08 March 2016

علاء خالد: مسار الأزرق الحزين



علاء خالد

مسار الأزرق الحزين


زمن المستشفى من أكثر اﻷزمنة كثافة، وإحساسًا بالتحول، الزمن الذي يتقلب بين أقصى تدريج للمعجزة وصفر الموت. المعجزة أحد أساسات هذه المؤسسة المسماة «المستشفى»، تتجول كل ليلة وسط هذه الأسِرَّة والملابس البيضاء ورائحة الديتول وفنيك الحمامات. مواعيد صارمة للأدوية تحشو هذا الزمن الكثيف، حتى يخال لنا أن هناك شيئًا يحدث ويتحرك، أو بذرة تشق طريقها لأعلى، لا شيء يحدث، والبذرة تشق طريقها لأسفل، هناك مطبخ كوني تُطهى فيه وجبتا الموت والشفاء. استيقاظات وغفوات مقتطعة، آلام بلا مصدر، توالي الليل والنهار المبطنين بمواعيد اﻷدوية، وباﻹضاءة الصناعية. زمن مثل زمن القطار، بالرغم من قِصر مدة السفر، ولكن المسافة تضاعف اﻹحساس بالزمن، كونه خارج سياقات أزمنة الحياة اليومية وأزمنة الذاكرة. اﻷزمنة غير مستقرة، يتغير اﻹحساس بها تبعًا لنوع المواجهة. أمام الموت ينتصب الزمن، تعود له أُخُوَّتُهُ، الإخوة اﻷعداء. كانت مصادفة أن يأتي سريري أمام ساعة الحائط. كان الوقت يمر، ولكن بشكل مختلف عن حياتي العادية، هناك وعي ووزن لكل دقيقة وثانية. كل ما هو غير مرئي، ونأخذه كشيء مسلَّم به في حياتنا العادية، ولا يثير حتى انتباهنا، كالوقت أو الزمن أو رائحة البرتقال، كان هنا في غرفة العناية المركزة هذه له ثقل وحضور ماديان، ربما لاتساع الوعي بالزمن حتى تتلمس ماديته، ماديته هو، وليس عبوره وإحساسك بالفناء. كأنك في سباق لا يوجد به خط نهاية. كان مرور ربع ساعة أحد الإنجازات، كأني أنا الذي أطهو الوقت، أو أمسك بذيله وأسحبه تجاه الجهة الرابحة. كنت أقول لنفسي: لقد بعدت ربع ساعة عن النقطة التي بدأت فيها السباق مع الموت، وأيضًا ربما اقتربت ربع ساعة منه! الموت كان يسحب العقارب، لزمن صفري، في الأمام أو الخلف، لسكون مادي، كلحظة التطابق بين العقربين، وزرجنة ورعشة لحظة الانفصال بينهما، ثم استعادة كل عقرب لمسار دورته من جديد، عقرب الساعات بحركته الرصينة، وعقرب الثواني بهوجائيته، وقفزاته المتتالية. كان الوقت يمر ببطء، ويضع بصمته، ودرجات ألوانه، ومثقال ذراته على كل شيء من حولي. تتمنى أن يكون الوقت هو قبضة الريش التي تنفخها مرة واحدة، ولكن هنا، كل شيء يحدث ببطء، ومصحوب بسأم انتظار النهاية. كان هناك عمل دؤوب لهذا الجسد الساكن، مهمة أن أُبْقِيَ على الحياة، وأشد العقارب لزمن آخر، وأمنع بقوة تركيزي هذا التطابق ولحظة السكون المؤقتة بين العقربين، لحظة التقاء المادة بالروح المتسربة من وراء ظهر الحياة. كل التجارب الساحرة للمخيلة وجدت أخيرًا المكان الذي تتحقق فيه. كنت أخشى من هذا الباب الخلفي الذي يمكن أن تتسرب منه الحياة دون أن تودعني، أو دون أن أودعها. الحياة داخل هذا الحيز كانت معلقة على هذه العقارب. وعندما خرجت لغرفة عادية كانت الساعة معطلة على السادسة إلا عشر دقائق. أمام هذه العقارب المحنطة لم أجد أي رغبة في المقاومة، بالفعل كأن الزمن توقف، وهذا هو برهان الموت الأكيد. أصر صديق لي على أن يأتي ببطاريات جديدة، حتى يعيد أمام عيني سيولة الوقت. في أحلامي التالية رأيت ذلك الباب الخلفي مُسمرًا بصليب من الخشب.

بمجرد انتهاء الزيارة الليلية، التي تستغرق ساعة، من السابعة حتى الثامنة، أواجه بأصعب اﻷوقات، والتي أتمنى أن أقضيها نائمًا حتى صباح اليوم التالي، بدون أي إحساس أو يقظات مخنوقة. تلك اللحظات المسروقة، والتي تتبخر في الهواء بدون ذكريات أو ذاكرة تحصيها، هي ما كنت أرنو إليه كأهل الكهف، ولكن على نموذج مصغر، كنت أرقد في كهف حياتي انتظارًا لبعثٍ ما؛ أصحو وقد مرت اﻷحداث المؤلمة أثناء النوم! طبعًا كان يقطع رحلة اﻷرق الليلي كثرة المحاليل واﻷدوية التي تملأ فراغ وقلق هذه الساعات حتى الصباح. كل ساعةٍ هناك من يضع يده على كتفك أو يهمس في أذنك، لو أخذتك غفوة، ليضع لك الدواء أو سن الإبرة أو كيس البلازما أو زجاجة المضاد الحيوي. بمرور الوقت، وبثقل هذه الساعات، زاد تعلقي بالمخدر، وزادت جرعاته. أمبول صغير كلما رأيته في يد الممرضة، وهي تسحب محتوياته بالإبرة، ثم تنزع السن، ثم تضخها في الوريد وتكبس عليها بإبهامها حتى آخر قطرة عالقة بالجدران؛ أشعر بالراحة، أو أجلبها من كهفها السري القديم في هذا الجسم، حتى قبل أن يبدأ مفعولها وتصل لمراكز الألم. أحيانًا كنت ألحُّ عليهن عندما يماطلن خوفًا من إدماني لها، فأطلب الطبيب النوبتجي حتى يسمح لي بجرعة إضافية، حتى أنام، أو على اﻷقل أشعر بذلك اﻻطمئنان النفسي لمدة ساعة، كانت توازي، بالنسبة لي، درجة أخف من درجات الألم. الإدمان كان أهون بكثير من هذا الفراغ النفسي الموحش الذي كنت أشعر به وبآلامه داخل هذا النفق الأخروي الذي كنت أعبر به. عند الساعة التاسعة مساء سأنادي على هذا الممرض المار أمام السرير، وأطلب منه بصوت متوسل مبطن بشفرة موسى حادة أن يضخ هذا السائل السحري في «الكانيوﻻ» المتصلة برقبتي. عند بدء سريان المفعول كنت أغمض عينيَّ استعدادًا لتلقي الوحي والقبض على الراحة وعينيَّ مغمضتين. كنت أرى أمامي مجموعة كبيرة من الزجاجات الملونة، كالتي أراها في أفران الزجاج البلدي في مصر القديمة، مصفوفة على منضدة. كانت المنضدة تترجرج كأنها طافية فوق سطح مائي، ومعها تترجرج الزجاجات، وتصدر صوت ارتطام أنيق فيما بينها، بدون أن تسقط. وأنا أترجرج معها، في سريري، وأتماوج مع السلم الموسيقي لرنينها كقطعة دخان. كانت ألوانها تتداخل في صدري، الذي أخذ يتسع ويطوق هذه الزجاجات؛ وتصبغني في توالٍ لوني، دخول وخروج اللون من صدري بدقة وبدون تداخل كأنَّ هناك مهمة تعرف الألوان خطواتها جيدًا. أحيانًا كنت أرى سريري يتدحرج إلى أسفل كأنه على منحدر، ويجوب بي أرجاء المستشفى، المصمم بانحدار إلى أسفل بنفس جغرافية الحلم، ثم يصل لمكان مظلم له ستارة كبيرة، كسينما السيارات. أدخل، بينما أتعثر بتلك الستائر العملاقة، لأجد شاشة كبيرة ومجموعة من اﻷسِرَّة المنتظمة في صفوف بمرضاها، وبجانب كل واحد شجرة محاليله، والجميع شاخص ببصره ناحية الشاشة المضيئة التي تعرض أحد الأفلام. كان المخدر يصنع رحلة داخلية كرحلة الرغبة وطوافها في أحراش العقل البدائي للإنسان. هذه الرحلة الليلية كانت أحد أسباب شفائي. كان العقل الباطن نصيرًا لي في هذه الرحلة، ككيس الفشار الكبير الذي يكسر حدة الظلام بالنسبة للأطفال في صالات العرض. كان يأخذني لهذا العالم الملون من الزجاجات والأفلام، بالرغم من أني لم أستدر يومًا وأرى هذا الفيلم الذي يعرض يوميًّا على هذه الشاشة المضيئة، ﻷفهم رسالة العقل الباطن الذي يريد أن يرسلها لي عبر هذا الفيلم المتكرر؛ إلَّا أني كنت أجد في هذه الشاشة المضيئة كوة أمل تعكس تفاصيل حياة أخرى قريبة، كأنها نبوءة بأني سأعيش. كان السرير هو الرمز المشترك بين كل رحلاتي الليلية، ويبدو أنه كان بالنسبة لي أكثر من كونه سريرًا، لتكرار ظهوره داخل هذه الرحلات. كان العقل الباطن يمنحه رمزية ثابتة كالوطن، أو الأرض الأخيرة التي ستراها عينك، والتي أرسل لها نُوح الحمامَ من فوق أرض سفينته المؤقتة، أرض مؤقتة تبحر، كسفينة نوح، اتخذت شكل سرير، وما عليَّ سوى أن أفك زواياه الأربع ليعود كما كان. كان لهذه الرحلة فضل استعادة للغة وإشارات العقل الباطن ولجزء من موهبته التي حرمت منها طويلًا. كنت أحب هذا المستوى من اﻹدراك الذي يجعلني أستمتع بالرموز المهداة من العقل الباطن، وحتى بدون الحاجة لتفسيرها، كانت تبعث فيَّ طمأنينة كون هذا العقل متضامنًا معي ويرسل لي رسائله حتى أصمد وأقاوم.

في اليوم اﻷول لتعليق المحاليل شعرت بأننا في صيف مبهج، ورأيت في لون البلازما اﻷصفر لون عصير المانجو، وفي لون المحلول الأخضر لون عصير الليمون بالنعناع، وفي لون المحلول الأزرق زرقة مياه البحر في الصباح. هذه العصائر الصيفية كانت تصب في القلب مباشرة من أقصر طريق، ويلفح جسمي الساخن هواء هذا الصيف المنعش. جزء من أثيرية هذا العالم الشبحي انتقل إلى مادة جسمي، وأصبحت شخصًا أثيريًّا غير مرئي، أتحرك بين صور حياتي المعروضة على شاشة مخيلتي كأنني لا أنتمي لها كلية، وهي لا تنتمي لي كلية. هناك انفصال صنعه الموت، بذرة اغتراب متبادل نمت بيننا، أمسك بالأشياء في مكان آخر غير مكانها، أو في زمن آخر غير زمانها؛ كل الأزمنة كانت مفتوحة في «ماراثون» الذاكرة، وأتعثر بينها كأنني فقدت مسار حارتي التي أجري فيها. ملمس الأشياء في يدي كأنه ترجيع لماضي هذه الملامس. أصبحت قريبًا من شبح زوج «ديمي مور»، في فيلم «شبح»: بعد وفاته في جريمة قتل عاد شبحه ليكون بجوار زوجته. لم تكن تراه، لكنها كانت تشعر بوجوده، بهواء بارد يتشعب في نسيج جلدها فتقشعر عندما يحضنها من الخلف كما كان يحضنها في حياتهما السابقة. كنت أستحضر سلوى وأنا نائم، وتدور بيننا حوارات دافئة أملأ بها ثقوب هذا الثوب القديم الذي يلبسه ليل المستشفى.

عادة ما كانت مواعيد الزيارة تمتد لربع ساعة إضافية كالوقت الإضافي في المباريات. داخل هذا الوقت الإضافي تتجمع كل الأمنيات: كل زائر يريد أن يتخطى الزمن المحدد له ليشبع من مريضه الذي يقف على أبواب الآخرة، فربما يغادر الحياة خلال هذا الوقت الإضافي. عادة كان عامل العناية المركزة، الذي كنت أشك في كونه يأخذ إكراميات كبيرة من الزائرين كي يسمح لهم بوقت إضافي، كان يلح على ابنة وابن جاري في السرير المجاور، والذي كان في مرحلة متأخرة من المرض، بوجوب مغادرة المكان حتى لا يُجازى. يخرج ويعود عدة مرات بنفس الطلب، فقد استنفد الوقت الإكرامية التي أخذها. كانا يستشعران الموت في كل لحظة، لذا كانا يتثاقلان في حركتهما وفي تنفيذ تنبيهات العامل بالمغادرة، كأنهما يتحركان في مشهد يتم عرضه بالتصوير البطيء. زمن المستشفى كله يعتبر زمنًا إضافيًّا قارب أن ينفصل عن أزمنة الحياة الأصلية. لم أستوطن المستشفيات كثيرًا من قبل، مات والدي في البيت، وأمي ماتت في المستشفى بعد دخولها بيومين، ولم يطل زمن أملي بنجاح العملية. كلها أوقات مستقطعة، لا ترى فيها إلا عالمك الشخصي وتضاعيفه وانعكاساته، ولا تملك رفاهية أن تكشف شبكة أعصاب هذه المدينة. لم آخذ مركز المراقب، إلَّا وأنا عصب مكشوف داخل هذه الشبكة. أتذكر عندما استوطن صديق لي أحد المستشفيات العامة نظرًا لحالته المزمنة، على مدى سنوات كنت أتنقل معه تبعًا لتطور حالته، ومعها يتغير عنوان الزيارة، كل زيارة له كانت تدخلني في حالة صمت تام لساعات بعدها، أو لأيام، حتى اعتدت على الصور الصامتة للألم.

كان المستشفى كبيرًا ومأهولًا كحي سكني شعبي، ممرات، وانتظارات، وأزقة، ومباول، ونصبات شاي، المستشفيات مدينة كبيرة للألم. كل المشاعر التي تحتويها البيوت ونحتفظ بها تحت جلودنا يمكن أن نراها واضحة هناك في المستشفيات، وأولها الخوف من الموت. لا يمكن أن نؤجل خوفنا أمام هذا الكم الهائل من الآلام، وأمام هذا الترقب. كل سرير تلتف حوله أسِرَّة موجوعة بعيون لم تنم لعدة أيام، وفي الممرات هناك مظاهرة صامتة، مجموعات أخرى تقف على قدم واحدة، والأخرى تنتظر الأوامر لتتحرك، ورؤوسهم إلى الخلف ينتظرون أي بارقة أمل، أو أي ظهور لطبيب أو ممرضة ليسألها عن الحالة. أما من هم بالداخل ملتفون حول المريض فليس أمامهم وقت للترقب، فبكل يد هناك كتاب للأدعية وصلوات داخلية تتلى و«مونولوج» مصور برحلة طويلة مع هذا المريض المسجى. الصور أحيانًا أقوى من الأدعية، لأنها تجلب لنا في تلك اللحظات الحياة بوجهها السعيد، وتجلب لنا وجه المريض وهو في أقصى حضور له. التمسك بالحياة دواء فعَّال للمريض، وأيضًا للمحيطين به، الدواء الذي لا يكتبه طبيب، وإنما نشحن به أنفسنا في تلك اللحظات، يغمرنا الأمل حتى ولو كان كاذبًا. يكتسب الموت رموزًا يتعارف عليها الجميع بدون أي لبس في التفسير، مثل العين المفزوعة للأقارب، أو البكاء في زاوية بعيدة حتى لا يرى المريض موته شاخصًا في عين أقاربه، أو الحركة السريعة فوق العادة لطاقم التمريض في الردهات، الصوت العالي والتنبيه الذي يتكرر باستدعاء الطبيب في محطات بث المستشفى، جميعها تزيد احتمالات الموت حول سريرٍ ما في طابقٍ ما وسط هذه المدينة متعددة الطوابق. في المستشفيات العامة، التي تبدو كأحيائنا الشعبية، الموت صريح ومكشوف، ويمكنك لو كنت حاضرًا بالصدفة أن ترى مشهد الموت بكل تدرجاته أو تلامس عن قرب هذا الجسد النائم. أما في المستشفيات الخاصة فالموت محجوب خلف الزهور ورائحة البرفانات، وأناقة الممرضات، وأنف الاستشاري، والصمت القاتل الذي يغلف الردهات، والعزلة والسرية التي تحيط بهذا الجسد عند دخوله، وكذلك عبر الفواتير والعلامات التي تسجل في دفاتر المرور للاستشاريين الكبار، كل شيء محسوب بدقة ولا تهاون في خروج الجثمان، وبصحبته فاتورة ضخمة، للعالم الآخر. السجائر التي تُستهلك في تلك المستشفيات، في بلكونات مثلجة وفي زوايا مسموح فيها بالتدخين، هي أكثر بكثير من تلك التي كنا نستهلكها في السينمات. دخان لا يصعد أمام ضوء يأتي من الشاشة ويسحب معه الخيال، إنما هو دخان حزين بلا خيال، لتُزجي وقتًا طويلًا في الانتظار، ولتردد حركة اعتدت عليها في حياتك العادية خارج المستشفيات، لتشعر بأنك ما زلت هناك، ولم تعد بعد أحد مواطني هذه المدينة الموجوعة.

في المستشفيات ترى الخريطة الطبقية لمصر بوضوح. هؤلاء المختبئون في القرى والنجوع والهوامش البعيدة، يدفعهم المرض للظهور في الضوء، يأخذهم من أيديهم ويسلمهم لضوء العاصمة، من معمل تحاليل إلى صور للأشعة إلى عيادات الأطباء وصولًا إلى سرير في المستشفى العام. عبر كل هذا يتضخم المرض ويتضخم الوهم وتُكتب سيرة أخرى لهؤلاء البسطاء. لن يأتي المريض إلى العاصمة بمفرده، بل بصحبة عائلته، وكلما زاد زمن المكوث والعلاج، تضخم الملف العائلي، ودخلت شرائح جديدة إلى ضوء العاصمة، ضوء بارد يدفع إلى اليأس، ضوء أجهزة الأشعة وصالات الانتظار في عيادات الأطباء، تشعر أن مصر كلها مريضة، وملفها الطبي ضخم للغاية. في تلك المدينة الموجوعة الزمن مضغوط، لأن الحياة قصيرة، لذا يمكن أن تتبدل عليك في ساعة واحدة أطياف من المشاعر، ما بين التفاؤل واليأس، والتحفظ والصمت. إنك تلعب لعبة دقيقة مع الموت، لا تعرف صورته، لذا تعدد من صور مشاعرك ليختار منها، تتمسك بالأمل لتنصب له فخًّا، لإطالة زمن الطمأنينة والفرح والصحة، ويمكنك كذلك أن تقابل إحدى صور القدر هناك، عندما يلقي عليك الطبيب أو المساعد بحالة مريضك الخطيرة. كل ما سمعت عنه من أمراض وحالات مستعصية، وكذلك خفت منه، تجده في المستشفى قريبًا وأليفًا للغاية. الصدمة هي أقل ما يقال في تلك اللحظات التي ينضج فيها الإنسان مراحل، ويكبر فيها حزنه، تصبح هناك جملة تستخدم كالأيقونة «نعمل اللي علينا والباقي على ربنا»، في تلك اللحظة يقطع المريض المسجَّى خطوة في ذاكرتك باتجاه العالم الآخر. حدود المستشفى لا تقف عند حدود أسواره الخارجية، بل تمتد لتشمل المقاهي المحيطة، ومواقف السيارات والمطاعم، يخلي المجال من حوله ويقتطع أراضيَ جديدة من حيز مدينة الأصحاء. أعداد كبيرة تنتظر خلف الأبواب ميعاد الزيارة، وهناك من ينتظر خروج الجثمان، من الأبواب الخلفية، وسط صراخ نسائي. يصدر الموت إلى الخارج، وتوضع علامة سوداء في خانة مدينة الأصحاء. هناك عربات إسعاف تنتظر أن يُملأ جوفها بهذا الجثمان. هذا السائق هو الذي يقضي الرحلة الأخيرة مع الجثمان، مع أنه لا يَمُتُّ له بأي صلة.