والتلاميذ رفعوا قميصه بالدم، والخلق تقولش اتجننت، هجمت على عربيات الإنجليز فرتكتها، وبقوا يرموا جتتهم على مدافع الإنجليز، تقولشي مدافع حلاوة!
- أنا شخصيًّا أعتقد إن المظاهرة دي كانت مرحلة جديدة من مراحل كفاحنا الوطني، أول حاجة اصطدام مباشر مع الإنجليز، تاني حاجة الجيش امتنع عن تفريق المظاهرة، ومش بس كده، عربيات الجيش كانت ماشية في البلد وعليها شعارات وطنية.
- ثم اشتراك العمال مع الطلبة والشعب كله.
- باقول لك أنا دي بلد الجدعنة، دا حتى النسوان خرجت من بيوتها.. شفت النسوان في باب الشعرية؟!
- المهم السلاح، الرصاص كان نازل من المعسكرات والشعب أعزل، لو كان الشعب مسلح!
- طيب شفت يا ابني الطوب لما نزل على الإنجليز زي المطر، يا خويا أنا باستعجب الخلق جاب الطوب دا كله منين؟!
- طيب ولما ولعوا النار في الحواجز إللي الإنجليز مستخبية وراها!
- الواد من دول كان يقلع جلابيته ويغرقها في البنزين ويولعها النار تشعلل، حتاكل جتته ولا يهمه، ويزحف والرصاص نازل عليه زي المطر ولا يهمه، ويزحف هاجم على...
- الهجوم النهارده ما كانش موجه ضد الإنجليز بس، الهجوم كان ضد الإنجليز والملك وعملاء الاستعمار على العموم، ودي مرحلة جديدة من مراحل الوعي الوطني، دا رأيي أنا شخصيًّا.
- أنا شخصيًّا لو عشت ميت سنة مش حانسى المنظر إللي شفته في سليمان باشا.
- أعلام.. أعلام من دم، دم إللي ماتوا وانجرحوا عشان مصر.
- 23 ماتوا و122 انجرحوا.
***
وبالنسبة لهؤلاء الناس كانت المعركة قد انتهت والمكاسب والخسائر قد تحددت، ولكن المعركة لم تكن قد انتهت بعد، ولا تحددت الخسائر بالنسبة لعائلة محمد أفندي سليمان الموظف بالمالية والذي يسكن بالمنزل رقم 3 بشارع يعقوب بالسيدة زينب.
وفي الصالة على كرسي أسيوطي مواجه للباب الخارجي، جلس سليمان أفندي يتمتم بآيات قرآنية، ويتوقف ما بين الحين والحين ليرهف السمع لخطوات على السلم تقترب من باب الشقة، ويركز عينيه الرماديتين على الباب ويجمد وجهه، ولكن الخطوات ما تلبث أن تتجاوز باب الشقة إلى الأدوار العليا، وتتهدل كتفاه ويشتد وجهه الأبيض شحوبًا وتبدو فيه نقط حمراء ثم يعود يتمتم بالآيات القرآنية.
وفي نافذة حجرة الاستقبال المجاورة للصالة وقفت زوجته، سيدة بيضاء مليحة ممتلئة قصيرة، وقد تدلى نصفها الأعلى من النافذة، وتركز كيانها في عينيها الصغيرتين العسليتين.. عينيها اللتين تدوران في محجريهما إلى اليمين وإلى الشمال، وتمتدان حتى تكادا تخترقان ظلمة الطريق.
وفي وسط حجرة الاستقبال أمام مائدة مستديرة وقفت ليلى، فتاة في الحادية عشرة من عمرها، سمراء، مليئة، ويدها تعبث في حركة آلية بصندوق خشبي للسجائر، وعيناها اللامعتان تنظران بعيدًا.. إلى لا شيء. وطرقت ليلى غطاء صندوق السجائر في عنف، وسارت إلى الصالة في خطوات ثابتة، وجاوزت أباها حيث يجلس، واتجهت إلى باب الشقة ووضعت يدها على المزلاج.
وارتجفت شفتا الأب وشحب وجهه ورفع إليها عينين باهتتين كأنهما عينا ميت، وقال بصوت مختنق:
- رايحة فين؟
وقالت هي بصوت فيه نبرة تحدٍّ:
- رايحة أفتش على محمود.
ولمعت عينا الأب الرماديتان وهلة، ثم أغمضهما وقال في صوت متهالك:
- امشي ادخلي جوَّه.
وعزز كلامه بإشارة من يده وكأنما شعر بضعفه.
واقتربت منه ليلى، ووقفت إلى جانبه، وأرادت أن تقول له شيئًا ولكنها لم تستطع، ومدت يدها تريد أن تضعها على كتفه، ولكن يدها وقفت في منتصف الطريق وبقيت وهلة مُعلَّقة في الهواء ثم سقطت إلى جانبها.. وجرت ليلى والدموع تغطي عينيها إلى أمها في حجرة الاستقبال، وأمسكت بذراعها وهمست:
- ماما.. ماما.
وارتجفت الأم وكأن تيارًا كهربائيًّا قد مسها، واستدارت وقد ارتسم الرعب على وجهها تقول في صوت ملهوف:
- إيه؟ فيه إيه؟
- ما تخافيش يا ماما، ما تخافيش. أنا عارفة إن محمود بخير. دلوقتي ييجي، ضروري ييجي، ضروري ضروري، الصبح...
وخنقتها الدموع ولم تستطع أن تُكمل.
وتململ أبوها في جلسته...
- الصبح، الصبح قلت له: «ما تخرجش يا محمود». وعند الباب وقف.. «ما تخافش يا بابا، دي مظاهرة سلمية». «يعني المظاهرة مش حتقوم من غيرك؟». وضحك محمود وقال: «طيب يا بابا لما كل واحد يقول كده، ما هي ما تقومش فعلًا». «إنت صغير، لما تبقى تروح الجامعة ابقى اعمل إللي إنت عايز تعمله». «أنا مش عيل، أنا في رابعة ثانوي، وعندي النهارده 17 سنة».
وجز الأب على شفته السفلى بأسنانه، لو ضربه، لو حبسه، لو رماه في حجرة وأخذ مفتاحها لعرف مكانه الآن على الأقل. لو بلغ البوليس الآن لقبض عليه، ولو قبض عليه.. إنه صدقي، صدقي باشا الذي يدفن الناس أحياء! ولكن ماذا يعمل؟ قد يكون مجروحًا.. قد يكون...
ودمدم الأب وهو يخزي الشيطان.
وبدأت الساعة المُعلَّقة في الصالة تدق، والأم تنصت لدقاتها، وتنفسها يكاد يتوقف، وأعلنت الساعة السابعة، وجمدت الأم في مكانها لحظة ثم اندفعت إلى الصالة ووقفت أمام زوجها تنظر إليه بعينين زائغتين وتقول:
- الولد راح! راح خلاص! راح!
وهي تضرب كفًّا بكف دون أن يسمع للضربة صوتًا.
وفجأة اكتسبت ملامحها اللينة الضعيفة صرامة غريبة وهي تقول:
- إن ما كنتش حتنزل...
وماتت الكلمات على شفتي الأم، وقام الأب من مكانه مضطربًا.. على السلم اتضحت خطوات، خطوات أكثر من شخص، خطوات ثقيلة بطيئة، خطوات تزحف.. وجرت ليلى إلى الباب وخلفها الأب واندفعت إلى السلم وصرخت:
- محمود!
وفقدت الأم توازنها وكادت تسقط ولكنها استندت إلى حافة المقعد.
وعندما دخل محمود مستندًا إلى كتف عصام سقطت على الأرض مغشيًّا عليها.
***
وفي صباح اليوم التالي طلبت ليلى أن ترى أخاها قبل أن تذهب إلى المدرسة، ونظرت إليها أمها بعينين حمراوين منتفختين نظرة غريبة وكأنها تخفي سرًّا، وأخبرتها بصوت هامس أن محمود ما زال نائمًا، وانزعجت ليلى من نظرة أمها وطريقتها في الكلام:
- فيه إيه يا ماما؟
ومالت الأم على ليلى وقالت بنفس الصوت الهامس وقد جمدت عيناها وكأنها ترى مسدسًا مصوبًا إليها:
- رصاصة، رصاصة دخلت في فخده!
- طيب ما أنا عارفة.
وتدخل الأب في المناقشة والصابون يغطي وجهه، وقال وهو يوجه الكلام إلى الأم:
- حاكم إنتِ تحبي تهولي كل حاجة، قلت لك الدكتور قال إنه جرح بسيط.. خدش.
وأشاحت الأم بيدها تستبعد كلام الأب، وسارت تصرف شؤون البيت على أطراف أصابعها والنظرة الغريبة في عينيها وكأنها تخفي سرًّا.
وهزت ليلى كتفها، ووقفت أمام باب الشقة في انتظار ابنة خالتها جميلة التي تسكن في الدور السابع من نفس العمارة، وفتحت ليلى الباب عندما لمحت يد جميلة تمتد من خلف الزجاج لتضرب الجرس، وخرجت وأقفلت الباب خلفها في بطء وحرص شديدين.
وعلى السلم قالت جميلة:
- مالك يا ليلى؟
- مفيش.
- لا والنبي صحيح.
وخرجتا إلى الشارع في طريقهما إلى المدرسة، وقالت ليلى:
- أما امبارح كان يوم!
- ليه؟ كان فيه إيه؟
وضربت ليلى على صدرها بيدها وهي تقول:
- هوَّ عصام ما قالش؟
وقالت جميلة في انزعاج:
- قال إيه؟
وشردت عينا ليلى في حركة تمثيلية وهي تقول في صوت هامس:
- على إللي حصل لمحمود، محمود أخويا.
وتوقفت جميلة وقد بلغ بها الانزعاج أقصاه، وقالت:
- ماله؟ ماله محمود؟
وجمدت عينا ليلى كأنها ترى مسدسًا مصوبًا إليها، ومالت على جميلة وهي تقول بصوت هامس وببطء:
- رصاصة.. رصاصة دخلت في فخده!
وسقطت الحقيبة من يد جميلة، ونظرت إليها ليلى لحظة ثم تابعت المشي، وجرت خلفها جميلة وأنفاسها متقطعة:
- رصاصة! والرصاصة دي جت له ازاي؟
ورفعت ليلى رأسها:
- الإنجليز ضربوه.. ضربوه عشان وطني، عشان بطل!
- ضربوه؟ ضربوه فين؟!
- هوَّ إنتِ ما تعرفيش حاجة أبدًا يا جميلة! في المظاهرة بتاعة امبارح في ميدان الإسماعيلية.
- والدكتور قال إيه؟ مش يمكن حاجة بسيطة؟
وأرادت ليلى أن تخبر جميلة بما قاله الطبيب وبما أكده أبوها، ولكنها رأت نظرة الخوف في عينيها والإكبار، وبدلًا من أن تقول الحقيقة قالت وهما تدخلان باب المدرسة:
- حيقول إيه؟ رصاصة!
رصاصة.. وطني.. مظاهرة.. وانتشر الخبر في المدرسة، ووجدت ليلى نفسها وهي التلميذة في أولى ثانوي موضعًا للاهتمام والإعجاب طول النهار. البنات الكبيرات يلتففن حولها، والمدرسات يستوقفنها في الممرات يسألنها وتجيب. وانتشت ليلى وانطلقت، انطلق خيالها: «اسمه؟»، «محمود سليمان». «عمره؟»، «17 سنة». «وما راحش المستشفى ليه يا ليلى؟»، «يروح المستشفى ازاي، دا يقبضوا عليه». «أمال عمل إيه؟»، «ساعة ما انجرح برضه فضل يضرب في الإنجليز، يضرب والدم ينزل منه، صاحبه يقول له: «كفاية، مفيش فايدة». وبعدين فضل وراه لغاية ما جرجره على بيته في عمارة «أسترا»، وجاب له دكتور قريبه عشان ما حدش يعرف، وفضل مستخبي لما الدنيا تضلم، لو كان خرج في النور وهو مجروح كده.. يا خبر!».
وفي نهاية اليوم الدراسي كان محمود أسطورة في المدرسة، كان هو الذي أشعل النار في العربات الجيب، وفي الحواجز التي اختفى خلفها الإنجليز. وهو... وهو...
***
وشعرت ليلى وهي تخرج من باب المدرسة بأسف لانتهاء اليوم الدراسي. وعند الباب استوقفتها عنايات وهي تشد على خصرها النحيل حزامًا من الجلد الأسود وترسل شعرها في خصلات على جبينها.
وتورد وجه ليلى.. كانت كل فتاة في فصلها تتمنى أن تكلمها عنايات.
وقالت عنايات وهي تعبث بطرف حذائها العالي في الرمل:
- محمود أخوكي شكله إيه يا ليلى؟
وبدا الارتباك على وجه ليلى، وقالت عنايات:
- يعني أسمر، أبيض، طويل، قصير؟
- لا هو أسمر ولا أبيض، ولا هو طويل ولا قصير.
وضحكت عنايات ومالت برأسها إلى كتفها:
- حلو!
واحمر وجه ليلى ثم رفعت وجهها مبتسمة في تحدٍّ:
- زي القمر.
ولتدلل على كلامها أبرزت صورة محمود من الحلية المُعلَّقة في صدرها.
ودرست عنايات الصورة في تمعن ثم ضمت شفتيها وقالت:
- مش بطَّال، جذَّاب.
وأخذت ليلى الحلية ولبستها في رقبتها وهي تنظر إلى الأرض، ثم رفعت رأسها فجأة:
- حاقول لمحمود، عنايات بتقول عليك جذاب.
- وهوَّ محمود يعرفني منين؟
- كل طلبة الخديو إسماعيل بيعرفوكِ، وكمان بيقولوا إنك ملكة جمال السَّنية.
وضحكت عنايات في رضا، ثم قرصت خد ليلى:
- إوعي يا ليلى.. أحسن أزعل منك.
ودبت ليلى على الأرض بقدمها:
- حاقول، حاقول.
وانطلقت تجري إلى البيت واندفعت إلى حجرة محمود:
- محمود...
***
ولم تكمل، شعرت أن الجو مكهرب، كان محمود نائمًا على جنبه مواجهًا للحائط وعيناه مسمرتان عليه، وكأنه لم يتحرك منذ الأمس، لم يغير موضعه. وعصام ابن خالتها يجلس على حافة السرير وهو يحك ذقنه بيده، وإلى جانبه وقفت أمها وفي يدها كوب من الليمون. وقالت الأم:
- قوم يا ابني، قوم بل ريقك.
ولم يبدُ على محمود ما يدل على أنه قد سمع.
وتقدمت الأم ووضعت الليمون على مائدة قريبة، ومالت على السرير ومدت يدها تتحسس جبين محمود:
- مالك يا ابني؟ طمني؟ فيك إيه؟ حاسس بإيه؟
واربد وجه محمود وقال دون أن يستدير:
- مفيش.
- مفيش ازاي؟
والتفتت الأم إلى عصام:
- عاجبك الحالة دي يا عصام! أهو من ساعة ما جه وهوَّ مكتوم الكتمة السودة دي!
وفجأة استدار محمود على السرير وجلس وواجه أمه وهو يصيح بصوت أعلى من صوته، صوت يجد صعوبة في إخراجه من حنجرته:
- عشان إيه الدوشة دي؟ عشان إيه؟ قلت لك خدش، لعب عيال.. لعب عيال!
وانهار صوته وهو يكرر الكلمتين الأخيرتين وسقط على ظهره منهكًا، ورمقته أمه لحظة.. كان وجهه شاحب البياض وعيناه الخضراوان واسعتين لامعتين كأنه محموم، وحبات العرق تتجمع على جبينه.. وفتحت الأم فمها لتقول شيئًا ثم أطبقته واستدارت خارجة، وعندما وصلت إلى الباب قال محمود بصوت ضعيف:
- ماما.
وعادت الأم ووقفت على مبعدة منه، وجلس محمود في السرير وأشار لها أن تقترب، وعندما أصبحت على مقربة منه مال عليها بوجهه وكأنه يسر لها بشيء، وقال بصوت هامس:
- عارفة، عارفة لما تدبحي الفرخة، والدم يسيح والفرخة ترفس دقيقة، دقيقة واحدة وتسكت على طول.. تخلص؟
واربدت عينا محمود وانقلب وجهه ونزل بقبضته على المائدة المجاورة للسرير وهو يقول بصوت يختلط به العويل:
- ناس كتير ماتوا! ماتوا بالشكل ده!
وقالت أمه:
- أحسن لك تنام شوية يا محمود.
ومدت يديها إلى كتفيه تريد أن تساعده على الاسترخاء، ونحى هو يديها عنه في بطء وعيناه تبحثان عن عيني عصام:
- ليه؟ ليه يا عصام؟
وهز عصام كتفه وقال بصوت هادئ:
- ليه إيه؟
وهز محمود رأسه لحظة وكأنه يفيق من كابوس، وأسند رأسه إلى ظهر السرير وقال:
- مفيش.
وخرجت الأم من الغرفة، وحلت ليلى محلها إلى جانب المائدة المجاورة للسرير، ووقفت تنظر إلى محمود في وجوم.
وساد السكون لحظة ثم قال عصام:
- يعني مش عايز تتكلم!
- وإيه الفايدة؟ لو قلت لك مش حتفهم، إنت راجل كلك عقل وحكمة واتزان.. راجل ما يندفعش، ما يضعفش.
- بلاش تريقة وحياة أبوك!
وابتسم محمود ابتسامة خفيفة وتسللت الحمرة إلى وجهه وهو يقول:
- إنت عارف يا عصام أنا حاسس بإيه؟ أنا حاسس كأني انضربت علقة، علقة حامية، وما قدرتش أضرب إللي ضربني، ما قدرتش حتى أصرخ!
وارتجفت شفتا ليلى، وتقلص وجهها تقلصات متتالية كأنها تعاني ألمًا داخليًّا، وقال عصام:
- يوم ما حيكون السلاح في إيدنا مش...
وقاطعته ليلى صارخة:
- محمود...
واندفعت إلى أخيها، وقالت في صوت باكٍ وهي تهز كتفيه:
- محمود.. إنت إللي ضربت الإنجليز مش همَّ إللي ضربوك.. إنت.. إنت يا محمود!
ولم يجب محمود، واستدارت هي برأسها إلى عصام ويداها على كتفي محمود، وقالت في استعطاف:
- عصام، محمود هوَّ إللي ضرب الإنجليز، مش كده يا عصام؟
وقال عصام وهو يبتسم باستخفاف:
- ودي عايزة كلام!
ولم تقتنع ليلى، استدارت إلى محمود وقالت بصوت مختنق:
- إنت، إنت يا محمود إنت.
وحاول محمود أن يتجنب عينيها ولكنهما واجهتاه وفيهما مزيج من الأمل واليأس المميت.. ودفن رأسها في كتفه، وقال وهو ينظر بعيدًا:
- أيوه يا ليلى.. إحنا إللي ضربنا الإنجليز.
وضحكت ليلى على كتفه ضحكات متلاحقة مختلطة بالنشيج، ثم رفعت رأسها مبتسمة وقالت والدموع تلمع في عينيها:
- أنا عارفة.. عارفة كده، وكمان قلت لهم في المدرسة.
وقال محمود:
- قلت لهم إيه؟
- كل حاجة.. والمدرسات مبسوطين منك و...
ووضع محمود يده على فمها، ونحت ليلى يده وهي تضحك وتقول في خبث:
- وحتى عنايات بتقول عليك حلو!
وحاول محمود أن يكتم ابتسامته.
وقال عصام:
- عنايات! عنايات مين؟
والتفتت إليه ليلى ويداها ما زالتا تحيطان بكتفي أخيها:
- يعني مش عارف عنايات.. ملكة جمال السَّنية؟!
وقال عصام:
- يا ابن الإيه! عنايات حتة واحدة!
وغرق محمود في الضحك. وشعرت ليلى أن مهمتها قد انتهت، فنزلت من السرير واندفعت تجري، واستوقفها محمود عند الباب:
- ليلى.
- أفندم.
- أولًا إنت كدابة.
- كدابة! كدابة ليه؟
- يعني، يعني.. عنايات حتشوفني فين عشان تقول عليَّ حلو ولَّا وحش؟
وأخذ عصام يرقبهما وقد علت شفتيه ابتسامة ماكرة.
وقالت ليلى وهي تشير إلى الحلية في صدرها:
- شافت صورتك دي.
وبدأ الاهتمام في عيني محمود:
- وريني كده.. أنهي صورة دي؟
وتركتها بين يديه، يفحصها باهتمام.
واتسعت ابتسامة عصام، ووضع يده على فخذ محمود وقال:
- محمود.
والتفت إليه محمود ويده اليسرى ممسكة بالحلية:
- أيوه يا عصام.
- إيه أخبار العلقة دلوقت؟
ولكز محمود عصام بقدمه وترك الحلية تسقط من يده على الأرض، وركعت ليلى على ركبتيها وانحنت بجسمها لتلتقط الحلية، والتقطتها ثم رفعت جسمها لتقوم، وحين أصبح رأسها بحذاء رأس محمود توقفت ولمعت عيناها وكأنما خطرت لها فكرة رائعة، وقالت:
- أنا كمان لما أكبر حاضرب الإنجليز.. حاضربهم بالسلاح.. لما أكبر.
وقال عصام:
- ودي عايزة كلام.
ونهضت ليلى بسرعة، واتجهت خارجة وهي تقفز قفزات رتيبة كما يفعل المتظاهرون، وترفع يدها اليمنى وتخفضها وتقول منغمة:
- السلاح السلاح.. نريد السلاح.
وفجأة تسمرت في مكانها وسقطت ذراعها إلى جانبها وماتت الكلمات على شفتيها.. اصطدمت بأبيها وهو يدخل الحجرة.
***
وبعد أيام قليلة عادت الحياة تجري مجراها العادي، وتشغل كل فرد بمطالبها اليومية، وبدا الناس كما لو كانوا قد نسوا ما حدث، ورجع محمود إلى مدرسته ولم يعد أحد يسأل ليلى عنه ولا عن المظاهرة. وأحست ليلى بمرارة في بادئ الأمر ثم بدأت تنشغل بأمورها الخاصة هي الأخرى.
وفي ذلك الصباح استيقظت مبكرة كعادتها لتقرأ الجريدة قبل أن يستيقظ أبوها وأخوها، وجلست على المقعد الأسيوطي في مواجهة باب الصالة وعيناها تنتقلان بين عتبة الباب والساعة، واندفعت الجريدة من تحت العتبة. وحين فرغت ليلى من قراءتها كانت الساعة السادسة والنصف ولم يستيقظ أحد بعد، لا أبوها ولا أخوها محمود.
وقامت وهي تتمطى في ارتياح، وألقت بالجريدة على المقعد، وقبل أن تصل إلى غرفتها رجعت وأعادت طيها ومرت بأصابعها على أطرافها وهي تجز على شفتها السفلى غيظًا لاضطرارها إلى ذلك العمل خوفًا من تعليقات أبيها. وأسرعت إلى غرفتها تسدل على جسمها مريلة المدرسة، وتبحث محمومة عن الشراب والحذاء تحت السرير والدولاب، وتمشط شعرها الأسود القصير وهي تضع قدميها في الحذاء، وتخطف كتابًا من على المائدة وآخر من تحت وسادة السرير وتلقي بهما في حقيبتها الجلدية، ثم تندفع إلى حجرة الطعام وكأن إنسانًا يطاردها، ولا تتوقف حين تصطدم بأخيها محمود ولكنها تبطئ خطاها حين ترى أباها يقف أمام الحوض يحلق. وتضع على شفتيها ابتسامة مؤدبة:
- صباح الخير يا بابا.
ويدمدم أبوها بشيء غير مفهوم وهو يلقي برأسه إلى الخلف يزيل بآلة الحلاقة شعرات في رقبته.
وما إن تختفي خلف باب حجرة الطعام حتى تصرخ تطلب الأكل، وتنظر إليها أمها:
- الفول لسه ما جاش.
ولا تثبط من همتها نظرة البرود التي تطالعها بها أمها.
- أي حاجة.
- ملحوقة على إيه؟ الساعة لسه سبعة والجرس تمانية ونص!
- والمشوار؟
- عشر دقايق.
- أنا عايزة آكل والسلام.
وتنتزع مقعدًا من على المائدة وتغرسه في الأرض بقوة، وتجلس وتبسط قطعة من الجبن في نصف رغيف من العيش وفوقها طبقة رقيقة من المربى، وتقضم من الساندويتش قطعًا تجد صعوبة في ابتلاعها لتخرج مسرعة إلى المدرسة، وتقذف بحقيبتها على العشب وتنضم إلى زميلاتها، ثم يدق الجرس وتستعيد بعد طول بحث حقيبتها لتدخل حصة الحساب.
***
وتجلس على مقعدها، وتضع ذراعها على الدرج وتسند إليها وجهها وقد تعلقت عيناها بيد المُدرسة وهي تكتب على السبورة... ضروري ضروري تفهم كل كلمة وكل عدد، ضروري. أبلة نوال قالت إنها بقت أحسن في الحساب ولكن لازم تبقى أحسن وأحسن، أحسن واحدة في الفصل عشان أبلة نوال تحبها، ضروري تحبها ضروري.
وكانت هذه هي الضرورة الوحيدة في حياة ليلى في هذه الفترة، ضرورة التغلب على هذه المُدرسة النحيلة التي تشد شعرها وتجمعه خلف رأسها، وتلبس ملابس شبيهة بملابس الرجال، وتركز عينيها الصغيرتين المستديرتين فيك وكأنها تستطيع أن تنفذ إلى أفكارك، وتختفي شفتاها الرقيقتان وهي تكتم ابتسامتها.
وفي أول السنة وضعت ليلى على شفتيها ابتسامة مؤدبة، وجلست في حصة الحساب وقد ربعت ذراعيها، وتجاهلت همسات عديلة التي تشاركها الدرج، بل ذهبت أكثر من ذلك واكتفت بأن تجز بأسنانها على شفتها السفلى حين لكزتها عديلة بقدمها، كل ذلك وأبلة نوال ولا هيَّ هنا. وفي آخر الحصة انتظرت ليلى حتى فرغت آخر تلميذة من وضع كراستها على مائدة المُدرسة ووضعت كراستها وسوت كومة الكراريس واستعدت لتسير بها إلى حجرة المُدرسات خلف أبلة نوال، ولكن أبلة نوال ضغطت على شفتيها وأخذت منها الكراريس بعد أن شكرتها. وتحيرت ليلى من هذه المُدرسة الغريبة التي ترفض أن تحمل تلميذة كراريسها. ولكنها لم تيأس، فهناك طريقة تنجح دائمًا، فأنت تعطي المُدرسة وردة جميلة، وحين تدخل حجرة المُدرسات بأي حجة تجد المُدرسة وأمامها الوردة في كوب، وتعرف حينئذ أن ارتباطًا ما قد بدأ بينك وبينها. ألم تحتفظ بالوردة، وردتك في الكوب أمامها؟ ولكن أبلة نوال لم تحتفظ بالوردة في الكوب، ولم تخرج بها حتى من الفصل... أخذتها نفيسة، نفيسة ذات الأنف الأفطس والشعر الأكرت. بدأ كل شيء طبيعيًّا ثم تحول، في أول الحصة أعطت ليلى الوردة للمُدرسة، قربت أبلة نوال الوردة من أنفها وشمتها ثم وضعتها في عناية على كراسة التحضير، ووقفت تكتب مسائل الحساب على السبورة، وقبل أن تكمل كتابة المسألة الأولى استدارت فجأة وواجهت الفصل:
- أول واحدة حتحل المسألة دي حتاخد مني الوردة.
وأخذتها نفيسة، وجمد وجه ليلى وقررت أن تخاصم أبلة نوال وخاصمتها فعلًا، ولكن حدث في البيت ما جعلها ترجع عن قرارها، طلبت منها أمها أن تناولها المنبه لتملأه فسقط منها المنبه وتحطم زجاجه، تحطم كما تحطمت الزهرية الخضراء ذات الورد الأبيض، وكما تحطمت العروس التي تفتح عينيها وتقول: «ماما»، وكما يتحطم في البيت كل شيء، كل شيء في يديها. وصرخت أمها صرخة طويلة وكأن حريقًا شب في البيت، واتجهت نحوها وقد احمر وجهها، وضربتها على كفيها ثم مسحت العرق من على جبينها وهي تقول:
- لكن أعمل إيه، أعمل إيه في بختي المنيل، ربنا شقيك من كله، ربنا ياخدك أحسن ويريحنا.
وأنهى أبوها الموضوع، وقف على باب حجرته هادئًا وقال بصوت قاطع وبلا غضب:
- أنا قلت إن دي مش بنت.. دي فتوة!
ثم دخل غرفته وأقفل وراءه الباب.
***
ووقفت ليلى أمام المرآة البيضاوية في حجرتها وأخرجت لسانها ثم أخذت تحركه في حركة دائرية حول شفتيها.
- بنت.. بنت.. بنت ظريفة.
أبلة الناظرة قالت في الحوش وقرصتها في خدها، أبلة الناظرة بتحبها وأبلة زينب وأبلة زاهية وأبلة رتيبة وكل المُدرسات.. كل المُدرسات إلا... وسحبت ليلى لسانها وأطبقت فمها.. إلا أبلة نوال، ضروري، ضروري كل واحدة في المدرسة تحبها، ضروري أبلة نوال تحبها، وأغمضت عينيها وأدارت ظهرها إلى المرآة.. رأت نفيسة تقرب إلى أنفها الأفطس وردة حمراء - ثم خطرت لها فكرة وأسرعت إلى حقيبة كتبها وأخرجت كراسة الحساب والكشكول وقلم رصاص وانبطحت على الأرض وفتحت الكراسة من أولها.
وبدأت محاولة عنيفة من جانب ليلى للتغلب على الأرقام.. أرقام عارية تقفز أمام عينيها بلا معنى، تتفرق وتتجمع، وتتضاعف وتنقسم ثم تواجهها بالحل يحدق فيها.. أبلة نوال قالت: «استعملي عقلك»، ولكن في الحساب عقلها جامد لا يمشي، في الإنشاء العربي يمشي عقلها، كلمة تجر كلمة وجملة تجر جملة وتسرع يدها تلاحق عقلها، وهي طائر يحلق في السماء عاليًا فوق كل الطيور ويعود إلى العش بالحب لطيوره الصغيرة يحيطها بجناحيه ويدفئها، وهي طفلة تائهة في الطريق بين ناس غرباء ينظرون إليها ولكنهم لا يرون دموعها، وهي «مدام كوري» وبطل يحطم قضبان السجن لينقذ شعبه من الاستعمار، وهي كل هذا وأكثر من هذا، أو هي على الأقل معهم. أما في الحساب فهي مع بقال يبيع سكرًا ويشتري زيتًا، ومع صنبور يقطر في الدقيقة عددًا من قطرات الماء، ومع حوض يمتلئ بهذه القطرات، ومع أرقام تقفز أمام عينيك بلا جمال ولا معنى. معنى أو لا معنى، من الضروري أن تفهم كل كلمة وكل حرف. وبدأت تتغلب على الأرقام، تجمع خيطًا من هنا وخيطًا من هناك وتلفها وتمسك بها بين قبضتها في فرح. وبدأت تتقدم وأبلة نوال تشجعها خطوة وراء خطوة حتى لم يتبق أمامها إلا نفيسة، فما زالت نفيسة تحل المسائل قبل أن تحلها هي، وما زالت درجات نفيسة في الكراسة أحسن من درجاتها. وتركز كيان ليلى في هذه الفترة في محاولة التغلب على نفيسة.
***
وقامت نفيسة ترد على سؤال لأبلة نوال، قامت في بطء، وتكلمت في بطء، وأجابت الإجابة المطلوبة لا أكثر ولا أقل.. هل يمكن أن تسبق نفيسة؟ إن نفيسة قوية في الحساب، طول الدراسة الابتدائية وهي أقوى منها بمراحل، فهل يمكن أن تسبقها في حساب أولى ثانوي وحساب أولى ثانوي صعب، وهيَّ ضعيفة، ضعيفة في الحساب وفي كل شيء؟
ووجهت أبلة نوال لليلى سؤالًا مفاجئًا، وتلعثمت ليلى ثم أجابت. وجلست وانصرف اهتمامها إلى حل مسائل الحساب، وساد السكون الفصل وأبلة نوال تمر بين الصفوف تقرأ الحلول من فوق رؤوس الطالبات.
وحين وقفت أبلة نوال إلى جانب ليلى أطرقت برأسها وبقي القلم مُعلقًا في يديها وكأنها تفكر. وقرأت أبلة نوال الحلول وضمت شفتيها ومالت على ليلى:
- بقينا هايلين خالص.
والتقت عينا ليلى بعيني أبلة نوال وهي تميل عليها، وشعرت بشيء يقف في حلقها وابتلعت ريقها في صعوبة. ومدت أبلة نوال يدها تثير شعر ليلى وكأنها تمشطه من أسفل إلى أعلى ثم مضت في طريقها.
ومدت ليلى كفيها إلى رأسها تسوي شعرها ولكنهما جمدتا لحظة في مكانهما وطفرت الدموع إلى عينيها، وأدركت أنها تستطيع أن تسبق نفيسة وعشرًا مثل نفيسة ما دامت أبلة نوال معها.
***
وقفت ليلى بعد انتهاء اليوم الدراسي تحت شجرة الجميز في المدرسة، وعلى المقعد الخشبي المواجه لها جلست جميلة وإلى جانبها على العُشب سناء وفي الوسط وقفت عديلة.
كانت عديلة تُقلد مُدرسة اللغة الإنجليزية، تضغط خديها ويتصلب جسمها وتمشي جامدة دون أن تحرك ذراعيها وترفع ساقًا في حركة عمودية إلى أعلى ثم تسقطها لترفع الأخرى، ويخرج صوتها غائرًا وكأنها دمية خشبية. وغطت جميلة وجهها بيديها وهي تضحك، ومالت سناء تسند بطنها بيدها، وتكورت وجنتا ليلى وضاقت عيناها واندفعت الضحكات من فمها في موجات تتابعت ثم تلاحقت وتشابكت حتى كادت تحول بينها وبين التنفس. وأولت ظهرها إلى زميلاتها وهي تستند إلى شجرة الجميز لتستجمع أنفاسها، وأخرجت المنديل من جيبها لتجفف دموعها، ووقفت يدها في الهواء قبل أن تصل إلى عينيها.
أدركت فجأة أن عديلة قد بدأت جملة ولم تكملها، وأن الضحك قد توقف، وأن شيئًا ما قد حدث، شيئًا غير مرغوب فيه.
واستدارت ليلى تواجه زميلاتها.
كانت سناء قد أرخت عينيها إلى الأرض وراحت تقتلع العُشب بسرعة، ما تكاد تفرغ من اقتلاع قبضة حتى تقتلع غيرها وكأنها مكلفة بذلك العمل. وكانت جميلة تنظر ساهمة إلى الأفق البعيد.
وقالت عديلة:
- إيه الأحمر إللي في مريلتك يا ليلى؟
وأدارت ليلى رأسها وجذبت ظهر المريلة إلى الأمام، وقالت وقلق بسيط يتسلل إليها:
- ضروري حبر.. حيكون إيه يعني؟
وهزت جميلة رأسها تنفي هذا الاحتمال، ونظرت إلى ليلى نظرة طويلة، نظرة حزينة. واندلع خوف غامض في جسد ليلى، وهمت بالاندفاع إلى أحضان جميلة ولكنها لم تندفع، لمحت في عيني عديلة نظرة ساخرة متعالية، وجمدت مكانها.
وقالت عديلة وهي تبتسم في استخفاف:
- مبروك يا ست ليلى، بلغتِ.
وسحبت جميلة ليلى برفق، وفي دورة المياه قطعت البقعة الحمراء من مريلتها بموس.
وحين رأت أم ليلى المريلة قالت:
- طيب يا بنتي ما غسلتيش البقعة ليه بدل ما تقطعي المريلة؟!
ولكن الأم لم تعنف ليلى هذه المرَّة.
***
اعتدلت ليلى في سريرها في بطء وحرص شديدين وكأن جسدها من زجاج هش سهل التحطيم، ونامت على ظهرها وعيناها تحدقان في الظلام.. غريبة! إنها لم تشعر بذلك الثقل في جسمها قبل أن ترى هذه النظرة في عيني جميلة.. نفس النظرة التي رأتها في عيني أمها.
حدث لها ما حدث قبل أن تكتشف الأمر عديلة، ربما من الصباح، ومع ذلك لم تحس هذا الصباح بتعب في جسمها، بالعكس، شعرت أنها خفيفة، وأنها تريد أن تجري وتضحك وتدفن رأسها في أزهار الحديقة، شعرت أنها قوية وأنها ذكية وأنها تستطيع أن تسبق نفيسة في الحساب.. واكتشفت ليلى فجأة وعيناها تحدقان في الظلام، أن كل شيء قد فقد أهميته.. أبلة نوال ونفيسة والحساب.. كل شيء وكأنما قد حدث لها كل ذلك من زمن بعيد. وأغمضت عينيها وحاولت جاهدة أن تسترجع صورة أبلة نوال وهي تميل عليها، وركزت فكرها حتى شعرت بعرق ينفر في جبينها، ومع ذلك بدت لها الصورة باهتة لحظة واحدة ثم طمست خطوطها صورة شجرة الجميز وجميلة وهي تنظر إليها بعينين تعكسان حنانًا حزينًا.
وقالت ليلى بصوت مسموع:
- ليه يا جميلة ليه؟ أنا عايزة أكبر عايزة أكبر.
وعادت تحدق في الظلام.
تكبر وتصبح مثل أمها، لا، مثل... مثل مفتشة التاريخ ذات الجبين الأبيض العريض، والرأس المرفوع إلى أعلى، والشعر الأسود الطويل الملفوف، والمشية الهادئة كمشية الملكات.
وسمعت ليلى الباب الخارجي للشقة يفتح، وتسرب إليها نور الصالة ثم اختفى حين اتجه أبوها إلى غرفته المجاورة لغرفتها.
عندما عادت من المدرسة كان قد خرج، وعلى المائدة قالت أمها إنه مدعو للعشاء.
سيعرف أبوها الآن، سيعرف حتمًا، ستخبره أمها، ترى ماذا يقول؟ سيفرح طبعًا كما فرح عندما بدأ الشعر ينمو في ذقن محمود.
في الصالة استوقف أبوها محمود، وجذبه تحت النافذة في الضوء، ونظر إليه طويلًا نظرة خُيل إلى ليلى معها أن أباها لم يعد يقف على الأرض بل يطير بمحمود عاليًا. ثم تورد وجهه وضحك ضحكًا طويلًا بلا سبب.
وساد السكون طويلًا خافتًا، وعينا ليلى تحدقان في الظلام وكأنهما تنتظران شيئًا، وسمعت أمها تتكلم بصوت منخفض، وتصلب جسمها حين تبينت اسمها يتردد في الحديث، ثم أطبق الصمت مع الظلام على الحجرة من جديد.
وقطع الصمت صوت نحيب، وقفزت ليلى كالملدوغة من السرير ثم وقفت مُسمَّرة في وسط الحجرة حين عرفت في الصوت صوت أبيها، واختلط النحيب بدعاء يقطعه ما بين الحين والحين صوت أمها هادئًا منخفضًا:
- يا رب تقدرني يا رب، دي ولية يا رب!
- كفاية يا سيدي البنت تسمعنا!
- الستر يا رب الستر!
وانخفض الصوت تدريجيًّا، وأعقبته غصة ثم صمت.
وشعرت ليلى بخواء في صدرها، وسرت الرجفة في شفتيها وفي يديها وساقيها، وانسحب مجرى من العرق من أعلى رقبتها إلى أسفل ظهرها، وتخبطت في الظلام تبحث عن الباب، وهمَّت أن تصرخ تنادي أمها.
- ما تخافيش يا بنتي.
أمها قالت العصر. وماتت الصرخة على شفتيها، وجرت ساقيها إلى السرير، وتمددت على ظهرها.
- ما تخافيش يا بنتي ما تخافيش، إنت كبرت.. كبرت.
وسحبت ليلى الغطاء على جسمها وعلى وجهها حتى طرف رأسها.
***
ولم تفهم ليلى تلك الليلة لِمَ نظرت إليها جميلة هذه النظرة الحزينة ولِمَ بكى أبوها، ولكنها فهمت على مر السنين، فهمت أنها ببلوغها دخلت سجنًا ذا حدود مرسومة، وعلى باب السجن وقف أبوها وأخوها وأمها، والحياة مؤلمة بالنسبة للسجان والسجينة: السجان لا ينام الليل خشية أن ينطلق السجين، خشية أن يخرج على الحدود، والحدود محفورة، حفرها الناس ووعوها وأقاموا من أنفسهم حراسًا عليها. والسجينة تستشعر قوى لا عهد لها بها، قوى النمو المفاجئ، قوى جارفة تسعى إلى الانطلاق، قوى في جسمها تطوقها الحدود، وقوى في عقلها تشلها الحدود، حدود بلهاء عمياء صماء.
ورسم أبوها الحدود العامة وهم جلوس على مائدة الغداء، قال في صوت هادئ قاطع:
- إنتِ ضروري تدركي يا ليلى إنك كبرتِ، ومن هنا ورايح خروج لوحدك مفيش، زيارات مفيش، من المدرسة على البيت!
واتجه بعينيه إلى محمود وأضاف:
- ومش عايز أشوف في البيت روايات ولا مجلات خليعة! فاهم؟
وأطرق محمود ولوى شفته السفلى، وقال الأب في صوت أرق:
- إللي إنت عايز تقراه اقراه برَّه ولَّا اخفيه، أنا مش عايز حاجة تسمم أفكار البنت!
والتقت عينا الأب بعيني محمود في نظرة رجل لرجل، وابتسم محمود ابتسامة من يعرف ويفهم، واستأنف الأب كلامه:
- وكمان يا محمود أنا مش شايف داعي إن أصحابك يزوروك في البيت، يا أخي مش كفاية القهوة والنادي؟
واتسعت ابتسامة محمود:
- كفاية يا بابا! بس المهم عصام، عصام بيذاكر ويايا!
ورفعت الأم عينيها عن الطبق وقد ارتسم فيهما قلق:
- عصام! هوَّ عصام غريب؟! عصام ابن خالتك يا ابني، هيَّ ليلى حتتغطى على ابن خالتها؟!
ومسح الأب فمه بالفوطة:
- عصام معلهش، عصام منا وعلينا.
ولم تقل ليلى شيئًا - لم يكن أحد ينتظر منها أن تقول شيئًا. وبدأ دور الأم. دور لا ينتهي.. حتى أصبحت ليلى تلتفت خلفها كلما سمعت خطوات، تنتظر تعنيف أمها لها عن شيء حدث منها ولا تعرف ما هو، شيء «خارج» أو «ما يصحش» أو «ما يليقش ببنت ناس، بنت محترمة».. الضحكة الطليقة النابعة من القلب خارجة.. «خارجة ليه؟»، «عالية». والكلمة المخلصة الصريحة خارجة.. «خارجة عن إيه؟»، عن الأصول، «فيه حاجة اسمها الأصول».. والقعدة:
- إنت يا تقعدي مجعوصة، يا تحطي رِجل على رِجل؟! الناس تقول إيه؟ «مش متربية»؟
- أنا زهقت من الناس! مش عايزة أشوف حد!
- لأ، ضروري الناس تشوفك. يقولوا: «مستخبية ليه؟ كتعة ولا عرجة!».
وإذا مانعت في الدخول للضيوف اتهمتها أمها بأنها «براوية ما بتحبش حد»، وإذا دخلت لامتها لأنها لا تسامرهم، وإذا تكلمت لامتها لأنها تتدخل في شؤون الكبار، وإن أطالت جلستها أشارت لها بالخروج، وإن خرجت مسرعة قالت لها: «إنت كنت ملحوقة على إيه؟».
- أنا في الحقيقة احترت وياكِ يا ماما، كل حاجة أعملها تطلع غلط في غلط!
- إللي يمشي على الأصول ما يغلطش.
- وإيه هيَّ الأصول دي؟!
- الأصول إن الواحد...
وتضيف الأم حدودًا جديدة، كقطرات الماء تسقط بروي ونظام، يسلب رويها ونظامها النوم من عيني النائم، ساعة بعد ساعة ويومًا بعد يوم وسنة بعد سنة.
وسنة بعد سنة نمت ليلى.