26 October 2015

عادل كامل: ملك من شعاع


عادل كامل

ملك من شعاع


الفصل الخامس عشر

العاصفة


اجتمع مجلس البلاط ساعات الصباح، وحمي النقاش بين أعضائه والملك منصت لا ينبس. وكان قد مضى على سقوط بيبلوس وقتل «رب أدي» عام، استولى «أزيرو» في خلاله على سوريا بأكملها. وخشي «سيبليل» ملك الحيثيين إن هو ترك «أزيرو» يواصل الهجوم على فلسطين أيضًا، أن تعظم شوكته فيصبح مصدر خطر بعد أن كان أداة في يده. لهذا فقد أحجم عن مساعدته، وأولى عنايته قبائل الخابيري المرابطة في صحراء الأردن. وبدأ هؤلاء البدو مهمتهم فاستولوا على أكثر من نصف فلسطين. وضج الولاة المصريون بالشكوى والاستغاثة كما فعل حكام سوريا من قبل، فما تزحزح «أخناتون» عن موقفه منهم، وظل يرفض في إصرار إرسال أية نجدة عسكرية لمساعدتهم. واشتد عجب المصريين حين سمعوا أن ملكهم قد نظم طرق هجرة الولاة المهددين، وعين لذلك ضابطًا ومعاونين للإشراف على سلامة من يريد الارتحال إلى مصر هربًا من خطر الغزو.
ماذا يقصد الملك؟ كان هذا السؤال يتردد على كل شفة، حتى أصبح الشعب في حيرة من أمره، لا يدري إلى أي المصائر هو مسوق. ولكن سرعان ما أجاب «بتاح موس» على تساؤل الشعب المتلهف، فانتشر أعوانه يوسوسون في الصدور بأن فرعون الخامل الجبان ينوي التخلي عن المستعمرات المصرية التي اكتسبت بأرواح الأبطال ورويت بدمائهم. وراحوا يصورون للناس المستقبل الحالك حين تجرد مصر من أعظم مصادر ثروتها، فينقطع ورود الجزية الآسيوية العميمة، وتصبح الدولة والناس في فقر مدقع. ولن تمر أعوام قليلة حتى يعود عهد الرعاة المتوحشين، فترزح مصر تحت نير استعباد المحتلين كما كانت من قبل. أما السبب في هذه المحن جميعًا فجلي لا يحتاج إلى تذكير. فقد تركت مصر آلهتها الأقدمين، الذين قادوها في طريق النصر والرخاء وجعلوا منها زعيمة الكون، والمرء إذا ترك آلهته فليس له إلا أن ينتظر الرزايا والمصائب، فإن انتقام الآلهة سريع جبار. أما طريق الخلاص من هذه البلايا فواضح أيضًا. إنه «آمون» على رأس جيش باسل، يقوده ملك مؤمن مقدام.
ولم تجد هذه الكلمات المعسولة عسرًا في النفوذ إلى قلب شعب مصر. فقد بادروا إلى عهد قريب للغزو والفتح، فكيف يحتملون اليوم تلك الإهانات المتكررة يوجهها إليهم برابرة متوحشون، أو يسكتون على سلب مستعمراتهم واحدة بعد واحدة.. لم يكن الأمر في اعتبارهم رزقًا يحاولون الاحتفاظ به، ولكنه شرف مثلوم يهبون للذود عنه.
هذا الذي يعج به الشعب في الطرقات، هو ما كان يردده رجال البلاط على مسمع فرعون. ولقد انتظم هذا النغم كل معاوني الملك ما عدا «توت عنخ آتون» و«حور محب» اللذين دأبا على مؤازرة الملك في سياسته السلمية، إطاعة لأمر زعيمهما. ولقد اضطر «حور محب» أخيرًا إلى النزول عند إرادة الكاهن. فقد كان يعتقد أولًا أنه يستطيع حمل الملك على بعثه على رأس جيش قوي يقوده إلى النصر، فإذا رجع إلى مصر وجد اسمه ذائعًا في ربوعها، وقد يستطيع حينئذ أن يحقق أطماعه دون معونة «بتاح موس». غير أن مسلك الملك أفسد كل خططه، فلم يجد بدًّا من الرجوع إلى حظيرة الكاهن وإلا أفلتت منه الفرصة إلى غير رجعة.
وباستثناء هذين اللذين كانا يتكلمان بوحي من سياسة «الخبز والسمك»، كان «أخناتون» وحيدًا في موقفه لا يعضده فيه غير زوجته «نفرتيتي». وحتى «سمنكرع» - مع شدة إخلاصه للملك - عارض سياسته في صمت، فكان يحضر الاجتماعات المتكررة دون أن يبدي رأيًا. فقد بدت مصر في هذه الحقبة الحرجة أعز لدى الجميع من كل شيء - حتى ديانتهم الجديدة. لم تكن تحوي صدورهم غير صيحة واحدة: «مصر أولًا..».
أما «أخناتون» فقد عرف يقينًا أن اليوم تجربته الأليمة. لقد بذل له سيد «آتون» طوال الأعوام الذاهبة كل عون وإرشاد. لقد كشف له عن سر الوجود وحباه بعطفه وشفقته، فمن حق الإله اليوم أن يجرب عبده. وكما كانت رحمة «آتون» عميمة، فلا بد أن تكون تجربته جبارة. إنها قد تقتضي من عبده التفدية بعرشه وحياته وعائلته. فهل هو مستعد لذلك؟
إلا أن الشعب - حتى أصدقاء الملك ومعاونيه - لم يكونوا يفهمون ذلك، ولم يكونوا قادرين على فهمه. قد تكون هذه المحنة تجربة للملك حقًّا. ولكن ما ذنب مصر بأسرها في أن تتحمل وزرها، فتدفع ثمنها من شرفها، ومن قوت بنيها، ومستقبل عهودها؟
لا عجب إن كانت جلسة البلاط في هذا اليوم حادة صاخبة. إنها الجلسة الثانية عشرة من سلسلة الجلسات التي عينت لدراسة المشكلة الآسيوية. وفي كل اجتماع تبح أصوات معاوني الملك في النصح والاستعطاف، وهو لا يتحول عن موقفه. أفلم يكن من مصلحة الجميع أن يوجه الملك هذه العزيمة الجبارة التي يناهضهم بها إلى القضاء على الخطر الآسيوي؟
وفي هذا اليوم كان الشعب قد عيل صبره لطول تردد الملك، فاحتشدت جموعه حول القصر تنتظر نتيجة الاجتماع. ولم تكن هذه الجموع سوى ثورة صامتة، تنقلب عاتية مدمرة طوع أول إشارة تصدر من «بتاح موس». وكان الوزير «نخت» حين يقع بصره على هذه الجموع في غدوه إلى القصر ورواحه منه، يشعر بالخوف يملأ قلبه، إذ يخيل إليه أنهم قد يهجمون عليه في أية لحظة، فيقطعونه إربًا إربًا. وشمل هذا الجزع كل أصدقاء الملك، فلازموا دورهم وامتنعوا عن الظهور في شوارع العاصمة. أما «أخناتون» فقد كان مريضًا يلزم الفراش أغلب يومه، ويحملونه إلى حجرة العرش في سرير تتكاثر عليه الوسائد. ولكنه إذا ما خفت عنه وطأة المرض، ينزل كعادته للتنزه في الحدائق المحيطة بالقصر، فيقابله الشعب بالوجوم والصمت، وحينئذ شعر بأن هذا الشعب الذي كان دائمًا قريبًا من نفسه، أصبحت تفصله عنه اليوم هوة سحيقة أبعدته عنه. ولم يكن هذا الشعور جديدًا لدى الملك، فقد كان في الأيام الأخيرة كلما ازداد تفهمًا لتعاليم «آتون» وأمعن في تطبيقها أحس بأن البون بينه وبين شعبه يزداد اتساعًا، فأدرك في حزن ممض أن شعبه لم يكن قد نضج بعد لقبول الدين الجديد، وعرف أنه قد هبط إلى الأرض قبل زمنه الملائم بأعصر طوال.
حين افتتح الاجتماع في هذا اليوم، فاجأ الوزير «نخت» أعضاء المجلس بقوله إنه يقدم استقالته من منصب الوزارة.
فالتفت إليه «أخناتون» وسأله في سكون:
- لم يا «نخت»؟
- لأنني لا أستطيع تحمل تبعة الموقف الذي يتخذه مولاي.
- ولكنك لا تتحمل تبعة ما يا «نخت»، فأنا فرعون المسؤول الوحيد في الدولة.
وهنا وقف «نخت» وبدا عليه أنه يتأهب للإفاضة في الكلام، فقال:
- هناك تبعة شخصية يا مولاي بجانب التبعة الوزارية، تبعتي قبل نفسي وقبل ضميري... تبعتي قبل الأجيال المقبلة حين تشير إليَّ ساخرة وتقول: «هذا هو «نخت» التعس الذي أذعن لرأي مليكه على الرغم من أنه لا يعتقد صوابه».
- ومن أين أتاك أن العهود المقبلة ستدينك بدلًا من أن تمتدح مسلكك؟ إنني شخصيًّا مطمئن إلى حكم هذه العهود، وهي عزائي الوحيد في تجربتي الراهنة.
وهنا صاح الوزير كأنما يخطب حشدًا من الجيوش:
- أيمتدح التاريخ مسلكي يا مولاي إذ يعرف أنني كنت أرى أملاك بلادي تنسلخ واحدًا إثر واحد، فما رفعت أصبعًا لإنقاذها... أيمتدح التاريخ مسلكي حين يذكر حفدتي أنني كنت أعلم الناس باقتراب خطر الغزو من حدود مصر، ومع ذلك وقفت مكتوف اليدين... هل نسيت يا مولاي أن جموع الغزاة تقترب الآن من بيت المقدس، فإذا بلغوه أصبحوا على مسيرة يوم واحد من حدود مصر؟ يوم واحد هو الذي يفصلنا عن خطر القتل والتدمير يا صاحب الجلالة، ومع ذلك فنحن لم نُعِدَّ للكفاح جنديًّا واحدًا...
نظر الملك إلى وزيره مليًّا، ثم قال:
- هدئ من ثورتك يا «نخت»، ولا تفتن نفسك بهذه الألفاظ الضخمة. أتحسب أنني لم أكن أعرف كل ما ذكرت؟ ومع ذلك فإن بيت المقدس لم يسقط بعد.
أجاب الوزير قائلًا:
- ولكنه سيسقط يا صاحب الجلالة.
- من الذي سيسقطه؟
- حكام فلسطين الخونة الذين استنجدوا بقبائل الخابيري.
وحينئذ صاح الملك صيحة مرعدة:
- فليسقط إذن... إن كان أهل هذه الأقاليم لا يرتضون حكمي فلِمَ أجبرهم عليه؟ أليس من حقهم المشروع أن يستقلوا بأمر أنفسهم؟
استغرق الوزير تعجب شديد، فقال وهو مشدوه:
- أيكون هذا حقًّا مشروعًا يا صاحب الجلالة... إن الحق المشروع هو أن يحتفظ الغازي بما كسب.
أجاب «أخناتون» في هدوء قائلًا:
- كما يحتفظ اللص بما سرق.
سكت الوزير فلم يجب. وساد الصمت حينًا إلى أن قطعه صوت «سمنكرع» وهو يقول للملك:
- ولكننا يا صاحب الجلالة قد نصبح بعض ما يسرقه اللص إذا نحن تركنا الثوار يسعون إلى حدودنا.
- ولكنهم يا «سمنكرع» لم يستولوا إلى الآن إلا على أرضهم وديارهم. فكيف تريدني أن أمنعهم من ذلك وهم لم يمسوا وطني بسوء؟
- فإن فعلوا يا صاحب الجلالة؟
صمت الملك وأطرق، فثبت القوم عيونهم في وجهه. وأحس بهذه الأبصار المتطلعة إليه كما يحدج القضاة جانيًا، فاكتأبت نفسه، وجاشت التعاسة بصدره تعتصره بأيد من حراب. وكاد يبكي على مرأى من وزرائه وقواده. فقد شعر بأنه بات وحيدًا شريدًا لا يعضده في محنته صديق.
وحيد... أجل. بل منبوذ طريد. إنه كأسد مثخن بالجراح، تنهال عليه رماح قناصيه من بعيد ومن قريب، ثم يتركونه ملقى في جوف البراري الموحشة بغير رفيق، إلى أن ينزف دمه فيموت بين الصخور، وتصبح جثته نهبًا للذئاب والغربان. أعدل هذا... أتكون تلك النهاية التعسة جزاء لمن لم يقصر حبه على البشر بل شمل به كل بهيمة ونبت... أبَعد أن أفنى حياته وصحته في أسو جراح قوم وإسعاد نفوسهم، يكون هؤلاء القوم أول من يهدر دمه...
أجل. إنه كذلك. كان عليه أن يعلم قبل فوات الأوان أن الناس يكرهون من يحبهم ويحبون من يظلمهم. فهو لو قام فيهم اليوم قومة عاتٍ جبار، لدانت له الرقاب، وتطلعت إليه الأعين بالإعجاب. ولو أنه أمر الساعة بدق عنق الوزير، لكان أول المبهورين بعمله. وإن هو ألزم سكان كل قرية بأن يقدموا عشرة من أهلهم قرابين للآلهة، لعبده الناس ولتفانوا في إظهار طاعتهم وإخلاصهم. هذا هو الذي اهتدى إليه بعد جهاده الطويل. إن البشر لا يقدس إلا القسوة، ولا يدين لغير الظلم. إن جلال النور يؤذي بصره، فهو يعيش في الظلمات. وكأنما البشر نوع من الخفاش أو البوم، دائمًا يألف الحلك.
الظلام والقسوة والظلم هي الأعمدة الثلاثة التي تبني عليها الإنسانية هيكلها. فإذا وجد من يقول هذا خطأ، أو اكتشف من يحاول هدم هذه الأسس الثلاثة أو بعضها، ارتاعت الإنسانية أشد ارتياع، وانقلبت عليه بأسرها لتطرده قبل أن يطرد قبحها، ولتشرده قبل أن يشرد زيفها، ولتحطمه قبل أن يحطم أصنامها. حينئذ تتنفس الإنسانية الصعداء، فقد أزيح عن عاتقها أكبر خطر يهدد حياتها المعتمة: المصلح أو النبي. فإذا اطمأنت إلى أنها سدت كل منفذ يمكن أن يمرق منه بصيص من الحب أو العدل، استأنفت عجلاتها الدوران، لتنشر الحقد والجهل في النفوس، فتحصنها من كل خطر مستقبل يأتي به نبي جديد.
طافت هذه الخواطر في رأس «أخناتون» وهو مطرق يفكر في سؤال «سمنكرع» له: «وإن فعلوا؟». ولم يكن ما التزمه من صمت حينئذ مرده تردد أو فقد ثقة، فقد كان يدري يقينًا جواب هذا السؤال بل يؤمن بصحته. ولكن ما شعر به من انقباض قلبه جعله يهز كتفيه قائلًا لنفسه: «ما الفائدة؟». فالرجل لا يقتنع إلا إن أراد الاقتناع. فإذا لم تواته هذه الرغبة فلن ترضيه أسطع الحجج، ولن يستهويه أفصح البيان. أما الرجال الملتفون حوله فلا يريدون الاقتناع إلا بعكس رأيه. فالكلام معهم نفخ في طبل مثقوب، وهو مريض منسرق القوى.
وقطع الملك حبل الصمت فرفع رأسه وقال:
- أيها السادة، إنني أشعر بتعب، فسأنسحب الآن لأستريح على أن نستأنف اجتماعنا بعد الظهر.
ونهض الملك فنهض الجميع. وتقدم «سمنكرع» ليأخذ بذراعه فأبعده بإشارة صامتة. ثم أخذ يشق طريقه في ضعف وتعثر بين وجوه أعوانه العابسة.
لم يكد يستقر بالملك المقام بجوار زوجته الحادبة عليه تطببه، حتى أتاه رسول يخبره بأن المجلس قد عاد إلى الاجتماع، إذ وردت أنباء خطيرة من فلسطين تتطلب تدبيرًا عاجلًا. وشاء الملك أن يرسل إلى معاونيه يخبرهم بأنه لن يتمكن من حضور الاجتماع. فقد كان المرض يمزق صدره، وسهر الليالي الماضية يوشك أن يدفع بفكره المحموم إلى الجنون. ها هو ذا يستلقي على فراشه يتلوى كألسنة النار، وقد انبهر تنفسه فصار يلهث في عنف، وإلى جواره جلست «نفرتيتي» أثمن درر الأرض، تبسم له وتعابثه على الرغم مما يصهر قلبها من الألم. إن أيامه على الأرض معدودة، وجدير به أن يقضي ساعاته الأخيرة إلى جوار هذا النبع الجميل من الحب، بدلًا من أن يصرفها في الاستماع إلى جعجعة الأغبياء والجهلاء من وزرائه وقواده. فهم لا يريدون غير المتاجرة بما يصورونه لأنفسهم وطنية نبيلة، ولا يلذهم سوى أن يسمعوا أنفسهم يتكلمون الساعات الطوال عن الشرف والشجاعة والتاريخ. فليتركهم يتكلمون ما قويت ألسنتهم.. فما هم إلا ببغاوات ثرثارة، لا تحوي نفوسهم قطرة من عاطفة صادقة.
غير أن «نفرتيتي» الباسلة كانت في هذه اللحظة أصلب عودًا من الملك، فانحنت على زوجها وقبلته قائلة:
- لا يا «أخناتون».. إن واجب فرعون يقتضيه أن يرأس مجلس البلاط فهو مكانك..
ثم إنها دلكت فوديه وجبينه بالعطر، وأعدت له شرابًا ساخنًا وظلت تسامره إلى أن شربه، فاصطحبته بنفسها إلى باب حجرة العرش، فضغطت يده ثم قبلته وانصرفت.
كان القوم يتصايحون ويشتدون في المجادلة، فما إن أقبل عليهم الملك حتى عنت الجباه وخيم الصمت. حيا «أخناتون» رجاله وجلس على العرش وهم لا يزالون على صمتهم. لقد قر قرارهم قبل مجيئه على أن يبادروه بثورة مرعدة، يحطمون بها إرادته ويغلبونه على رأيه. وها هو ذا قد بدا بينهم.. فماذا دهاهم ومن ألجم ألسنتهم؟ حقًّا إن هذا الملك ليس ببشر! فهو مملوء بالقوى الخفية، والرهبة النافذة. وإن له إرادة صامتة جبارة تسحق إرادتهم المجتمعة دون أن ينبس بلفظ.
تنهد الملك في استطالة ثم أسند جبينه إلى كفه وقال:
- هات ما عندك يا «نخت».
اعتصر الوزير ذاكرته لتوافيه بخطبته المنمقة، فلم يجد في رأسه كلمة منها. وبحث عن سيل حججه التي أزمع سردها على مسمع الملك، فلم يصادف غير اللعثمة تعقد لسانه. وأخيرًا قال:
- يا صاحب الجلالة. لقد.. أتانا اللحظة جندي مهلهل الثياب..
ابتسم الملك في حزن وقال:
- إنهم جميعًا يأتوننا مهلهلي الثياب، فهذا من مستلزمات دورهم. وإن من نظر منهم إلى ثيابه فوجدها غير مهلهلة، أسرع في تمزيقها بيديه قبل أن يمثل أمامك. لا بأس يا «نخت» أكمل..
زاد اضطراب الوزير فعاد يتمتم قائلًا:
- أخبرني هذا الجندي أنه الوحيد الذي استطاع الفرار من بين جند جلالتك المرافقين لقافلة الجزية السنوية التي كنا ننتظر ورودها بعد أيام.
- شيء محزن حقًّا. وإن بدو الخابيري قد سطوا على القافلة فنهبوا كل دابة فيها وأجهزوا على كل جندي. أليس كذلك يا «نخت»؟
أومأ الوزير قائلًا:
- الأمر كذلك يا مولاي.
فأجاب الملك في هدوء قائلًا:
- حسنًا.. وبعد؟
رفع الوزير حاجبيه دهشة وقال:
- ماذا بعد هذا يا مولاي؟
- لقد تلوت عليَّ الخبر وحده «يا نخت»، ولكنك لم تسمعني بعد نواحك وعويلك اللذين عودتني انتظار نغماتهما المحزنة عقب كل خبر آسيوي. قل ما أعظمها إهانة تلحق بفرعون مصر! وإنها لأول وصمة من نوعها تلطخ جبين تاريخنا المجيد أن يُستخف بكرامة فرعون ذاته فتسلب أمواله بعد أن انتزعت أملاكه.. قل هذا وغير هذا من الهواء الفارغ الذي تملأ به رئتيك.
أساء الوزير أن يعرض به الملك على هذا الوجه أول مرة في حياته، فحرق أنيابه وقطب قائلًا:
- لعل الملك يسيئه نصحي؟
- لا يا «نخت» ولكنك كغيرك من الناس فدية مسكينة من صرعى الكلام. يرن في الجو لفظ «الشجاعة» فتعمى الأبصار، ويتلوه «الشرف» فتصم الآذان، ويعقبه «الوطن» فتلغى العقول. وإذا الشعب بأكمله قطيع من جرذان عمي صم لا يفقهون، لأن بعض الكلمات الفارغة قد قرعت الآذان. هكذا كان كل من سبقني من الفراعنة يوجهون سياستهم بالكلام للكلام، دون أن يُعنى أحدهم بالمعنى واللب، فلم يسأل فرعون منهم نفسه مرة: ما هي الشجاعة وما الشرف وما الوطن؟ بل كانت جميعها عندهم مترادفات لكلمة واحدة هي الحرب. فالشجاعة هي الحرب والشرف هو الحرب والوطن هو الحرب. ثم لم يسأل واحد منهم نفسه عن معنى الحرب، فهي عندهم الشجاعة والشرف والوطن بلا سؤال. وهكذا تتم حلقات تلك الدائرة المشؤومة التي طالما نكبت العالم في الماضي، وستظل تنكبه في المستقبل، ولن تستطيع البشرية خلاصًا من ويلاتها ما فتئت بجهلها صريعة الألفاظ الرنانة الخاوية.
استراح الملك هنيهة ثم عاد يقول:
- لعلكم أيها السادة كنتم تتحسرون في غيبتي على ما سيجره عليكم ضعف ملك مريض متواكل. ولكنني سأطمئن قلوبكم. فأنا إن امتنعت عن شن الحرب فما هذا لأنني جبان بل لأنني أشجعكم جميعًا، ولا لأنني خامل بل لأنني أكثركم نشاطًا، وما هو بضعف مني فليس فيكم من يدانيني قوة بأس. ولتعلموا جميعًا أيها المتذمرون أني لو أردت الحرب لغزوت من البلدان ثلاثة أضعاف ما فتحه جدي «تحتمس»، فكيف بقمع بعض الولاة الثائرين. ولكني أفضل أن أفقد النطق حتى لا تنبس شفتاي بإعلان الحرب، وأن تقطع يدي قبل أن أسمح لها بإهدار دم بشري. فالحرب أيها السادة ليست الشجاعة، بل هي جبن الخائف المذعور يهم بالقتل والتحطيم خشية أن يقتل أو يحطم. إنها ليست تهاونًا بالموت. بل هي الخوف أشد الخوف من الموت. وليست الحرب هي الشرف، بل هي الغدر والاغتيال والخديعة. أما الوطن فإن من أحبه حقًّا كره الحرب. فمن يحب وطنه يسيئه أن يسلب وطن غيره، كما أن من يحب زوجته لا يرنو إلى زوجة جاره. أظنكم تستطيعون الآن أيها السادة أن تتلمسوا بأنفسكم معنى الحرب. ولعلي أعبر عن شعوركم إن قلت إنها أقبح شيء في الوجود. ولكنها ليست كذلك وحسب، بل هي أيضًا أكبر خطر يهدد مدنية البشر، لأنها تجعل من جرائم القتل والسرقة والخداع والخيانة أعمالًا مجيدة تشرف مقترفيها.. فهل هناك أشنع من نظام لا يقتصر على إثارة أحط الغرائز الإنسانية وحدها، بل يشجع الخلق ويحثهم على ارتكاب هذه الموبقات، ثم يفخر بهم ويشرفهم إن هم بزوا غيرهم في التلطخ بأدرانها!
صمت الملك لحظة ثم التفت إلى «توت عنخ آتون» وسأله قائلًا:
- هل تريد الحرب يا «توت»؟
- كلا وحق «آتون» يا صاحب الجلالة.
- حسنًا.. وأنت يا «نخت»؟
- الحرب يا مولاي.
- عظيم. لو تعهدت لك بأن أعلن الحرب غدًا إن قمتَ الآن فقتلت «توت عنخ آتون»، هل تفعل؟
هز الوزير رأسه وقال:
- كلا يا مولاي.
- ولِمَ يا «نخت».. أليست الحرب قتلًا؟
- إن الأمر مختلف يا صاحب الجلالة.
- أجل. إنه يختلف حقًّا. يختلف في أنك في الحرب ستقتل بدل الواحد ألفًا. وفي أنك إذ تقتل «توت» مثلًا لأنه يخالفك في الرأي، فإنك في الحرب ستذبح عشرات من الناس بلا جريرة على الإطلاق، لأنك لا تعرفهم ولا هم يعرفونك. فمن منا أشنع جرمًا من صاحبه... أنا إذ أعلن الحرب، أم أنت إذ تقتل «توت»؟
قبل أن يجيب «نخت» سُمع طرق على الباب، ثم دخل على الأثر كبير أمناء الملك، فانحنى بين يديه ثم استوى قائلًا:
- لقد حضر القصر الساعة يا مولاي رسول من آسيا يزعم أنه يحمل أنباء ذات بال.
تنهد الملك وألقى برأسه إلى ظهر مقعده وقال:
- ها قد عدنا لمهلهلي الثياب... لا بأس. هات رسالته.
- إنها معي يا صاحب الجلالة.
وأخرج كبير الأمناء لفافة بردية من دثاره، فألقاها إلى الوزير وانصرف. وكان «نخت» يعلم مبلغ ضيق صدر الملك بهذه الرسائل، فأبقى الكتاب مطويًا في يده، دون أن يجسر على فضه وتلاوته. وسرعان ما بدا على وجه «أخناتون» ما كان يخشى الوزير حدوثه، فقد قطب حاجبيه وصر بأضراسه حتى سمع صريفها في الحجرة كصليل الأسلحة، ثم هوى بيده على المنضدة، وصاح ثائرًا:
- هيا اقرأ.. اقرأ.. ماذا تنتظر؟
بدأ الوزير يقرأ الرسالة بصوت مرتجف:
(((من والي بيت المقدس خادمك وعبدك.
سيدي،
لقد سقطت بيت المقدس أخيرًا وسوف تضيع جميع أرض جلالتك التي ثارت عليَّ. لقد كانت سفن جلالتك الساعد القوي في بسط سلطتك على بلاد النهرين و«قادش». أما الآن فقد احتل بدو الخابيري بلاد فرعون، ولم يبق لسيدي والٍ مطيع فالكل عصاه. فليخش الملك على قطائعه وبلاده وليرسل المدد سريعًا. لأنه إذا لم تصل الجنود في أقرب وقت ذهبت ممتلكات جلالة فرعون سدى، وأصبحت مصر نفسها تحت رحمة العدو. فإذا ما تعسر إرسال الجنود توًّا فليبعث جلالة فرعون ضابطًا يلازمني للحضور أنا وإخوتي كي نموت مع سيدنا الملك.
حاشية([1])...)))
ولكن الملك لم يترك وزيره يسترسل في القراءة، بل نهض بعنف وصرخ قائلًا وهو يضغط فوديه بكلتا يديه:
- كفى. كفى...
ظل الملك على وقفته ساعة، ثم أرخى يديه في بطء واتكأ بهما على المنضدة. ولكن قدميه ما لبثتا أن خانتاه، فتهالك على مقعده واحتوى وجهه في يديه. وأخيرًا رفع رأسه فتجلت في عينيه أفجع مأساة عركت صدر بشر. وكان فكه الأسفل يرتعد، ورأسه يتمايل لشدة ما يلهث. وأخيرًا فتح فمه وقال بصوت خافت:
- أيها السادة.. سأطلعكم على رأيي الأخير صباح الغد من شرفة القصر.

***

علا اللغط في حجرة العرش بعد انصراف الملك. فقد وضح لدى معاونيه أنه يزمع الاتصال بالشعب مباشرة، يخطبه من الشرفة كعادته في كثير من المناسبات. وكان المفهوم لديهم أن الملك لن يتحول عن رأيه، وأنه إن كلم شعبه فليحاول إقناعه بمزية سياسة السلام. ولذلك توجس «سمنكرع» خيفة من نتائج هذه الخطوة الجريئة. فهو يعلم يقينًا أن الشعب الثائر لن يقبل إلا إعلان الحرب، وأن الملك مهما يفتن في الإغراء والاستمالة، فمن المقطوع به أن حججه الفلسفية لن تجد أذنًا صاغية لدى الجمهور الأعمى المتعصب. أما «توت عنخ آتون» فقد راح يؤكد أن عزم الملك يعتبر أبرع حركة سياسية قام بها في حياته، وأنه ينتظر لها نجاحًا يفوق كل المتوقع لما يكنه له الشعب من حب يسمو إلى حد العبادة.
وفيما هم يتحاورون أتاهم رسول من قبل الملك فأبلغ «حور محب» أن يسرع إلى لقاء جلالته. فلما غادر «حور محب» الحجرة ساد الجميع شعور بالاستبشار فقال «نخت»:
- إن استدعاء الملك لقائد الجيش دليل على أنه صار أميل إلى إعلان الحرب.
أما «سمنكرع» فقد ازدادت خشيته، إذ أصبح يساوره في الأيام الأخيرة شك غامض من جانب «حور محب». ولقد قوي هذا الشك حين وجد القائد يتحول دفعة واحدة - لغير سبب ملحوظ - إلى النصح بوجوب اتباع سياسة السلم، بعد أن كان أول المنادين بالنهوض إلى الحرب. فلما عرف «سمنكرع» بعد ذلك بالمهمة التي أوكلها الملك إلى «حور محب» ازداد تشاؤمه، وحدثه قلبه بأن الليلة ستتمخض عن أمر جلل.
حين دخل «حور محب» على الملك وجده مستلقيًا على فراشه، وزوجه قائمة إلى جواره. فلما اقترب منه محاولًا التحدث إليه، أشارت إليه «نفرتيتي» بالصمت، فقد كان «أخناتون» في حال من الإعياء الشديد أسلمه إلى غيبوبة متقطعة. وكان الدم يسيل من فمه دون انقطاع، فتمسحه الملكة بمنشفة وتجفف دموعها بأخرى.
تأمل «حور محب» مليكه المُضنى فأحس بالألم يعصر قلبه، وأوشك أن يسجد إلى جانب فراشه، ليعترف له بخيانته وليسأله الصفح، لشد ما تجسمت له شناعة جريمته في هذه اللحظة...
غير أن الملك ما لبث أن استفاق ثم فتح عينيه فبدتا كأنهما من زجاج، وقد خبا بصيصهما حتى أشبهتا أعين الموتى. وأخيرًا خاطب زوجه بصوت ضعيف قائلًا:
- هل أتى «حور محب»؟
مسحت «نفرتيتي» جبين الملك بماء بارد وقالت:
- إنه بجوارك يا عزيزي.
ثم رفعت كتفيه من فوق الوسادة وأسندتهما إلى صدرها، وقربت من شفتيه كوبًا من الماء رشف منه جرعتين ثم أزاحه عن فمه، وبدأ يخاطب قائده بكلمات خافتة، إلى أن أعلمه بالمهمة التي يطلب منه أداءها. وأخيرًا قال له:
- إن الشعب يعلم أنك من أشجع رجال مصر يا «حور محب». فلو أنك خطبت فيه اليوم لوثق أن حديثك لم يكن صادرًا عن جبن، بل عن حكمة وبعد نظر.
- حسنًا يا صاحب الجلالة.
- فلتنطلق الآن في رعاية «آتون» عالمًا أن نجاحك اليوم في هذه المهمة، أحسن تمهيد يعد الشعب لتقبل ما سأصارحه به في الغد.

***

كانت في الجانب الشرقي لمدينة الأفق حديقة متطرفة، مغروسة في أسفل القبر الذي حفره «أخناتون» لنفسه في صخور الجبل. وقبل مغرب الشمس بساعة رئيت جموع الأهلين تتجه وحدانًا وزرافات نحو هذه الحديقة، حيث كان المنادون قد جاسوا خلال المدينة يعلنون القوم بأن القائد «حور محب» سيخطب هناك.
سمع «سمنكرع» هذا النداء فتعجب له. إن «مدينة الأفق» مدينة حدائق، تكتنفها الساحات المنبسطة في كل مكان. فلِمَ اختار القائد هذه الحديقة النائية ميدانًا لخطبته؟ وعاد لذاكرته أنه لمح منذ يومين شخصًا يمرق في الظلام بصورة تثير الريبة، فلما اقترب منه وتعرفه، كاد يجزم بأنه أحد أعوان «بتاح موس» كان يعرفه في طيبة. فما الذي أتى به إلى «آخت آتون»؟ إن من أيسر الأمور اليوم إثارة شعب العاصمة المهتاج. فهل تكون هذه العلائم جميعًا مظاهر لتدبير خفي يدبجه كاهن «آمون»؟ وكان أن اندس «سمنكرع» في جموع الشعب ليرقب ما سيكون من شأن هذا الاجتماع.
كان الحشد طاميًا، فوجد «سمنكرع» مشقة شديدة في الاقتراب من المنصة التي أعدت لكي يلقي منها القائد خطبته. ولحظ وهو يشق لنفسه طريقًا وسط كتل الشعب المتراصة، أن من بينهم كثيرين ممن لم يقع عليهم بصره في «مدينة الأفق» من قبل. من أين جاء هؤلاء الأجانب عن العاصمة ومن أتى بهم؟ إن من يتفرس في وجوههم السمر وشعرهم المجعد وأعينهم الحادة، لا يتردد في القسم بأنهم من أهل طيبة. يا لرحمة «آتون»! إن الأمر يفوق في خطره كل حسبان، فليس هذا الاجتماع مجرد مصادفة بل هو مؤامرة واسعة النطاق.
ظل الناس يتصايحون ويصخبون إلى أن سُمع صوت عجلة مسرعة، ما لبثت أن وقفت بجوار المنصة فصمتت الأفواه وتطلعت الأعين. قفز من العجلة «حور محب» بقوامه الممشوق ومن بعده... من يكون هذا؟ «توت عنخ آتون».. ولكن شخصًا ثالثًا هم هو الآخر بالنزول فلما واجه الجموع رآه «سمنكرع» فإذا به... يا للدهشة «مري رع» رئيس كهنة «آتون» وأكثر أصدقاء الملك قربًا إلى قلبه... ووقف ثلاثتهم قليلًا يتهامسون، ثم صعد «حور محب» إلى المنصة ودلف زميلاه وراءها.
استقبل الشعب القائد بوجوم أول الأمر. ثم سمعت صيحات متفرقة كأنها مدبرة، تتعالى من هنا وهناك فانتشرت العدوى ودوى المكان بالهتاف. وانتظر «حور محب» إلى أن خفتت الأصوات، ثم انتظر إلى أن سكنت، ثم انتظر أيضًا ساعة طويلة كان الصمت فيه مخيمًا على رؤوس القوم، وبدأ التشوق يلعب بهم كل ملعب. ومع ذلك لم يتكلم القائد بل وقف ثابتًا يجول بعينيه في الجموع. وأخيرًا ضاق صدر الناس، فسمعت بينهم همهمة خفيفة ما إن وصلت إلى أذني «حور محب» حتى فتح فاه وبدأ يتكلم. فهذه هي اللحظة التي يحسن به أن يبدأ عندها خطابه حتى تجد كلماته الطريق مُعبدًا إلى قلوب السامعين. وليس عجيبًا أن يُعرف عنه أنه أفصح خطباء عصره فقد كان ذا معرفة تامة بشتى أنواع الحيل الخطابية التي تخلب أفئدة الجموع. بدأ «حور محب» خطبته فقال:
(((أيها السادة. يا شعب «آخت آتون». تعلمون جميعًا أنني صديق للملك من قبل أن يتولى العرش. وتعلمون أيضًا أن الملك صديق للشعب. (أصوات تقول: «لا. لا. لم يعد صديقًا»). بل هو كذلك. ولهذا فأنا أيضًا صديق لكم. يا شعب «آخت آتون». يعرف جميعكم أنني لم أخن في حياتي صديقًا لي. فما خنت الملك ولن أخونه. فهل بلغ أحدكم أنني خنت الشعب أو أنوي خيانته؟ (أصوات: «لا. لا. أنت صديق الشعب»).
إذن فلتضعوا ثقتكم فيَّ أيها المواطنون، ولتلقوا إليَّ بأسماعكم. إن رحمة الملك وحكمته قد شاءتا أن تطرح آلهتنا القديمة، وأن نعتنق ديانة «آتون» السامية. (أصوات: «ليته ما فعل. لقد جاء النحس في ركاب آتون»). كلا أيها السادة. فـ«آتون» هو إله الحب والسلام. ثم إن الملك رأى بحكمته أن ينبذ طيبة عاصمة الدولة القديمة، وأن ينتقل ببلاطه إلى هذه المدينة الجميلة، «آخت آتون». فأطعنا الملك وتركنا طيبة بمغانيها وبحيراتها، وتركنا الكرنك بمعابده ومقابره حيث يرقد «تحتمس» بطلنا الأول إلى جوار جدوده الفراعنة العظام. (أصوات أشد قوة: «نريد الرجوع إلى طيبة»، «العودة إلى العاصمة المجيدة»).
أيها السادة. ما كان يحسن بكم التلفظ بهذا الهتاف. فالملك أبعدنا نظرًا وهو أعلم بما فيه خير شعبه ووطنه. فإذا كنا قد أطعنا الملك ستة عشر عامًا متوالية، فلِمَ تريدون أن نعصيه اليوم إذ يأمرنا بألا ندفع عن أنفسنا أذى الغزاة الآسيويين؟
(أصوات: «هذا لن يكون»).
إنكم تسيئون إليَّ بهذه الصيحات أيها المواطنون، فإنه مما يحرجني - وأنا صديق للملك - أن أسمعكم تنتقدون سياسته. فهل تودون لي هذا الحرج؟ (أصوات: «إنما أنت صديق الشعب يا «حور محب»»).
هدئوا من ثورتكم أيها السادة، واستمعوا معي إلى حجج الملك. لقد بلغنا اليوم أن بيت المقدس قد سقطت في أيدي الغزاة، فانهار بسقوطها آخر معقل لنا في آسيا. (أصوات مختلطة). صمتًا أيها المواطنون وأصغوا. وهكذا ضاعت كل مستعمراتنا في فلسطين، وكل مستعمراتنا في بلاد النهرين. ولكن الملك يقول - وهو محق فيما يقول - إن المستعمرات جميعها تعتبر قانونًا ملكًا لشخصه. فمن حقه أن يتصرف فيها بما يحلو له. له أن يحتفظ بها إن رأى، وله أن يتخلى عنها إن شاء، وله أن يهبها من يريد. فإن ابتغى اليوم أن يخلعها على أعدائنا الآسيويين فليس لأحد منكم أن يشكو، لأن الملك إنما يتصرف في ملكه. والملك لا يخضع لإرادة غير إرادته. (أصوات: «المستعمرات شريناها بدمائنا. المستعمرات ملك لنا»).
هذا غير صحيح أيها السادة، واليوم ترامى إلينا خبر شديد الخطر، ذلك أن قافلة الجزية المؤلفة من عشرة آلاف دابة - وهي التي كنا في أشد حاجة إلى ورودها سالمة - قد سطا عليها البدو فاستلبوها جميعًا، وقتلوا الجنود المصريين المرافقين لها. (أصوات). صمتًا أيها المواطنون وأصغوا. فلست بمخف عنكم شيئًا ما دمتم قد وثقتم بي. لقد كنا ننتظر هذه الجزية بلهفة بالغة وتشوق عظيم، إذ إن خزانة الدولة - لاختلال ورود الجزية في السنين السالفة - أصبحت اليوم خاوية ليس فيها قطعة ذهب واحدة تنفق في مصالح الشعب. ولقد رفض الملك أن يأمرنا بمتابعة اللصوص لأنه يقول - وهو محق فيما يقول - إن الجزية قانونًا ملك له وحده، إن رأى أن يصرفها في شؤون الشعب فهذا شأنه، وإن فضل أن يحبسها على خدمة «آتون» فله ما فضل، فإن حلا له أن يدعها نهبًا للصوص فليس لأحد أن يعترض، لأن الملك يتصرف في ملكه، والملك لا يخضع لإرادة غير إرادته. (أصوات: «لقد آن له أن يخضع». «جزية مصر جزية الشعب». «شعب مصر لا يهان»).
أيها السادة. لو عرفتم كم أنتم تعملون على أن تكون مهمتي عسيرة، لما صرختم بهذه الهتافات التي تحرك كامن أشجاني. إنني صديق للملك. ولكنني أيضًا صديقكم، يثيرني ما يثيركم ويحزنني ما يحزنكم، فقد حارب جدي في صفوف «تحتمس» بطلنا العظيم كما حارب ألوف من جدودكم. ولقد قتل جدي في موقعة «مجدو» عشرين من الآسيويين الأنذال. وبينما يدفع بصدره سهام العدو عن مليكه في موقعة «قادش» أصابته طعنة صرعته عند قدمي فرعون. ولقد روى الألوف من جدودكم بدمائهم أيضًا تلك التربة الغالية الثمن. يا للآلهة... أما لو بعث جدي وجدودكم اليوم، فشاهدوا ما فعل حفدتهم بالتراب المجيد الذي شروه بأرواحهم، لتبرأوا منا ولعنونا إلى الأبد. (أصوات مدوية: «يا للعار... يا للشنار...»). ترى ماذا تقول روح «تحتمس» المقدسة المشرفة علينا الآن من خدر الآلهة؟! لكأنني أسمع صوته المدوي يصرخ عاليًا: «أين «قادش» و«مجدو»؟ لقد جعلت منهما أبهى درتين في تاج مصر فصيرتموها...». (أصوات: «وصمة في جبين الوطن»).
لا.. لا. أيها السادة، فهذا القول يغضب الملك، وأنا صديق له. فعلينا أن نكتم أفواهنا، وأن نخشع بأبصارنا، فإننا لم نعد جديرين بالتلفظ بهذين الاسمين المقدسين... كيف نذكر «قادش» و«مجدو» والعدو على حدودنا، وعن قريب يغزونا في عقر دارنا، فينهب ثروتنا، ويهدم معابدنا، ويسبي نساءنا، ويذبح أطفالنا، ويأسر رجالنا... حينئذ يصبح سادة العالم عبيدًا للبرابرة المتوحشين، وتصبح أرض الفراعنة المقدسة موطئًا لنعال الكفرة.. كيف نذكر هاتين الموقعتين المجيدتين، وكيف نذكر «تحتمس» الخالد، وعن قريب يجعل العدو من طيبة و«آخت آتون» «قادش» و«مجدو» أخريين.. فينقلب النصر عارًا، والعزة ذلة، والشرف ضعة ومهانة.. (أصوات: «هذا لن يكون». «شعب مصر لن يهان»).
خففوا أصواتكم أيها المواطنون، فما نحن إلا شعب فرعون وعبيده. هو يحكم ونحن نطيع، والملك أبعدنا نظرًا. حقيقة قد سمعنا في طيبة لحنًا جديدًا يقول بأن الملك هو صوت الشعب وصدى أمانيه، فالإرادة للشعب والملك هو المنفذ. وقد يكون هذا صحيحًا أيها المواطنون، فالدولة أنشئت للشعب وأنتم الحكام الحقيقيون. أنتم ذخر الأمة ومصدر قوتها.. أنتم العنصر الفعال في سياسة الدولة. ولكن.. ولكننا أيها السادة لسنا في طيبة، بل في «آخت آتون»، والملك هنا لا يقر هذا النوع من التفكير. وهو أحكمنا جميعًا. (أصوات مرعدة: «ليسقط الملك!»).
معاذ الله أيها المواطنون! فالملك يحبكم ولو أنه... لا يريد الحرب (هتافات صاخبة: «لن نرضى بغير الحرب». «إرادة الشعب فوق الجميع». «الحرب، الحرب...»). رفقًا بي أيها المواطنون الأعزاء. لا تحرجوني فأنا صديق للملك، وهو سيخطبكم غدًا فكيف تلقونه بهذه الروح؟! عليكم أيها السادة أن تكبحوا جماحكم وتذعنوا لإرادة الملك. (أصوات: «ليذهب الملك إلى الجحيم!»).
أيها المواطنون...)))
ولكن صوت القائد غرق في لجج الهتافات المدوية. وحين نزل عن المنصة، كان الفضاء يرتج بصيحات الشعب الثائر:
- ليحيا «حور محب» زعيم الشعب، ملك الشعب... ليسقط فرعون ولتحيى الحرب...
واستقل الخونة الثلاثة عربتهم، وانقلبوا عائدين إلى منزل «حور محب» حيث اجتمعوا بـ«بتاح موس» الذي كان قد حضر مستخفيًا إلى «آخت آتون» ونزل في بيت القائد. وهناك أعدوا العدة للغد.
الغد... فصل الخطاب ونقطة التحول.
يا للغد التاريخي المرهوب...




([1]) عن إحدى الرسائل المعروفة بـ«خطابات تل العمارنة».

24 October 2015

إبراهيم عيسى: دم الحسين


إبراهيم عيسى

دم الحسين


مقدمة

(أ)

كم مرة بكيتُ وأنا أكتب هذا الكتاب!
فجأة، حضر التاريخ كله في حجرة مكتبي. وجدتُ السيوف اللامعة، والدم المُراق، ودفقات الجثث، وصراخ الثكالى، والأحصنة اللاهثة، والحر القائظ، وألسنة النار، وألوان الخيانة، وعتمة الغدر، ودهاليز السياسة، وستائر القصور، وجموع الرؤوس المقصوفة والمذبوحة... وجدتُ كل هذا على المقعد المقابل، وحول حواف المكتب، وفوق المكتب، وتحت أوراقي، وخلف ظهري. واندفع الدم ساخنًا وسخيًّا على أقلامي وأوراقي وكتبي، حتى ظننت أنها النهاية.
ثم إنني رأيت الحسين!

(ب)

لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون.
ولا يستوي ـ كذلك ـ الذين يتعلَّمون مع الذين لا يتعلَّمون.
والتاريخ مُعلِّم عظيم.
ليس ـ إذن ـ من قبيل المصادفة أن يكون المفسِّر العلَّامة ابن كثير، صاحب أهم التفاسير الشارحة للقرآن الكريم، هو نفسه صاحب المجلد الضخم «البداية والنهاية»، أهم مراجع التاريخ الإسلامي كافةً. وليست مصادفة ـ كذلك ـ أن يكون «تاريخ الرُّسل والملوك» للإمام الطبري واقفًا على قدم المساواة مع عطاء الطبري الفكري والديني والتفسيري.
وإنهما ـ وغيرهما ـ عرفا معنى التاريخ، وأنه الساحة المفتوحة لاختبار واختيار الدين والدنيا.
التاريخ ـ قصصًا وحكاياتٍ وسِيرًا ـ مدرسة حقيقية لكل تلاميذ الحقيقة.
والغريب أن أحدًا من الذين يتشدقون ويُفتُون ويرمون الناس بالفتاوى لم يعطِ نصف وقته ـ أو رُبعَه ـ لقراءة التاريخ وفهمه، وليعلم يقينًا أن السياسة غير الدين، وأن الدين ليس مطية السياسة، وأن أناسًا رفعوا المصاحف والسيوف ـ والبنادق ـ بعضهم أمام بعض، مع أنهم لا يختلفون كثيرًا ـ ولا أبدًا ـ في شروح الآيات وفقه السُّنة، وإنما استخدم كل طرف الآيات والأحاديث لهثًا وراء الحُكم والنفوذ والمال... وقَطع الرقاب.
الدين كانت معركته سهلة.
أما الدنيا فهي معركة دامية.
وأهم ما يُفصح عنه التاريخ أن الدين قد تم استعماله واستخدامه ـ ولا يزال ـ لصالح الدنيا. كما أن القيم الشريفة والخِصال الرفيعة تُدهَس دومًا تحت حوافر الخيل وجنازير الدبابات.

(ج)

هل وقته الآن الكلام عن الحسين؟
نعم، في كل وقت نحن في حاجة إلى هذا الزمن، ومع كثرة ما كُتب ـ وما قُرئ ـ عن الحسين سيد الشهداء وسيد شباب أهل الجنة (جعلَنا الله من شبابها... يا رب) فإن كثيرًا من العيون والأقلام أغفل الحديث عمَّا بعد مقتل الحسين.
ماذا جرى تحت اسم دمائه الطاهرة؟
حقًّا، يمكن أن ننخدع بالشعارات واللافتات، بدءًا بـ«يا منصورُ أَمِت» وانتهاء بـ«الإسلام هو الحل»، لمجرَّد نبل وعظمة وأهمية الشعار.
إن الشعار يظلُّ ـ مهما كان ـ شعارًا.
أما الذي يُطبقه...
أما كيف يُطبقه...
فهذه هي القضية!

(د)

ستجد في هذا الكتاب شيئًا مما أريد أن أقوله، لكن لن تجد كل شيء تمنيت أن أقوله، وعليك أنت أن تقرأ وتخرج بما تريد.
لكن ما أضمنه لك، أمران:
الأول: أنك ستُحِب سيدنا الحسين أكثر.
والثاني: أنك سترى هولًا لا تطيقه، ودماءً لم تعهدها، وأحداثًا أغرب من أن تتخيلها. وكل هذا حقيقي، وسنده الأساسي ابن كثير والطبري.

(هـ)

عندما أعدت قراءة كتابي هذا، قررت أن أحذف منه كثيرًا وأضيف إليه أكثر. لكنني كلما كنت أحاول، أعود فأرى الدم المُراق، والأحصنة اللاهثة، والسيوف اللامعة، وألسنة النار، وألوان الخيانة، ودفقات الجثث، وصراخ الثكالى، وجموع الرؤوس المقصوفة والمذبوحة.
فلم أحذف، ولم أُضِف.



دم الحسين
(تدور الأحداث بين عامي 60 و67 هجريًّا)


الجزء الأول

الخيل فوق صدر الحسين
أنت يا حرُّ حرٌّ

وقف الحر بن يزيد على فرسه، ينظر بعيون دامعة، وقلب واجف، وبدن مُرتعِد، برعشة أخذت عليه جسده، وأنهكت قلبه. يتحرك بفرسه دائرًا حول نفسه، ملقيًا نظراته على الصحراء الممتدة أمامه، وقد تَحكَّمت فيه أفكاره، وسيطرت عليه أحاسيسه. بدا كأنه ليس الحر بن يزيد، أقوى فرسان قومه، وأعظم قادة الكوفة العسكريين.
كانت حوافر الفرس تخبط في الرمال، فتثير غبارًا، وتفجر ترابًا فوق تلك الربوة التي اعتلاها الحر.
وبين عُمْرين وحياتين وقدرين ومستقبلين، يتردد.
عن يمينه جيش الحسين بن علي بن أبي طالب، الحسين ابن النبي صلى الله عليه وسلم، يحاصره الجنود والحطب والقصب والخشب والنار والخيام، التي يتخذها ابن بنت رسول الله وقاية لظهره وحماية لأهله.
تتصلَّب عيونه في هذه البقعة من «كربلاء» على ابن نبيِّه، ذلك الذي يُصلِّي عليه ويُسلِّم، ويرجو عفوه وشفاعته، ويُقاتل من أجل دينه، ويُعلي في بنائه.
لكز الحر بطن فرسه وهو يسأل نفسه: ما الذي أوقعني؟ مَن الذي قادني إلى تهلكة نفسي، وبيع الدين بالدنيا؟!
تَذكَّر أوامر عمر بن سعد، قائد جيش يزيد الزاحف بأربعة آلاف جندي وفارس يطلبون دم الحسين أو جرَّه إلى قصر الكوفة، حيث ينتظره زياد بن مرجانة، أمير يزيد بن معاوية على الكوفة، بدمامته، ووحشيته، وسوء خُلقه، وسوأة خِلقته، يفترس عظم ابن النبي العظيم، وينهش في لحم رسالته وحلم إمامته.
ـ ما الذي أوقفني هنا يا أبناء الأفاعي؟
حدَّث الحر نفسه، وهو يلتفت إلى جيش عمر بن سعد، وحسم أمره، وأجبر شيطانه على التراجع.
ـ مقاتلٌ أنت هذا الرجل؟ (يقصد الحسين).
فأجابه عمر:
ـ إي والله، قتالًا أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي.
ليست المسألة تهديدًا لكي يتراجع الحسين عن طلب الخلافة، وليست مجرَّد إرهاب ليُسلِّم ليزيد بالبيعة.
إن الأمر جِدٌّ، وإن الهلاك قادم، والحسين مقتول لا محالة، فهو يقف بين ثلاثين أو أربعين رجلًا فقط من أهله وأنصاره وعشيرته. وحدَه في هذه الصحراء الشاسعة القاتلة. خلفه النيران الناشبة في خيامه، وأمامه أربعة آلاف فارس يقودهم الطامح إلى الإمارة، والأفَّاق، والمنافق، والمريض بالسُّلطة، والذي باع دينه مقابل كيس دراهم، والذي أجبره الخوف وأضعفته النَّفس السيئة، فاندفع لمقاتلة ابن النبي لا كذب، ابن علي بن أبي طالب، ابن فاطمة بنت محمد.
يا الله!
ما أضيع النفس، وأضعف القلب، وأخفَّ الثقل يوم العرض على الميزان!
سمع الحر حوافر فرس تقترب، وارتجاج جسد فوق ظهر الفرس، وهمهمة بعيدة تدنو.
إنه المهاجر بن أوس، صاحبه ورفيقه في رحلة الصحراء، وصفوف الجيش، وسكن الكوفة، والخروج لقتال «الدَّيلم» فجرًا، والصلاة في المسجد، والتسبيح في العشاء، وجلسات الشِّعر أمام نيران تدفئ القلب والصدور في ليل الكوفة.
زعق فيه المهاجر منتفضًا فوق حصانه:
ـ والله إن أمرك لَمُريب، والله ما رأيت منك في موقف أبدًا مثل شيء أراه الآن، ولو قيل لي مَن أشجع أهل الكوفة رجلًا، ما اخترت غيرك، فما هذا الذي أرى منك؟!
التفت إليه الحر وقال:
ـ إني والله أُخيِّر نفسي بين الجنة والنار، ووالله لا أختار على الجنة شيئًا ولو قُطِّعتُ وحُرِّقت!
دفع الحر فرسه فانطلق بالحوافر وزغرد بالصهيل، والمهاجر يتابعه مندهشًا مذهولًا. ودخل بفرسه إلى حلقة الحسين الصغيرة المقاتلة الشجاعة المؤمنة. اقترب منه لاهثًا، واثقًا، مطمئنًّا:
ـ جعلني الله فداك يا ابن رسول الله، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق. وإني جئت تائبًا مما كان منِّي إلى ربي، ومواسيًا لك بنفسي، وحتى أموت بين يديك. أفترى ذلك لي توبة؟
نظر إليه الحسين ابن رسول الله، وقال:
ـ نعم يتوب الله عليك، ويغفر لك... ما اسمك؟
فقال:
ـ أنا الحر بن يزيد.
قال الحسين:
ـ أنت الحر كما سمَّتك أمك، أنت الحر إن شاء الله في الدنيا والآخرة.