18 January 2016

إبراهيم عيسى: دم على نهد


إبراهيم عيسى

دم على نهد

بينهما منضدة صغيرة، عليها قماش نزعَته بيدها بعيدًا، وأوراقُها وقلم حبر بين أصابعها، وجهاز كاسيت صغير، وشريطان في حقيبتها، وهي تلف بإصبعها القلم في دوائر كاملة قلقًا وتوترًا. مد يده مرتجفة قليلًا، ارتجافًا لا تلحظه إلا عينا امرأة تحدق في تصرفات رجل، لمسها فذُعرت وارتجفت وارتدَّت تشعر بالمفاجأة.. على المكتب في آخر الغرفة انتبه الصول الجالس بشاربه الكث:
- فيه حاجة يا أستاذة؟
عيناه امتلأتا بالثقة والقوة واللامبالاة، وقال لها بثبات شديد:
- لم أقصد شيئًا، هذه الحركة العصبية تُضايقني فقط، أرجوكِ يا أستاذة مي توقَّفي عن حركتكِ بالقلم.
صدَّقته ببساطة، والتفتت إلى الصول:
- لا تقلق يا حضرة الصول.
كأن الصول كان يريد هذه الجملة ليهدأ ويعود إلى ضحكات سريعة مؤقتة.
- لم تقل لي يا محمود...
قاطعها:
- لماذا أصبحت أنا، محمود حلمي سفَّاحًا؟! لقد سئمت السؤال يا أستاذة.. سألوني لمدة عام كامل نفس السؤال، البوليس والنيابة والصحافة والتلفزيون وبرامج الإذاعة، الإخصائيون النفسيون، الكل سألني، ولم يعُد بداخلي سنتيمتر يكفي للإجابة عنه.
عادت مي تلملم أوراقها، وعادت برأسها إلى الخلف، ورفعت نظارتها وابتسمت ابتسامة خرقت المجال الفاصل بين حدودهما. كانت تستريح من هَم وعبء الأسئلة المزدحمة في داخلها، وكان هو لأول مرة يرى ابتسامة هنا بعد عام من السجن، وربما كان يرى هذه الابتسامة لأول مرة منذ سنوات طويلة، ربما منذ ولدته أمه عاريًا وصارخًا ومصحوبًا بدم فاسد أحمر قانٍ.
إذا جاز لنا أن نصف ابتسامة مي الجبالي فهي تمثل نصف مبررات الحياة كي يعيش قاتلٌ، لكن من المؤكد بنظرة موضوعية خالصة أن محمود حلمي المحكوم عليه بالإعدام لم يكن أمامه إلا أن تنقلب حياته بعد هذه الابتسامة؛ براعتها، بكارتها، كأنها أول ابتسامة تفلت من شفتين في الوجود، تفرُّدها كأنها ابتسامة مفصلة لك خصيصًا، ممنوحة لعينيك في برق لحظة! اهتز تمامًا.. وفقط.. بدأت أشياء غامضة تتراكم داخله وتزدحم وتنفعل وتتفاعل.. وانكشفت كل حصونه، اقترب من الكاسيت أكثر، كأنه يُدلي بتصريح فوري لوكالات الأنباء:
- تِعرَفي؟ أنا قلبي حجر صوان صلد، يعني لو شَقيتِ (رسم بإصبعه طريقة سريعة ومحترفة لشقِّ بطيخة) هنا لن تجدي قلبًا.. ساعات والله العظيم أحس إن ربنا بعت حد بالليل (لماذا بالليل تحديدًا؟) وفك صواميل قلبي كلها.. خلعها ومشى.
وضعت القلم في فمها فصدر صوتها مبلولًا بلعاب ما:
- لا يوجد أحد بلا قلب يا محمود. صلاح جاهين قال: «قلبي رميته وجِبت غيره حجر.. داب الحجر ورجعت قلبي رقيق».
في غمرة بلاهة انطلق صوت عالٍ ممزوج بضحكة متقطعة:
- عجبي!
فزعت، وقام الصول من غفلته، ثم عاد لما ألقى نظرة فوجد سكنًا تامًّا في تلك المنضدة التي بلاه الله بها منذ صبيحة هذا اليوم... استدعاه الضابط منذ يومين وأمره بإعداد غرفة النبطشي القديمة وتجهيزها (مروحة ومنضدة ومقعدان)، إذ ستحضر صحفية إلى السجن كل أسبوع لتقابل السفَّاح محمود حلمي لتعمل معه كتابًا. اندهش. هذه هي المرَّة الأولى التي يسمع فيها حكاية الكتب. كل يوم أو يومين يأتي صحفي أو صحفية لعمل حوار أو تحقيق لجورنال من داخل السجن، ويقعد في مكتب مأمور السجن، ونحضر له مَن يريد، أما حكاية كل أسبوع، وكتاب، وصحفية، ومحمود حلمي، فصعبة قليلًا. لكن متى كانت له أي كلمة في هذا المكان؟ ثم إن الولد محمود حلمي غريب وشرس وابن حرام، لا يملك قلبًا، وليست عنده أي مشكلة في أن يحطم ذراع أي حارس في السجن، ثم يدفع له مائة جنيه تعويضًا! كيف تأتيه هذه الشجاعة؟! ومن أين تأتيه كل هذه الفلوس؟! غريب وغامض، والكل يخشاه ويخافه، والله العظيم حتى المأمور يعامله معاملة مختلفة، لم يرها مع أي سجين آخر، ثم هذا محمود حلمي المُعدم رسميًّا، سيقتلونه، سيقتلونه رغم أنه أحيانًا يسمعه فجأة صارخًا وسط فناء السجن حيث الهدوء والصمت وكل واحد في حاله، وحيث لا أحد يقدر على إسكاته، يصرخ وهو واقف وحده مرتجفًا برعشة تسري في عضلاته وأعضائه:
- لن يعدموني يا كلاب!
فيه حاجة مع هذا الرجل.. رجل إيه؟ واد عمره 27 عامًا لا راح ولا جاء.. لكن ماذا تفعل؟
- حضرتك جميلة قوي!
بوغتت مي بهذه الجملة التي بدت تخرج بصعوبة من فم محمود، بصعوبة وبسرعة معًا.. كأنه يتخلص منها. لم تبتسم ولم ترد ولم تصد. حاولت أن تعطي كلامها بعض الحزم، وقليلًا من الصرامة (فشلت لكنها واصلت):
- اسمع يا محمود، هذه الجلسات لا أنا ولا أنت مُجبران عليها. أنا أريد كتابًا، لكن ليس على حساب أعصابي، وأنت تريد استراحة من جو السجن، ووافقتَ على الكتابة، فرصة للحياة قليلًا بعيدًا عن السجن والسجَّان. أنا أكيد مهتمة بشخصيتك، وأريد أن أعرف أكثر، وأريد أن يعرف الناس والأطباء والإخصائيون والقُرَّاء أكثر عنك؛ حتى نستطيع أن نكشف هذا العالم الذي نسمع عنه ونراه أحيانًا، لكن لا ندخل في أعماقه أبدًا.
وضع كفيه على بطنه كأنه يقاوم ألمًا:
- تريدين الدخول إلى أعماقي؟ أي! أي!
واصلتْ مخافة الضَّعف:
- محمود، بَطَّلْ تفاهة! اليوم ممكن تكون أول وآخر مقابلة.. لا تعرف أنت كيف عانيت للحصول على تصريح لقائك أسبوعيًّا وبعيدًا عن الزيارات الرسمية، ثم أنت قعدت أسبوعين على ما تجاوب وتوافق، إذا كنت تريد التهريج وترييح الأعصاب، فالكل حذَّرني من ذلك، قالوا لي لسنا في أمريكا.. ولن يُحدِّثكِ عن شيء، سيضحك عليكِ...
قاطعها وهو يضع إصبعه على أنفه الكبير الذي يظهر عليه قَطع مخيط بأكثر من غرزة قديمة:
- أنا شفتك قبل اليوم، أليس كذلك؟ رأيتكِ، صح؟ أيام القضية.. ولَّا لَما قبضوا عليَّ؟ أنا أعرفك وشُفتك.
سحبت دهشتها داخلها، ونظرت في عينيه مستعيدة جرأتها:
- ذاكرة قوية.. ولَّا استهبال على الآخر؟
ضحك ضحكة مخنوقة:
- لا، ذاكرة قوية.
«صح.. رأيتُك ورأيتَني من قبل، بعد يومين من القبض عليك. التقتكَ زميلتي في المجلة وكنت أنا معها؛ كانت خائفة وفي حاجة إلى رفيقة، ذهبت معها، يومها كانت كل ملامحك مدغدَغة، الدم الناشف فوق وجهك، وأنفك مقطعًا، والسلاسل في يديك وقدميك. قعدنا معك سبع دقائق في المديرية، ولم توجه نظرًا إليَّ، ولا إليها، واضعًا نظراتك في الأرض وصامتًا، كنت طوال الوقت تتكلم كلمة أو اثنتين وتسكت.. لغاية ما صورك المصور فرفعت رأسك ونظرت إليه بقوة كأنك تخاطب الناس بعينيك، كأنك تريد أن تنظر في أعين الملايين الذين سيرون الصورة، أو إنك عايز توجِّه نظرك إلى أحد بعينه وتريد أن تنظر في عينيه بقوة وتوجِّه إليه كل ما لديك من لغة، نظرات مليئة بالوعد والوعيد والكلام والحزن والتهديد والرقة. يومها قررتُ أنك مهم، وأن شيئًا ما داخلك، خرجت أنا وزميلتي، هي قرفانة مذهولة ومندهشة من نفسها، لأنها جلست مع سفَّاح قتل ثمانية في فندق، وأنا بُحت لها بتعاطفي معك. اتهمتني بالوحشية وبالإعجاب بالقتلة وبالخلل النفسي وبظروف الخروج من الطلاق، لكن.. لكن.. ماذا أقول؟».
كل هذا الكلام الذي قالته مي الجبالي قالته لنفسها لا لمحمود حلمي الجالس أمامها منتظرًا أي إجابة.. قالته ودفسته ودفنته داخلها، لا تعرف ما الذي يمكن أن تفهمه هي نفسها.. ماذا يمكن أن يخرج ذهنها به من هذا الكلام.. فما بالك لو سمعه محمود حلمي!
كأن وحيًا جاء فجأة:
- اسمع.. تريد أن نكمل؟ فلا غزل تافهًا! ولا محاولات عيال لجذب الانتباه! ولا كذب!
هكذا قالت بلا مواربة وبسرعة، كأنها تملي شروط هذه الحرب، فأجابها خاطفًا الكلام من فمها:
- ولا أريد شروطًا منك، ولا تحاولي إعادة تربيتي، ولا أريد أن أسمع أحكامًا على تصرفاتي؛ فأحكام القضاء العادل النزيه تكفيني.

No comments:

Post a Comment