18 January 2016

بدر الديب: حديث شخصي - أربع تنويعات




بدر الديب
حديث شخصي
أربع تنويعات


ترتيب الغرف

لم أكن أتصور أن حياتي.. أقصد نفسي، ستتغير كل هذا التغيير بعد أن قتلته. ليس هناك حقًّا حياة بعد ذلك، ولكن هناك تلك اللحظات والأيام قبل الإعدام الذي أنتظره.. إنها ملء الحياة، وأيام لا مثيل لها، ولم أعرف من قبل شيئًا يقاربها أبدًا. ولا بد أن يمتلك كل إنسان مثل هذه الأيام ولو مرة واحدة في حياته.. حتى لو كانت قبل إعدامه.
لا بد أن يملك الإنسان هذا الحق في الحديث الشخصي ولو لبضعة أيام، بعدها يصل إلى راحة أخيرة لا تنتهي.
على أبواب الموت، ومع كل هذه الإجراءات والحنان المفاجئ الذي يحيط بي في سجن القناطر، أحس بسعادة غامرة، ولون من النور الأبيض يملأ نفسي ويجعلني أرى في وضوح.. لا.. أنا لا أرى، ولكني أحس أن الأشياء والحقائق تترتب كلها في داخلي كما تترتب غرفة نظيفة مريحة.. أحس أخيرًا وأنا أقترب من الموت - الذي أصبح وقوعه مسألة أيام - أن حياتي فجأة قد أصبحت مفهومة مرتبة، كل شيء فيها له بداية ونهاية، وكل شيء فيها واضح وضوحًا كاملًا كأنني كنت أقصده.. وأقصده كما حدث وكما هو بالضبط.
لست أعيش في ذكريات، ولكن هذه الغرفة الضيقة التي أنتظر فيها الموت هي كل الحياة وكل الزمن وكل ما جرى.. لم تعد هناك محاولات ناقصة أو أسئلة ماكرة، أو لف ودوران على القروش وعلى عواطف الناس، ولم تعد هناك إجابات لم تكتمل أو أمانٍ لم تتحقق أو حتى رغبة في الجسد تريد أن تهدأ أو أن تنتهي.. لقد انتهى كل شيء، أو في الحقيقة أصبح كل شيء شيئًا.
لقد أعطوني هذا الورق وقلمًا لأكتب، فما أكرمهم في هذا السجن وما أطيب قلوبهم!
كنت قد بدأت أحس بالسمنة تُداخل جسدي وتبدو في أعلى فخذي وعلى بطني وعلى جانبي الثديين. كانت هذه السمنة ملحوظة محسوسة لي دون مرآة. وكنت أحس أنها ظلال تمتد من الموت القادم وأنها - كما سمعت كثيرًا - أمر طبيعي يصاحب الأيام الأخيرة للمحكوم عليهم بالإعدام. ولست أدري لمَ تملكتني تلك الرغبة الدافقة الصعبة التي تؤلمني وتوجعني كأنها دماء الطمث، لأمسك هذا الورق والقلم ولأكتب ولأظل أكتب، حتى يحين موعد الموت وتمتد الظلال كلها، ويصبح هذا النور الكبير الواسع الذي لا نهاية له ظلمة أخيرة يقع تحتها كل شيء.. نعم.. كل شيء.. حوادث حياتي كلها منذ أيام أن ولدت هنا في القناطر إلى أن عدت لسجن النساء في القناطر.. نعم، كل شيء.. أبي الشاويش عبد العظيم الذي مات قبل أن أنتهي من سنواتي في الفنون الطرزية، وبيت خالتي في شبرا، الذي ضمني سنوات طويلة وأنا أدرس وأتعلم الخياطة في بيتها وفي المدرسة، في باب اللوق، وكل الزمن.. والعمل كله بعد ذلك.
إن عليَّ أن أحترس من الأشياء؛ فهي موجعة تجرح وهي تهبط من القلم. وبودي أن أدعها تسقط وتقع كما تقع الظلال في البئر.. أو ربما مثل أطفال السقط الميتة.
إنني أتحرك بهدوء وفي سكينة باردة وكأنني قطة وأريد أن أخرج من هذا الإعداد الطويل لتحقيق رغبتي في الكتابة حتى وإن استخدمت السحر والبخور.. وأين أجده الآن؟ وحتى لو ظللت أبدأ، مع كل دقيقة من نيتي ومن رغبتي، ومن تلك الوحدة القصيرة الطويلة، التي أنتظر ولا أنتظر فيها.
لقد رفضت أن أقابل أمي.. ورفضت وأنا أسمع صوت اثنتين من زبائني، كانتا عزيزتين عليَّ، أن أخرج للقائهما. لقد رفضت أن آكل وإن ظللت أمسُّ الأكل وأضعه في فمي وقد أبتلعه، وأنا لا أدري، وكأنني أفكر لا آكل.
إن شيئًا أهم من الصدق وقول الحق يحركني إلى أن تصبح رغبتي وكل حياتي الباقية هي تلك الكلمات. لقد ظللت أقول الحق والصدق أثناء المحاكمة وأنا أخفي مع ذلك كل شيء وأنا لا أقول شيئًا.. وأريد الآن أن أتجاوز هذا بأن أجعل كل ما حدث يحدث، يوجد وأتركه أشياء في غرفة مرتبة.. مغلقة أو سقطت عليها الظلمة.
أحيانًا تنطلق في رأسي كما ينطلق الأرنب الأبيض صورة القناة الصغيرة في القناطر التي كنت أسير عليها وأنا طفلة وأذكر فجأة كل شيء، وكأنما ثبته نور الشمس بالدبابيس. الخضرة والهواء، وأحيانًا عطر الفول أو رائحة البرتقال والنارنج. وفي لحظة يخطر أبي في رأسي بخطوه الواثق الثقيل وهو في حلته السوداء الكثيفة عائدًا إلى البيت يحمل لحمة مذبوحة على الجسر وأحيانًا فراخًا أو بطة حية مربوطة الرجلين مدلاة العنق.
وفجأة.. تذهب الصورة والذكرى وكأنها لقمة قد ابتلعتها دون أن أدري.
وأصمت وأتحسس بيدي جسدي وقد علاه العرق الجامد الجاف وإن لم يُفقد بشرتي نعومتها وبياضها الطري.. وعندما أستعيد بأصابعي راحتي وشيئًا من رضائي عن بدني، أحس أن المشكلة كلها هي أنني امرأة وأن حقي في الحب وفي العمل هو شيء غير مضاف إليَّ. شيء ليس في بدني. وأن عليَّ أن أحارب من أجله وأن عليَّ أيضًا أن أقتل.. وإن كنت لم أجد أحدًا يقبل ما حدث.
هل كان عليَّ فعلًا أن أفعل ما فعلت، أن أقتله.. أن أتركه هكذا عاريًا يتفجر منه الدم وقد غاص المقص الكبير في صدره؟ لقد كان أول ما تفجر في رأسي - بعد أن سكتَ ولم يتحرك إلا بأن يترك الدم يسيل على الأرض حتى قدميَّ وأنا واقفة - أنني قد أصبحت فجأة شوهاء عجوزًا كأمنا الغولة أقف بمفردي على بئر.. ولم يتفجر شيء على الإطلاق في صمتي الكامل إلا تصوري لنفسي وقد ارتديت ثوبًا أسود لأنني قد أصبحت أرملة.
إنني لم أرتدِ هذا الثوب أبدًا.. لقد مات أبي وأنا صغيرة وما زالت أمي في منزلي في باب اللوق وأخي ممدوح الفاسد يواصل حياته الفاسدة في السجن.. وأنا أرملة.. لم ألبس فستانًا أسود.. لماذا يفجر هذا الشعور الدموع من جديد؟ لماذا تتساقط هكذا سريعة لتنفتح البئر من جديد في نفسي؟ ولماذا لا أستطيع أن أمسكها حتى لأرى ماذا أكتب؟
***
هناك فجر في الخارج وأصوات عصافير وبعض شتائم بذيئة وسعال وحركات مسموعة وكلمات من النساء تعودتها وعرفتها وهن يذهبن إلى المرحاض.. هناك خارج غرفتي حركة وحياة وأنا أقوم إلى الورق وكأنما أريد أن أتنفس وأن أسمح لقلبي أن ينبض وأن يدق مع الكلمات.
ليس في الحياة مثل تحرككِ إلى قرارٍ يجعلك تبدئين صفحة جديدة من حياتك.. إنك تصبرين وتترددين وتتجمع لك الجرأة أحيانًا. إنك تعيشين بالظروف وبالمعارف، وتحاولين. ثم تهدئين وتنسين وتعودين كما أنت وتسكتين. ويطلع اليوم ويليه اليوم التالي. ثم تجدين نفسك تغضبين وتتشاجرين وتحسين أن أقاربك وأهلك يسرقونك. فيبدأ جهدك من جديد للوصول إلى قرار تبدئين به صفحة جديدة في حياتك.. وأنا لست أدري لماذا أحدِّث النساء وأنا أريد أن أحدث الناس جميعًا.. هل ليس من حق المرأة أن تصل إلى قرار، أن تقلب بإرادتها صفحة جديدة في حياتها، أم عليها أن تظل دائمًا مأخوذة تتناولها الأيدي وترفعها وتضعها كما تريد وكما تشاء؟ لقد ظلت أمي تتحكم فيَّ، وخالتي، وزوجها، وأولادها، وأخي، وكل أحد آخر.
منذ مات أبي وأنا عند خالتي حتى أكملت سنوات الطرزية، وفي المدرسة وفي البيت كنت أعمل دائمًا لهم. أذاكر لهم. وأعرف ما يلقنونه لنا في المدرسة، لهم. وعندما أعود، أعمل لهم في فساتين الزبونات، كما أطبخ وأغسل وأنتزع القروش لتأخذها أمي أو أخي. إنني أذكر نفسي في المدرسة وقد أعددت شعري ووضعت عطرًا وبودرة خفيفة. وأرى نفسي في الشارع وفي الترام والأتوبيس بين باب اللوق وشبرا وأرى فخذيَّ وقد تعرتا أمام الطشت في الحمام وأنا أغسل وأنفي سائل من البرد وقدميَّ قد وضح فيهما التشقق واختلط جفافهما ببقايا مانيكير في الأصابع.. كنت دائمًا أكثر من واحدة، وكل واحدة لا أملك فيها شيئًا، ولا أكاد أفرقها إلا من المرآة.. لقد ظللت مدفوعة أعمل وأعمل دون أن أجرؤ لحظة على أن أتخذ قرارًا لنفسي إلا أن آكل أو أنام.. وحتى في هذا كانوا يرقبونني وكأنما آخذ شيئًا لا أستحقه.
هل كل البنات والنساء كذلك؟ لقد عرفت الكثيرات والكثيرات جدًّا، عرفتهن جيدًا وعن قرب. سمعت الحكايات والقصص وشهدت أنواعًا من حزنهن وفرحهن، وهذا الدلع الذي تعيشه المرأة وهي سعيدة أو وهي تفترس الرجل. عرفت التضحية التي يقمن بها للأولاد وللآباء وللأزواج. الرعاية للمريض والفلوس للمحتاج والخضوع للرغبة ثم البكاء والبكاء الطويل، وألوان الحيل والأكاذيب التي تصنعها النساء ليخدعن الرجل ليخدمن رجلًا آخر أو ليرضين عشيقًا قاسيًا أو ابنًا لا يرحم. هذا الموكب الطويل من البنات والنساء عرفته وقلبته بيدي وأنا أقيس أبدانهن وأغطي العيوب أو أراهن وهن يحاولن إظهار المفاتن.
كنت أسمعهن وأنا أنظر معهن في المرآة فلا أرى نفسي ولكني أراهن، واحدة بعد الأخرى، وكل ما لهن من حياة، تتركز لحظات طويلة أو قصيرة في المرآة، ثم تذهب لتأتي امرأة أخرى أو بنت.. ولم يكن الفارق كبيرًا أو الواحدة منهن تفرق كثيرًا عن الأخريات.
ولست أدري هل توصلت إلى القرار في بيت خالتي وقد بلغت الثامنة والعشرين لأنني ظللت أراهنَّ هكذا، واحدة واحدة في المرآة، أم لأنني لم أرَ نفسي وأنا أنظر معهن إلى أبدانهن، أم لأنني ظللت أشتغل وأعمل من ساعات الفجر الأولى حتى آخر الليل كل يوم، دون أن أحقق شيئًا لنفسي، أو أجمع من الفلوس ما هو ملكي وحدي.
إن بدني القليل الصغير حي نشيط له مطالبه، ولكنهم كانوا يضعونني مع أمي وبنتين من بنات خالتي في غرفة واحدة في بيت شبرا الضيق، وكان علينا أن نترك فيه غرفة واسعة للعمل وللزبونات عندما يُحضرن الأقمشة والباترونات ويرتفع فيها صوت خالتي معهن وكأنما ليس في البيت أحد آخر، لا زوج ولا عيال ولا أمي.. أما أنا فمعظم وقتي في هذه الغرفة الواسعة.. أخدِّم على خالتي أو أعمل مستقلة وحيدة، بعد أن يذهبن جميعًا، على الماكينة أو بالإبرة في يدي والكستبان.. فإذا ما تساقطتُ من التعب وامتلأت ملابسي بقصاصات القماش ونتف الخيط وأحسست أن فمي قد التوى من طول النظر إلى خيط الإبرة وتتبع ضبطها ومسارها الدقيق، عدتُ إلى غرفة أمي وابنتَي خالتي لأحشر نفسي في السرير مرة مع أمي ومرة مع واحدة من البنتين.
لم يكن أحد منهم يتصور أنني أفكر أو أنني سأصل إلى قرار. كان زوج خالتي أحيانًا يتحدث عن زواجي وعن احتمالاته، وكأنما يريد فقط أن يرضيني ما دام لا يستطيع أن يفعل ذلك بأي شيء آخر. أما أمي فلم يكن في رأسها إلا أن يصبح أخي رجلًا وأن يعمل قبل أن أفكر أنا في شيء مثل ما فكرت فيه، أو قبل أن أنفض يدي من القماش والخيط. وفي كل يوم وفي كل سنة لم يكن أخي يفعل شيئًا إلا أن يسقط في مدرسته الزراعية، وأن يجبرني على أن أسلمه من النقود أكثر مما يأخذ من أمي ليصرفها بعد ذلك على جنونه بالتصوير والكاميرات أو بتعلم البوكس أو على بنات ونساء كنت أراهنَّ أحيانًا أمامي في المرآة. ويمن عليَّ بعد ذلك بأنه يجلب لي زبائن.
كانت خبرتي قد فاقت بكثير خبرة خالتي وقدرتها، بعد سنوات المدرسة. وكنت قد أصبحت المفضلة عند الكثيرات لأقص الفستان ولأختار الباترون وأنواع الزراير والدانتيلا والأحزمة. وأصبحت خالتي خبيرة في تغطية عجزها والتمويه على تفضيل الزبونات لي بأنواع من الثناء تكيلها أمامهن عليَّ، دون أن تُشعرني إلا أنها تروِّج بضاعة.. لها.. وقد تدربتُ على المواجهة لهذه اللعبة المتكررة التي تقوم بها خالتي لسرقة جهدي وعملي، وتعلمتُ كيف أربط الزبونة بي، وكيف أجعلها لا تطمئن إلا إلى أحكامي وأعمالي، ثم أخيرًا كيف أحضر الحساب وأقبض الفلوس لأستخدم نفوذ الزبونة ووجودها لأنتزع من الحساب جانبًا لي.. كانت خالتي «تبرطم» كثيرًا بعد كل مرة وتحاول بعد ذلك أن تحاسب أمي أو أخي أو أن تحاسبني أنا في طلبات البيت الصغيرة على المبالغ التي أخذتها. ولكنني كنت دائمًا أسرع بها في الصباح التالي أو قبل الظهر إلى مكتب البريد لأضعها في دفتر التوفير الذي أحفظه دائمًا - تقريبًا - في صدري.
لم يكن القرار الذي اتخذته غريبًا أو جديدًا على أحد. كم من المرات صرخت وأنا غاضبة أنني «حاطفش»، وكم مرة قلت لأمي علينا أن نخرج من هنا وأن نفتح لنا بيتًا وحدنا. ولكن كانت هذه الكلمات تخرج دائمًا مع الغضب ومع البكاء ومع المعاندة للنفس والتعذيب لها دون أن تصل إلى شيء إلا إلى مزيد من التكرار للأيام ومزيد من الإحساس الدائم بالتربص لهم جميعًا يزداد ويقسو في داخلي. وقد يكون التكرار الممض المؤلم لما تريدين أن تغيريه والتربص المكبوت بمن يفرضونه هما أهم ما يدفعنا إلى القرار وإلى التنفيذ المفاجئ الذي يبلغ حد الخيانة.
إنني لا أستطيع أن أذكر الآن، وقد مر على قراري أكثر من عشر سنوات، كل التفاصيل التي تجمعت لي فجأة عن شقة ثلاث غرف وصالة في باب اللوق، كما تجمعت تلك الجنيهات التي لم تتجاوز المائتين في دفتر التوفير. كنا في بداية الخمسينيات، وكانت القاهرة لم تنفجر بعد عندما أخذتني معها زبونة كانت عزيزة عليَّ، وإن كان يبدو أن لها أطماعًا خاصة فيَّ لم أسمح لها أبدًا أن تُظهرها. وذهبنا إلى شارع فهمي قرب المحطة واستأجرت الشقة باسمي. ولكني ما زلت أذكر تلك الأيام السريعة المتعاقبة التي غيرت حياتي، وأنا أتسلل ساعات من شبرا لأعد غرفة للعمل في الشقة الجديدة، ولأشتري لها بعض ما لا غناء عنه من أدوات العمل والمطبخ، ثم ساعات العمل المتواصل في بيت شبرا، والنبأ الذي أذيعه سرًّا لزبونة بعد أخرى وأنا أفرغ من فساتينها أو من البالطو أو وأنا أصلح لها فستانًا قديمًا. والمرأة مع الفستان القديم تكون أكثر استعدادًا لأن تحكي أسرارها وأن تسمع وأن تعدك بأشياء كثيرة، بل وتكون أكرم في المعونة إذا سألتها ذلك. وعندما استقرت لي مجموعة من المواعيد والوعود أصبح من الضروري أن أواجههم جميعًا بالخبر، وإن أحسست أنهم قد بدأوا يعرفونه ويحسونه في تحركاتي وغيباتي وطريقة تعاملي مع الزبونات.
إن عليَّ الآن أن أنتظر وأن أتوقف؛ فقد دخلت عليَّ الشاويش تحية تحمل لي مزيدًا من الورق والإبرة والخيط والمقص وستجلس معي وأنا أعمل في إصلاح فساتينها القديمة. وستحدثني وستنتظر مني أن أبكي ولكني أسمعها وأجد راحة كبيرة في أن أعمل لها كراحتي تمامًا وأنا أكتب.. وأصمت لتنداح في داخلي بئر الدم الراكد الأسود وأصمت.


قبَّلتني وانصرفت بعد أن بكت هي عندما تحدثت عن يوم الموت وخسارتها هي؛ لأنها أحبتني وستظل تذكرني. وامتلأت نفسي مرة أخرى بهذا الغرور والكبرياء الذي احتفظت به في داخلي، وجعلني دائمًا أحس أنني أفضل مما يراني الناس وأن معظم النساء حولي لا يفهمن كل ما أستطيعه وما أقدر عليه. كان حزنها وعطفها وأنا أعمل لها وهي تستغلني حتى في أيامي الأخيرة، باسم الحب والعطف والتصدق عليَّ بالورق، هو تصرف قد ألفته من الأقارب ومن الزبونات، بل.. وحتى منه.. هو.
وأنا أريد أن أرتب روحي وأن أجعلها لأول مرة واضحة تمامًا مؤكدة في كل تصرف، حتى في جريمتي الأخيرة. ولو أنني بكيت الآن، لو أنني انشغلت بهذا اليوم القادم للإعدام لأصبحَت كل تلك الأيام القليلة الباقية لحظة واحدة يعمى فيها البصر تمامًا عن كل شيء كلحظة وقوفي على البئر تمامًا أو لحظة الموت نفسه. وأنا أريد لمرة أخيرة أن أصبح مرئية بكل ما فيَّ وأن يكون النور الساقط من الكلمات على الناس والأشياء وليس على عينيَّ وبصري.
كنت أتصور أنني قادرة على أن أتوصل إلى حريتي وإلى نفسي بما توصلت إليه من قرار. كنت أتصور أنني لم أجرؤ في حياتي قبل قراري أن أترك شبرا وأن أستقل في شقتي. إنني أبدأ حياة جديدة كلها ملكي وإنني بنفس القدرة التي أقص بها القماش قد صنعت من حياتي شكلًا جديدًا، وإن كل ما عليَّ بعد ذلك أن أزيِّنه وأحليه وأن أضم خيوطه التي قد تريد أن تنسلت بشريط تنظيف «وسير فيليه».
إن أحدًا منهم في شبرا لم يتحرك حركة عملية كاملة لتعطلني. كنت وحدي التي تحركت، أما هم جميعًا فقد توقفوا قليلًا وشتموني ثم غضبوا وحاولوا خصامي. ولم يمضِ أكثر من يومين حتى كانت أمي تسرق من أختها ما ستأخذه إلى بيتنا الجديد. وحتى بدأ أخي يحلم بأنه سيكون له غرفة مستقلة، بل حاول أن يسترضيني ويتعهد لي بأنه سينجح في العام القادم، وأنه لا بد سينتهي من دراسته ليصنع معي لنا حياة مريحة.. أما خالتي فقد استحالت إلى غولة خطرة وبدأت تمضغ سيرتي أمام الزبونات وتلقي عليَّ أوصافًا قاسية قبيحة وتردد أنني بنت فاجرة وناكرة للجميل، أما هن، فكن يضحكن في سرهن ويزددن قربًا مني وتصميمًا على أن ينتقلن معي بفساتينهن وصديقاتهن إلى باب اللوق.
لم أكن قد ذقت من قبل طعم القرار، أي قرار في حياتي. ولم أكن أعرف، بالفعل، أنني أستطيع أن أشكلها وأن أقصها على هواي وحسبما أريد. وقد ظل هذا الطعم والشعور بالاستقلال والقدرة على ممارسة الإرادة سنوات طويلة. في كل يوم كنت أزداد معرفة بعملي وبأخلاق النساء وبأسرارهن، وفي كل يوم كانت شقتي تستكمل أدوات العمل والراحة. ومع كل يوم كان حسابي في دفتر التوفير يزداد. ولم أكن أكبر فقط، ولكنني كنت أزداد تملكًا لنفسي وإحساسًا بأنني صاحبة القدرة على الرفض والقبول، وأن على أمي وأخي أن يستأذنا، وأن يعملا حسابًا لما سأقوله أو سأراه.
كان العمل يملأ حياتي من الصباح إلى آخر الليل. وكنت قد تركت لأمي تمامًا المطبخ والغسيل وحرصت على أن أتزين طوال النهار للعمل وكأنني أستعد للخروج إلى الشارع أو... لا، لم يكن هناك رجل في حياتي إلا أخي. كان يعاكسني أحيانًا ويطري فساتيني وزينتي ويقبِّلني بحرارة على خدي وفمي وهو يريد أن يأخذ مزيدًا من النقود. وكنت أعرف وأسعد أحيانًا وأعطيه، وكنت أحيانًا أخرى أعرف وأغضب وأصر على أن أمنع عنه ما يريد من مال.
لقد انقطعت عني خالتي تمامًا وأولادها وزوجها. كلهم سقطوا في بئر غريبة من الصمت والبعد صنعها قراري دون قصد واضح أو إرادة. لم أكن أريدهم فعلًا أن يتغيروا أو أن يتركونا، ولكنهم لم يكونوا وحدهم الشيء الذي تغير. لقد سكن في نفس أمي شيء، وأصبحَت أكثر هدوءًا وصمتًا مما كانت وهي تستعيد شيئًا فشيئًا طريقة معاملتها لأبي وتعاملني بنفس المعاملة والصوت والرضاء، وتنتحي جانبًا في مناقشة خفية لا أسمعها ولا أعرف موضوعها، مع أخي، تمامًا كما كانت تحدثني في الخفاء في بيت شبرا. أما ممدوح، أخي، فقد كان يكبر فعلًا ويصبح رجلًا وسيمًا مليئًا تكتسب عضلات جسمه فتوة واستدارة من مواصلته للبوكس وممارسته المستمرة له. كان، في الصيف، يفتح باب غرفته فأراه في غرفة العمل. وكنت أرقبه وأنا أعمل وهو يتدرب ليلًا وقد أطفأ الأنوار إلا من نور ضئيل بعيد وأكثر من سيدة وفتاة عندي لا يستطعن أن يمنعن أنفسهن من مشاهدة ظل جسده وقد تعرى إلى نصفه. كان يضرب ظله على الحائط ويكيل ناحيته اللكمات. وكنت أكرر، لمن لا تعرف منهن، كلمة «شادو بوكسنج» التي علمها لي والتي سمعتها أيضًا من أكثر من فتاة وهي تلفت نظري أنها تراه وتهمس لي بالكلمة في لهجة العارف المتذوق لما يفعل. وقد تجرأت إحداهن مرة واقترحت، وهي تضحك وتعاكس الظل على الحائط وتقلده في المرآة، أن أضع هذا الاسم على يافطة مع اسمي على باب الشقة.
كان كل شيء يبدو في هذه الأيام البعيدة وكأنه كامل تمامًا. اسمي على الباب: سميحة عبد العظيم، وأمي في البيت في ثيابها السود تخدمني وتنظر إلي في قلق لا يزعجني، وأخي الفاسد لا تضايقني كثيرًا تصرفاته ومطالبه.
كان العمل قد بدأ يتزايد على قدراتي وبدأت أفكر في الاستعانة بفتيات صغيرات لمعاونتي. وبدأ أخي يحاول أن ينظم علاقته معي وأن يجعل من نفسه مفيدًا نافعًا بعد أن تكرر فشله في المدرسة الزراعية.
ولم يستطع أن يتخلى عن البوكس وعن الكاميرات وتصوير الفتيات. وبدأت أراه يقترح عليَّ أن يشتري لي قماشات من بيروت والسعودية وليبيا. وبدأ فعلًا يحمل لي أنواعًا جميلة ونادرة ويقترح أن نعرضها ونبيعها في الشقة للزبونات الكثيرات. وعلى الرغم من أنني ترددت أول الأمر فإن الزبونات أنفسهن دفعنني إلى القبول وهن يتصايحن حول الأقمشة التي يعرضها عليهن ويتسارعن للاستعداد لشرائها وتقديم النقود له. ولست أدري هل كان هذا قرارًا جديدًا في حياتي أم كان عثرة كبيرة سقطت فيها دون أن أدري. إننا لا نستطيع أن نعلم متى تنفتح فعلًا الأبواب ويمتد أمامنا الطريق، ومتى يكون الذي ينفتح هو بئر وغصة في الروح.
لقد نظَّمت معه مسألة القماش المستورد دون أن أعرف تمامًا من أين يأتي به أو كيف يأتي به؛ فهو يقول إن أصدقاءه كثيرون في النادي وفي محل التصوير الذي يعمل فيه كلما طالت غيبته عن المدرسة أو قرر وأعلن لنا أنه لن يعود إليها. وعلى الرغم من أنني كنت أعرف أن صديقه صاحب محل التصوير هو فهمي عبد الحميد فإنني لم أكن رأيته ولم أكن أتصور أو أعرف أن طريق القماش المستورد سيقودني يومًا ما إلى الجريمة والقتل.
إن دموعًا ثقيلة تتجمع في عينيَّ، وفمي يتحرك بلا إرادة، وشفتاي ترتعشان رعشة لا أستطيع أن أتحكم فيها، وها أنا آكل وآكل من جديد دون أن أدري ماذا أفعل.
ما أكبر هذا الفارق بين الرجل الذي تحبه المرأة ونفس الرجل عندما تقرر أن تقتله! إنني - في هذا الفجر الجديد في غرفتي بالسجن - أحس أن حل اللغز في حياتي وتحقيق هذا الوضوح الذي أريده قبل أن ينتهي كل شيء، يتوقفان على فهم هذا الفارق والإمساك به. إنني أُعمل فكري بقسوة وشدة لأنني أريد فعلًا أن أستريح وأن أفهم. قد يطول بي الأمر، وقد تسبقني الأيام واللحظات الباقية في السجن، وقد تُقدم عليَّ بين الحين والحين الشاويش تحية، فأتوقف، ولكنني ما دمت قادرة لا بد أن أواصل الكتابة وأن أواصل الفهم.
إنني أحس كأنني أبدأ من جديد تمامًا، وأن كل ما كتبته كان مجرد حلم لا أستطيع إلا أن أتذكره وأن أحسه مترسبًا في نفسي دون تحديد ووضوح. أما ما أريده فعلًا فهو هذا القادم الذي يدفعني إليه الإصرار وبقية الكبرياء - بل والغرور - اللذان أعرفهما في نفسي. ولكن هل من الكبرياء أن تغطي المرأة نفسها بالعقارب والثعابين؟ وهل من الكبرياء أن تقطع المرأة طريق الحب والخيانة مرة أخرى وأن تفعل ذلك وهي تتفحص نفسها في خطوة؟ ألم يكن من الأفضل أن يستحيل هذا الجزء من حياتي إلى حلم لا أذكره ولا أعرف خطوطه؟
ولكنني أذكر بالتفصيل كل شيء. أذكر كل معنى وكل خطوة وكل حالة من حالات نفسي منذ أن رأيته أول مرة حتى انتهى الطريق فجأة على جسده العاري إلى نصفه ومقص الخياطة الكبير في صدره والدم يملأ الدنيا سوادًا وفراغًا كفراغ البئر لا رائحة للحمرة أو الدم فيه. إن هذه اللحظة الأخيرة هي دائمًا ما أقاوم السقوط فيه عندما أتذكر بالتفصيل خطوات هذا الطريق.
عندما رأيته أول مرة كنت قد قررت أن أعيد تنظيم الشقة وطلاءها واستخدام قواطيع جديدة في الغرف تسمح بشيء من السعة لعرض الأقمشة وأدوات الزينة التي يحضرها أخي إلى جانب المساحة الضرورية للعمل والبروفات والمانيكانات والمرآة الكبيرة والماكينة الجديدة التي اشتريتها مع كثرة العمل والطلبات. وكان الوقت صيفًا والساعة قد تجاوزت منتصف الليل، وكنت قد جلست على الأرض في الصالة على مدخل البيت مباشرة والباب مفتوح، وحولي جرادل البويه وعلب الزيت وقواطيع صغيرة من الخشب وأنا أحاول أن أجمع ما تبعثر من القماش والأدوات وأن أزيل البقع التي تركها عمال الطلاء على الأرض. وكنت على ركبتي وذراعي وأنا شبه عارية، قد تحرر صدري من السوتيان وليس عليَّ إلا سليب أحمر صغير وكومبينيزون أبيض قصير. كنت أيضًا عارية القدمين محلولة الشعر، وكنت أنوي أن آخذ حمامًا بمجرد أن أفرغ من عمليات التنظيف. كنت مطمئنة أنني وحدي تمامًا وأن أحدًا لن يمر بالباب المفتوح في هذه الساعة المتأخرة من الليل وأخي قد تعود التأخير حتى ساعات الصباح الأولى.. بل قد لا يعود ما دام قد تأخر إلى هذا الحد. أما أمي فكانت في فراشها تسعل أحيانًا وتنادي عليَّ ولكنها لا تتحرك من الفراش بعد جهدها طوال النهار. كنت أعمل وحدي وقد عادت لي أحاسيس جلستي وحدي في حمام شبرا أغسل ملابس العائلة، ولكنني كنت أحس بما حققت من حرية وأنعم بما أنا فيه من عري أمام نفسي حتى وإن كنت مثل الغولة منكوشة الشعر أتصبب عرقًا ولزوجة. إنني أذكر بالتفصيل استغراقي في الحلم بنفسي والراحة إليها وأنا أزيل بقعة عصية من على الخشب، حتى إنني لم أسمع بحركة صعودهما هو وأخي على السلم ولا بوقفتهما المتسمرة على الباب، وهما يحملان لفات من الورق من الواضح أنها لفات طعام. ولست أدري إذا كانت نظراتهما إلى جسدي العاري هي التي جعلتني أنتبه إلى رعشة تمر على ظهري وكأنها أنامل متلصصة أو أنهما قد تحركا فسقط ظلهما على الأرض أمام عيني، ولكني استدرت فجأة وإذا بي أمتلئ بغضب على أخي وكأنه غضب السنين كلها ولا أمسك نفسي عن أن آخذ فرشاة من الجردل وألقيها عليه لتصيبه وأنا أشتمه شتيمة لم أوجهها له من قبل. لم أنتصب واقفة، ولم يتحرك أخي بسرعة ولكنه كان هو الذي تحرك وهو يضمه بذراعه ويدفعه للخروج والاختفاء على السلم وهو يقول:
- آسفين خالص يا أفندم.
لم يستغرق الأمر كله ثواني، ولكن المكان الذي وقف فيه تلك الثواني ظل يحمل أثر جسمه وكأنما ينبض بوجوده الفارع الأنيق وأنا أرفع إليه عيني وأنا قاعدة على الأرض لا أملك أن أغطي إحساسي بأنني عارية.
ولم يمضِ نصف ساعة حتى كنت في غرفتي بعد الحمام عندما سمعت أخي يدير مفتاحه في الباب الذي أغلقته ويطرق على الباب ليدخل وهو ما زال غارقًا في البويه محاولًا أن يعتذر بلطف زائد أنه وصديقه قد فكرا أنني لم آكل طوال النهار لانشغالي وأنهما قد يجداني مستعدة للطعام بعد هذا النهار والعمل الطويل. لم يكن مثل هذا اللطف عاديًّا من أخي أو مألوفًا، وكنت قد تمالكت نفسي وضحكت من منظره ولم أجد مبررًا أن أترك صديقه ينتظره على عتبة السلم، فقمت من فراشي لأعد لنا جميعًا مكانًا للطعام في غرفة ممدوح وطلبت منه أن يدعوه وقد ارتديت ملابسي وتأنقت كأنني في الصباح.
إنني ما زلت أذكر تلك الليلة وقد سهرنا نأكل ونتحدث حتى الرابعة صباحًا تقريبًا، فأنا لم أحب في تلك الليلة، ولكنني عرفت الكثير عنه وعرفت فيه قدرات غريبة تشع من عينيه ومن جسده كله، كتلك القدرات التي تركت أثرًا واضحًا لوجوده على الباب بعد أن هبط مسرعًا مع أخي. إنه لم يتحدث عن نفسه ولم أكد أعرف عنه تلك الليلة أكثر مما كنت أعرف عن اسمه وعن عمله. ولكنني وجدت نفسي أجيب عن استفساراته بحرية غريبة، هو يسألني عن العمل وعن طلباتي من إعداد الشقة ويتطوع بملاحظات سريعة نافذة لتحقيق ما أريد فتصدر منه الملاحظات والاقتراحات كأنها أوامر ناعمة لا يملك أحد أن يعصاها أو يعارضها.
كانت معرفته التفصيلية الدقيقة بأنواع الخشب والزيت، بل والخيط والقماش ومصادر الباترونات الجديدة، قد جعلت حديثنا كله عني وعن عملي، فلم يكن غريبًا أن أجد نفسي آخر الليل أكاد أطلب، وأنتظر، ثم أقبل وعده أن يأتي في الغد لمساعدتي. ومضت عشرة أيام وأنا لا أكاد أفترق عنه وهو معي في الشقة يشرف على العمل، وينزل للسوق ليشتري ما يحتاجه العمل دون أن يستأذنني أو أن أجد فرصة لخلاف معه على حساب للنقود أو حساب لطلباتي ولما أريد. كان فهمي صاحب قدرة غريبة لم أعرفها في أحد قبله، أن يناولك في يدك ما تريدين قبل أن تطلبيه وأن يسبقك حتى إلى معرفة طلبات جسمك. وعلى الرغم من أنني لم أنسَ أبدًا أنه رآني أول ما رآني شبه عارية فإنه لم تصدر منه خلال تلك الأيام التي أعد لي فيها الشقة من جديد أية كلمة أو حركة موجهة إلى جسدي.
ما أغرب هذا الجسد وما كان فيه من فضيلة. لقد تعودت طوال حياتي أن أخاف وأن أشفق على نفسي من الرغبة احتراسًا من أن أفقد ما سأحصل عليه لو أطعتها. كنت أعرف أن فضيلتي جزء لا ينفصل من محاولتي الوصول إلى نفسي وإلى حرية التصرف فيها. ولم يكن غريبًا عليَّ هذا التقلب في الفراش من قلق البدن، ولكنني لم أعرف هذا الشعور بأنني ألاكم نفسي كما يفعل أخي في «الشادو بوكسنج»، إلا بعد أن انتهت الأيام العشرة واختفى عني وأطبق على اسمه، بيني وبين أخي، في اللحظات القصيرة التي نلتقي فيها، صمت مريب وتجنب.
لقد انفتحت تحت قدمي بئر غريبة في الشقة الجميلة الفريدة التي تركها لي وانصرف. بدأت أحس بالوحدة تتزايد حولي كلما استعملت شيئًا مما تركه أو نظرت إلى زينة صغيرة أو «فاز» وضعه على مائدة أو حتى أزحت الستار لأنزله خلف الزبونات في ركن البروفة الذي أعده. كان قد ترك أثرًا في كل شيء وفي كل موضع وفي كل ساعة من ساعات النهار، تمامًا كذلك الأثر الذي تركه على الباب المفتوح ساعة رأيته لأول مرة.
إنني أذكر الآن بجسمي كله تلك الأيام وكأنها ثياب محبوكة على بدني، وأرتعش مع ذلك الآن وكأنني عارية كما كنت أرتعش قبل أن يعرفه جسمي. وأذكر نفسي وأنا أتودد لأخي دون أن أكلمه خشية أن ينفذ بعينيه إلى جسدي، فأرقبه أنا وقد امتلأت حدة وخشونة حتى مع الزبونات ومع أمي. ولم يعد يسعدني أو يسليني إلا أن أتلصص وحدي على أخي وقد تعرى نصفه وراح يضرب ظله في النور الخافت في الغرفة المجاورة. كانت الرغبة - كما هي الآن - قد أصبحت حاجة لا أستطيع أن أتملكها أو أسيطر عليها إلا بأن أتصور الألم والإيذاء لنفسي.
يا ربي.. لماذا يهبط الليل هكذا على المرأة وهي وحيدة مكبلة، لا تملك إلا أن تنتظر أن تمتد لها الأيدي بالأخذ والإيذاء؟!

No comments:

Post a Comment