07 October 2015

عادل كامل: مليم الأكبر



عادل كامل

مليم الأكبر

مقدمة
في تأديب مليم
في فنون اللغة والأدب

لهذه القصة قصة..
ولست أعني قصة واقعية أوحت بها، وإنما قصة خيالية تلتها.
وهي قصة خيالية لأنها لا تستند إلى حقائق الحياة، ولا تقوم على رأي واقعي حصيف في فهم الأدب.
ولست أعرف تفصيل أمر هذه القصة على وجه اليقين، وإن كنت عرفت فصلها الأخير. وإنه لعجيب.
قدمت رواية «مليم الأكبر» في مباراة فاروق الأول للقصة المصرية التي تنظرها لجنة الأدب بمجمع فؤاد الأول للغة العربية. ولأمر ما رأت اللجنة أن تبيع سمسمًا مقشورًا بغير مقشور، فرفضت أن تعطي مليم بضعة الجنيهات المقررة، أو أن تعطيه جائزة بدون جنيهات.
جاءني المسكين معولًا باكيًا، يشد شعره بيد، ويضرب صدره بالأخرى.
قلت له:
-       رشادك يا فتى. فالمال الذي كنت ستعطاه ما كان يكفيك لمعالجة إحدى عينيك اللتين قرحهما سهر الليالي، وأعماهما نقش الورق. أم تراك كنت في حاجة إلى رباط عنق أو زوج من النعال؟
قال وهو يزفر زفرة يلين لها قلب الكافر:
-       ليس الأمر ما ذكرت.
قلت:
-       لعله الحسد البغيض يأكل قلبك... عهدي بك فتى يعرف قدر نفسه.
فسمعته يئن أنة تتصدع لها بروج السماء، ثم عاد يقول:
-       إنه أمر لا يخطر لك ببال.
قلت:
-       أفصح. ما بالك تتكلم بالهندية!
قال:
-       يحق لك أن تسخر. ولكن ماذا تراك قائلًا، لو علمت أن هناك جائزة وليس من يحوزها ولو كان من الفائزين؟
قلت:
-       أتراها بعيدة المنال إلى هذا الحد؟ أنا أعلم أنها جائزة نفيسة لا يجود الدهر بمثلها في مدى قرن من الزمان.
قال:
-       بل هي قريبة المنال لكل من استطاع الرجز بمثل قولهم:
نم مبكرًا واستيقظ مبكرًا                 تعش سعيدًا غنيًّا عاقلًا
فإن لم يكن بهذا فبقولهم:
كن ابن من شئت واكتسب              أدبًا يغنيك محموده عن النسب
فإن لم يكن بهذا ولا بذاك، ولم تستطع أن تقول:
إن الشباب والفراغ والجدة              مفسدة للمرء أي مفسدة
فعليك في القليل ألا تهبط عن مستوى قول القائل:
قدر لرجلك قبل الخطو موضعها                 فمن علا زلجًا عن غرة زلجا
ولكنك لم تستطع أن تجري على لساني مثل هذا، بل كنت تجعلني في بعض الأحيان أكفر بهذه المبادئ السامية. فكان ما كان.
قلت:
-       ويحك يا مليم! ومن يقدر اليوم على إبداع مثل تلك الدرر الأخلاقية... ولكنك لا تزال تجمل وأنا أريد التفسير. فهلا حدثتني بما انتهى إليه أمر هذه المباراة الفريدة؟
قال:
-       صدر القرار بمد أجلها، أو بفتح بابها - لست أدري.
ولما لم تكن لي شهوة للمزاح، تأوهت وأنشدت:
ولي كبد مقروحة من يبيعني            بها كبدًا ليست بذات قروح
ثم التفت إلى مليم وقلت له:
-       إن كان في نيتك أن تشتري ذا علة بصحيح - فلا عليك. فإذا لم ترغب - ولست أراك راغبًا - فرحماك، رحماك... لم تعد لي طاقة على تحمل الهذر.
قال:
-       بل هو ما قلت. لقد فتح الباب عودًا على بدء.
قلت:
-       كيف؟! أسلعة تعرض في سوق، أم عقار يطرح في مزاد؟ لا تتكلم عن فتح الأبواب ومد الآجال، فهي عبارات غريبة عن عالم الأدب.
فهز كتفيه مستخفًّا، وارتسمت على شفتيه بسمة رثاء، ثم عاد يقول:
-       لقد أنبأتك بما حدث. ولك الرأي في أن تصدقه أو تطرحه.
عندئذ نهضت واقفًا. وانطلقت أصفق طويلًا طويلًا. وكنت كلما تلتهب كفاي، صببت عليهما ماء مثلوجًا حتى تبردا، ثم أشرع في التصفيق من جديد وهكذا... فلو لم ينل مني التعب لحضرتني الوفاة وأنا أصفق. وها أنا انتهيت من أمري حتى سمعت مليم يسألني:
-       فيم هذا الضجيج؟
قلت:
-       إن مثلك لا ينتبه إلى الحكمة إن عثر بها. ولعمري صدق من قال: «لا تلقوا درركم إلى الخنازير». أما أنا فقد أدركت.
التوت شفتا مليم وهو يقول:
-       ماذا أدركت مما لم أدرك؟
قلت:
-       لقد انكشف لي الحجاب. هذه جائزة خالدة خلود الأرض. لن تعطى إلا يوم القيامة. لقد أريد بها أن تكون نبراسًا وهدى للعالم إلى أن يحين الحين، وأن تسترشد بها أجيال الخلق على مر العصور، حتى إذا كان يوم الحساب، طرحت البشرية أعمالها وعددت مآثرها، فإن نجحت في إثبات جدارتها وحسن سلوكها، كلل المجمع بالجائزة هامتها، وإلا حرمت الأرض من الجائزة، فتعطى لبشر المريخ أو زحل، إن كان لديهم مجمع هناك.
إلا أن مليم لم يصدق قولي. فقلت له:
-       سآتيك بالبينة إن كان لديك استعداد لسماع درس في المنطق.
قال:
-       هات.


درس في المنطق

استرخيت في مقعدي، والتزمت هيئة الأساتذة الموقرين، وبدأت أحدثه بصوت متئد، فقلت له:
-       إن معظم ما ينشب بين الناس من خلاف في الرأي مرجعه الأول إلى أنهم يبادرون بالصياح والضجيج دون نظر إلى موضوع النقاش. فلو أنهم اتفقوا فيما بينهم - بادئ الأمر - على تحديد مبناه وتوضيح معناه، لكفى الله المؤمنين شر القتال، في معظم الأحوال. لهذا أرجو أن أتفق وإياك على تعريف لكلمة مباراة.
وأنت أيها القارئ إن كان لك شباب وفراغ وجدة، فقرأت هذه القصة المفسدة لك أي مفسدة، فستعلم أن مليم ليس ممن يحبون تصديع الرؤوس بالكلام. وقد يكون للفتى عذره، فلشد ما عانى في فتوته من الكلام والمتكلمين. فلا تعجب إن سمعته يقول لي:
-       إنك خبير بتعقيد الأمور. هات ما عندك على أن توجز في مقالك. أنت تعلم أنني خارج لتوي من تحت مباضع أطباء شديدي النكاية.
وكان في نيتي أن أطيل الشرح والتفلسف. فقطع عليَّ الطريق، وأرغمني على الإيجاز، فقلت:
-       إن المباراة في تصوري مضمار يتنافس فيه المتبارون، وجائزة تعطى للأسبق. فهل أنت موافقي على هذا التعريف؟
قال:
-       أجل.
قلت:
-       ألم يكن معك متبارون غيرك؟
قال:
-       سل الأستاذ نجيب محفوظ زميلك في السراء والضراء. لقد كانوا وأيمن الله كثيرين.
قلت:
-       ألم يتنافسوا فيما بينهم؟
قال:
-       بذلوا ما في طاقتهم من جهد، وقدموا ما في جعبتهم من فن.
قلت:
-       وهل بلغوا جميعًا الهدف عينه؟
قال:
-       وهل يعقل هذا؟!
قلت:
-       فماذا الذي حدث إذن؟
قال:
-       يقول الأستاذ نجيب محفوظ إن الهدف استحال سرابًا[1].
فأطرقت برهة ثم تمتمت قائلًا:
-       أجل. لعمري هو محق كالعهد به دائمًا. ولكني الملوم يا مليم، إذ أطلقتك في أثر سراب.
قال:
-       أنت معذور أيها الكاتب. من أين لك العلم بأنه سراب وقد أذيع أمره في الصحف؟
قلت:
-       كان من واجبي أن أفطن إلى أن الحقائق نسبية، وأن الآراء على خلاف. ولكن خبِّرني هل قيل لكم حين انتهت المباراة، إن الأمر هذر والهدف سراب؟
قال:
-       لا. بل أخذوا يتفحصوننا بأبصارهم، ويغمزون جوانبنا بمباضعهم، ثم يتناظرون ويعلقون. كنا عراة أمامهم، ولم يكن لدينا من الوسائل ما ندفع به ذل الموقف عن أنفسنا. كان الدم يغلي في عروقنا، لقد قبلنا لأنفسنا هذا الوضع، وكان علينا أن نشرب كأس المر صاغرين... بربك لا تذكرني بتلك الساعة الشائنة، فإن بدني يقشعر منها إلى الآن.
قلت:
-       وا ذُلاه! أوَ لم تجد نصيرًا يدرأ عنك بعض السهام؟
قال:
-       ليس من شأنك أن تعرف. أتحسبني من الضعة بحيث أطلعك على ما دار في مداولة سرية؟
فقلت لمليم وأنا أحاوره عله يقع في الفخ:
-       لا عليك. أنا أعلم أن الرأي إنما يصدر عن إجماع. فإن أجمع قوم على رأي، فهل تخالني أصدقك وأكذبهم؟
قال وقد بلغ به الضيق مبلغ الانطلاق:
-       كأنك لا تعرف خبر الذي وضعوه في النعش حيًّا. وساروا في جنازته يبكون ويولولون، حتى إذا مر بهم الوالي التركي، صاح المسكين من النعش يستنجد به، فما كان من الوالي إلا أن انتهره وقال له قولك: «كيف أصدقك وأكذبهم؟». ثم أمر المشيعين أن ينطلقوا به إلى ظلمة القبر!
أنت تعلم أن الناس قد يخرجون قاصدين مشرق الأرض، متخذين من الشمس دليلًا وهديًّا. ثم قد يظهر من بينهم من هو أضخم جثة وأعلى صوتًا. فيصيح فيهم: «إنما الشرق خلف ظهوركم، وأنتم تسيرون إلى عكس ما تقصدون». فلقد يبرز من بين القوم واحد أو اثنان يناقشانه الحساب. ولكنه يزداد صياحًا واندفاعًا وتحمسًا، فما يلبث أن يسري في أفئدتهم الاعتقاد بصحة ما يقول؛ وحينئذ تعلو همهمة كأزيز النحل. وقد يميل الرجل على صاحبه قائلًا: «ألم أقل لك؟ لطالما حدثني قلبي بأننا مخطئون»، ويقول آخر: «أنا أيضًا قد لحظت كذا وكيت. ولكني أشفقت أن أجاهركم برأيي، وقد رأيتكم مندفعين كالشهاب». فما تلبث القافلة أن تحيد عن وجهتها، فتولي وجهها ناحية المغرب. وإن كان القوم فيما بينهم قد أجمعوا على أنهم يقصدون مشرق الأرض...
أليس هذا إجماعًا؟ لك أن تسميه «إجماع الوالي التركي» أو غير ذلك من الأسماء. ولكنه إجماع على أي حال. لقد أصاب صاحبك حين قال: «إن الأهداف قد استحالت إلى سراب».
ولمليم خاصية عجيبة هي أنه يكره نفسه وينقم عليها إذا أكثر من الكلام. لذا فقد رأيته ينزوي متخفيًا كأنما ارتكب جرمًا. فرحت أطيب خاطره قائلًا:
-       مرحى يا مليم مرحى... ها أنت تظهر للناس كافة أنني لم أعد تصوير الواقع حين جعلتك تسود قومًا كنت خادمهم. إن ما قلت جميل. ولكن ما قولك في أناس اهتدوا إلى مشرق الأرض من قبل؟ فهل تراهم يخطئونه إن سعوا إليه مرة أخرى؟
قال وعيناه تقدحان شررًا:
-       لعلك تقصد سلفي «ملك من شعاع»؟
قلت:
-       نعم. فقد كان من حظه أن حاز جائزة مجمعية في فرصة سابقة. فكيف تريدني ألا أطمئن إلى حكم من توج هام سلفك بالغار؟
قال:
-       بربك لا تذكر لي حديث هذا السلف. إنه أس المصيبة وسبب النكبة. فلست أكتمك أنني حين قصدتك لتكتب قصتي كنت مخدوعًا بهذا السلف من شعاع. فلقد حسبتك كاتبًا «مضمونًا»، فضلًا عن أنك «على قد الحال». ولما أن فرغت من رسم صورتي، وتدبيج قصتي، كنت لا أزال على ظني في أنني لم أخطئ في اختياري إياك. فالحق أنك أظهرتني في الصورة التي أهوى. ولكنني إذ وضعت بعد ذلك في أنبوبة الاختبار، وتسلمتني مجاهر الفاحصين من العمداء، أدركت الحقيقة المؤلمة التي فاتني إدراكها، حين اصطفيتك واضعًا لقصتي.
ولم أكن أحب أن أسمع من مليم هذا القول. فانفلتت مني ضحكة ساخرة وقلت:
-       قد عافانا الله بك وابتلى. فما تكون تلك الحقيقة؟
قال:
-       إنها - جعلت فداك - شيء يدعى «سحر التاريخ». وهو سحر ساحر، يحيل حرام الأمس حلالًا، والنقص حسنًا وكمالًا. وكنتَ قد جعلت سلفي ملكًا عظيمًا، وألبسته ثياب الفراعنة الأمجاد. فما أن سربلته بأرجوان الزمن السحيق، حتى حصنته من عدوان الحاضر. فخليق بك أن تعلم أن «سحر التاريخ» يقابله عدوان الحاضر. ولو قد علمت هذا لكان سبيلك إلى النجاة من كثير من المهاوي التي لا تودها لنفسك. أما أنا فقد حقت عليَّ اللعنة وانتهى الأمر. إنك حين خلعت عن بطلك الأردية الحمر، وجردت رأسه من التاجين، ثم جلوته في سمت طبعي، وألبسته ما ألبستنيه من أردية عصرية، قيل إنه قد «انكشف» وبانت حقيقته، وحينئذ كيلت له التهم، ونسبت إليه شتى المثالب، وطعن فيما لا يجوز أن يطعن فيه، واتخذ مما لا حيلة له فيه أسباب للنيل منه، وألقيت على كتفيه نقائص عصر وتبعاته بغير ذنب جناه، سوى أنه بدا على حقيقته، فلم يموه ولم يستتر.
استغرقتني إطراقة طويلة، فذهبت بي الأفكار كل مذهب، حتى خفت أن أكون قد أخطأت في حق مليم، فلم أصب التوفيق في تصويري له. قلت:
-       أكنت تود لو جلوتك في صورة كتلك التي يفتن في تنميقها خطباء حفلات التكريم وشعراء المدائح؟
قال:
-       بأبي أنت وأمي. معاذ الله أن يكون قصدي قد انصرف إلى العتاب، وإنما أشتكي... أشتكي كما يشتكي إنسان لإنسان، مما فعله إنسان بإنسان. دعهم يتقولون علينا بما يشتهون. ولكنني لا أرضى أن أكون من سقط المتاع، أو أن أبدو في صورة أبطال حفلات التكريم.
قلت:
-       إذن فلتهوِّن على نفسك، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا. لقد علمت ما كان من أمرك. وأستطيع الآن أن أعلم ما كان من أمر صديقنا الأستاذ نجيب محفوظ دون أن تنبئني به. فهل لك أن تحدثني بما تم في شأن إخوة لك تقطعت أنفاسهم في السباق. لقد جنبت كما جنب غيرك لعيب متوهم، أو وهم معيب - لست أدري. فكيف لم يفز غيركما ممن لا عيب فيهم، ولا مأخذ عليهم، والحال أن لا بد قد تميز بعضهم على البعض الآخر؟
قال:
-       قضاء الله والمجمع.
قلت:
-       لست أفهم. ألم نتفق فيما بيننا أن المباراة مضمار يتنافس فيه المتبارون، وجائزة تعطى للأسبق؟
قال:
-       أنت واهم يا عماه. إنهم أضافوا شرطًا آخر.
قلت:
-       جزاك الله كل خير. أنبئني به.
قال:
-       أن يبلغ الفائز من المتسابقين مستوى معينًا يرضاه المحكمون.
قلت:
-       أطربت فؤادي. إن كانوا قد أصبحوا يشترطون هذا المستوى من الأدب، فكيف فاتهم أن يشترطوه في قيمة الجائزة التي يقوم بها هذا الأدب؟
قال:
-       لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
قلت:
-       ولكن شرط المستوى هذا ليس من المنطق في شيء. فلا يمكن تصور مباراة لا تنجلي عن فائز أو فائزين يبزون أقرانهم. فأنت يا مليم لست كأبي الذهب. وأبو الذهب ليس كالسيد ياقوت. والسيد ياقوت لا يبلغ مبلغ السيدة زمردة. والسيدة زمردة لا بد فائزة في مباراة لا يشترك فيها صاحب العظمة الماس المبجل. فهل يا ترى تحرم السيدة زمردة من جائزة تستحقها، لأن عظمة الماس لم يشترك في المباراة، ولو اشترك لكان أحق منها بالجائزة!
قال:
-       لا أفهم هذا.
قلت:
-       إذن فأنت معي في أن كل مباراة لا بد أن تنتهي بجائزة ما دام قد وجد المتسابقون؟
قال:
-       أجل.
قلت:
-       وهل أنت معي في أن شرط «المستوى» الذي راحت ضحيته السيدة زمردة إنما هو من قبيل تفكير من يقول: «حرام عليَّ الخبز المخلوط لأن الخبز النقي أبهى وأشهى» وليس في السوق خبز غير مخلوط؟ أو كمن يقول: «لن أعطي الجارية أجرها فهي لم تبلغ المستوى الذي أرضاه للجاريات؟». ألا ترى أن أولهما قد ظلم نفسه، وثانيهما قد ظلم غيره، وكليهما قد التوى بمنطقه فقلبه ظهرًا لبطن كما تقلب الشراب؟
قال:
-       حسبك ما لقيت. ولترَ الرأي وحدك.
قلت:
-       عهدي بك شديد الحنان.
قال:
-       كنت حينذاك فقيرًا، وأنا اليوم غني.
قلت:
-       ما علينا. ولكن لعلك لن تستطيع كتمان مشاعرك حين أبين لك أن مجانبة المنطق السليم مرة ستؤدي بمن جانبوه إلى ورطة نسأل الله لهم السلامة منها.
قال:
-       لو أنك نشدت السلامة لنفسك لأمسكت. ولكني أعلم أنك لا تستطيع الصمت، فكلانا مغامر يعمل لدنياه كأنه يموت غدًا. ولا يجوز أن تموت وأنت على علتك.
قلت:
-       مرحى مرحى بمليم الأصيل. فالحق أن الثراء لم يغير فيك غير الطلاء. دعنا نتدبر الأمر معًا. الموقف الآن هو أن المباراة قد فتح بابها وامتد أجلها. وأن اللجنة - لسبب أو لآخر - لم تر أن تمنح الجائزتين المقررتين لأي اثنتين من القصص التي قدمت لها. ثم دعنا نرجو - أو نفترض - أن قصتك قد استوفت شرط المستوى، وإن عجزت عن استيفاء شرط الهوى: فهل تراك على استعداد لأن تجري فيها وفي نفسك من التعديل والتغيير، والحذف والإضافة، والتستر والادعاء، ما ترجو معه أن تظفر بالرضا؟
قال:
-       حسبي محاولة إرضاء الآخرين. ولن أرضي بعد اليوم سوى نفسي.
قلت:
-       بارك الله فيك يا مليم، فأنت إنما تتكلم بلسان فنان مطبوع. إذ على الكاتب ألا يلقي بالًا إلى مدح أو ذم، بل هو خليق ألا يهتم بعمله إلا من حيث صلته بنفسه. وقد يكون لوقع هذا العمل في الناس أثر في حالته المادية، ولكنه لا يعنيه من الناحية الروحية في قليل أو كثير.
الكاتب إنما ينتج لخلاص نفسه وتحريرها. فمن مقتضى طبيعته أن يخلق، كما أن من مقتضى طبيعة الماء أن ينحدر من أعلى التل. وهو لا يعدو الحقيقة حين ينظر إلى آثاره الفنية كأبناء له، ولا حين يشبه محنة إنتاجها بمحنة الوضع. فلقد تظل الفكرة تختمر في عقله وفؤاده، وتتغلغل في أعصابه وسائر شعاب جسده، حتى تصل إلى درجة من الإيلام والتعذيب، بحيث يشعر الكاتب بوجوب التخلص من استبداد هذا السجين المخيف في أسرع وقت. فإذا ما تم له هذا غمره شعور بالتحرر والخفة، وبقي وقتًا ما في أمن ودعة. ولكن الكُتاب مع ذلك يختلفون عن الأمهات في أنهم سرعان ما ينقطع اهتمامهم بالطفل الوليد. لقد أفرحهم وأشقاهم حين كان لا يزال في أحشائهم. فإذا ما انفصل عنهم، انطلقت نفوسهم سراعًا لتستنكح أحلامًا جديدة.
لهذا يقول الكاتب الإنجليزي الأشهر «سومرست موم» إن الخلق الفني نشاط من نوع خاص، يبلغ غرضه بمجرد تحققه. وهكذا يستكمل الكاتب نفسه بمجرد أن يبدع آثاره. هذه الآثار قد تكون جيدة. وقد لا تكون. هذا أمر يقرره الناقد أو القارئ، ولكنه لا يعني الكاتب. إنه قد استكمل أجره، وفاز بجائزته، حين فرج عن نفسه بوضع الوليد.
ولقد أنجبناك يا مليم، فكبرت وأثريت، ولم يصبح لك حاجة بنا، كما لم يعد في أمرك ما يشغلنا أو يغرينا بمعاودة النظر في قصتك.
ولقد كان الأجدر باللجنة أن تفطن إلى هذه الحقيقة، وأن تفطن كذلك إلى أنه ليس من أحد يرعى حق نفسه، ثم يرضى أن يزج بها في هذا المعترك، بعد أن رأى من أمرنا ما رأى. فماذا يكون الحال لو انقضى الأجل، واضطرت اللجنة إلى النظر فيما لديها من قصص، فلم تجد على المذود إلا شر البقر؟
تنهد مليم وقال:
-       لا بأس. فهذا عصر شر البقر.
قلت:
-       وهل نسيت شرط المستوى؟
قال:
-       سيقعون إذن في حيص بيص.
قلت:
-       فإنني لم أعد الحقيقة إذن، حين قلت لك إن مجانبة المنطق السليم مرة، ستؤدي بمن جانبوه إلى ورطة نسأل الله لهم السلامة منها.
قال:
-       أو أن يكون الأمر في هذه الجائزة أن تكون خالدة على مر العصور، ونبراسًا وهدى للعالم، إلى أن يحين الحين.
قلت:
-       فلننتظر ونرقب أيها المسكين مليم، فأنا لفي شوق عظيم، لمعرفة نتيجة هذا المشكل الأليم، وقانا الله وإياك بأس كل ظالم ظليم.
***
وحين وصلنا إلى هذا الحد من النقاش، كان التعب قد بلغ بمليم وبي حدًّا استحققنا معه أن نكافئ أنفسنا بشيء من العبث واللهو. فدلف بي إلى حجرة حمراء في منزله، حيث أعد لنا جلسة عائلية بريئة، لم تحضرها زوجه بطبيعة الحال. وأنا ومليم لنا قدرة على اللهو أعظم من قدرتنا على العمل. فانكببنا على عبث بريء استعملنا في تذوقه حواسنا الخمس جميعًا. وبقينا على هذا الحال حتى انفتق أديم الصباح، وصاح الديك أن اهجعوا إلى مضاجعكم فقد حان وقت الرقاد. ونحن قوم لا نعصي للديك أمرًا...
وأفقنا أخيرًا، فلم تكن هناك مندوحة من الإفاقة في عالم الكد والنصب. وجلسنا نحتسي قهوة ساخنة، وشطائر شهية، وقد تشعب بنا الحديث إلى وجوه شتى. وأنا في أمثال هذه الجلسات أقوم بدور نديم مليم وسميره، فأسوق إليه القصص، وأروي له النوادر والفكاهات بغية أن أسليه وأضحكه. فهذه ضريبة الغني على الفقير إن ضمهما مجلس واحد. وما كنت ممن يهرب من أداء الضرائب لأصحابها.
ولقد حدث في هذا المساء أن سقت لمليم نادرة أعجبته. فوجدته يقول لي بعد أن أتممت روايتها:
-       لا أكتمك أنني سمعت هذه النادرة من قبل. غير أن طريقة أدائك لها دفعتني إلى تتبعها باشتياق يفضل اشتياقي إذ سمعتها للمرة الأولى. وهذا ما يحيرني فيك أيها الكاتب. فلقد سمعتهم يقولون إن أسلوبك في الكتابة ليس كما ينبغي أن يكون.
قلت:
-       هذا حق. فإن الكاتب لا يصل إلى استحداث أسلوب سهل، واضح، حي، إلا بعد جهد ومثابرة، وتجارب طويلة منوعة. وأنا لا أزال في مقتبل عمر إن طال - رغم ما يحيط به من محن وأشجان - فما يكون هذا إلا بفضل من ربك.
قال:
-       إنهم لا يعيبون عليك أن أسلوبك لم يكن بالسهل الواضح وإنما فهمت أنهم كانوا يريدونه جزلًا، متقعرًا، رنانًا. فلقد كان من واجبك أن تستعمل ألفاظًا ضخمة تملأ الفم، وتلفق سجعًا موزونًا يلذ السمع، وتأتي بمفردات غريبة تبهر النفس، حتى يقال إنك كاتب متمكن.
ضحكت، وقد كان الضحك مني سفاهة، إلا أنني لست ممن يستطيعون البكاء. وقلت لمليم:
-       هذا يذكرني بحادثة وقعت للكاتب «سومرست موم» الذي حدثتك عنه، وقد وصفها بأنها كانت درسه الأول في اللغة الإنجليزية. فقد حلا له يومًا أن يتخذ لنفسه سكرتيرة تعاونه في عمله. ووقع اختياره على فتاة تخرجت في إحدى الكليات التي تعد الفتيات لهذا العمل بالذات. وفي ذات صباح وصلته أصول إحدى قصصه مضروبة على الآلة الكاتبة، فدفع بعضها إلى سكرتيرته الجديدة، وطلب إليها أن تصحح ما فيها من أخطاء. وكان كل ما عناه تصحيح الأغلاط المطبعية والهجائية وما إلى ذلك. ولكن الفتاة كانت ذات ضمير حي، فوجدها حين أعادت إليه الأصول في اليوم التالي قد أرفقت بها أربع صفحات طوال مشحونة بأنواع من التصحيحات. وكان «موم» في هذا الحين كاتبًا ذا شهرة عالمية، وله أسلوب جميل يعتبر من أهم مميزات قصصه. دهش الرجل وأحس بشيء من الضيق، ولكنه ملك زمام نفسه فجلس إلى مكتبه وأخذ يتفحص تقرير اتهامه المدون في هاته الصفحات الأربع.
لقد هتكت الفتاة عرض أسلوبه هتكًا.. وكانت مع ذلك أقرب إلى الصحة اللغوية من الكاتب الأشهر «سومرست موم» ذي الأسلوب الممتاز. تأمل المسكين نفسه في حسرة ثم قال: يقينًا لقد كنت أرسب في أي امتحان يعقده لي ذلك الأستاذ العتيد الذي تلقت سكرتيرتي على يديه معلوماتها القيمة.
ولعله استغنى عن خدماتها بعد تلك التجربة المؤلمة.
ولـ«موم» حادثة طريفة أخرى رواها في كتابه «التلخيص» الذي جمع فيه زبدة آرائه في الأدب بعد أن قضى في الاشتغال به ما يقرب من الأربعين عامًا. قال إنه في فجر حياته الأدبية هاله فقره في معرفته لمفردات اللغة، فانطلق إلى المتحف البريطاني بلندن، ومعه قلم وأوراق أخذ يدون فيها قوائم طويلة بأسماء الجواهر الغريبة، وبمختلف الألفاظ التي تطلق على إحساسات اللمس والشم والذوق. واستمر جاهدًا في تدوين هذا وغيره، حتى خرج من ذلك بمحصول وفير. وكان هذا درسه الثاني في اللغة الإنجليزية فكيف انتفع به؟
يقول إنه لحسن حظه لم تسنح له فرصة استعمال لفظ واحد مما جمع. ولا تزال هذه القوائم مودعة في أحد أدراج مكتبه، وهو على استعداد لإهدائها إلى كل من تحدثه نفسه بأن يكتب هراء ولغوًا.
وهو يحدثنا مع ذلك أنه كان قد وضع كتيبًا صغيرًا وهو تحت تأثير هذه النزعة. فلما عاد بعد بضع سنوات ألفى أنه لم يؤلف في حياته أسخف من هذا الكتاب. كان كفتى نفاج[2] يرتدي ملابس العيد أول مرة.
واعلم يا مليم أن معظم ما يكتب في مجلاتنا الأدبية لعهدنا هذا، إنما هو من كتابة الفتى النفاج. وأنا لفقري لا أدعي هذا الوصف لنفسي.
قال:
-       كان الأخلق أن تدعيه ما اقتصر الأمر عندنا على الادعاء. لقد سمعت أنك عالجت موضوع قصتك على نهج يرضاه الفن. فما ضرك لو أسعفت ذلك بلفظ يرضاه المجمع؟
قلت:
-       هذه سفسطة أوقعك فيها نظرة خاطئة إلى فن الأدب. إن كانت قصتك قد أعجبت أحدًا، فإنما تكون أعجبته كوحدة متماسكة لا تمييز فيها بين الأسلوب والموضوع. فهما في الواقع غير متميزين، ولا يمكن أن يستقل أحدهما عن الآخر إلا عند من لا يدرك طبيعة فن الكتابة.
قال:
-       عجبًا! أحسبك لم تسمع قولهم: «إن الأفكار ملقاة على جانب الطريق يلتقطها من يشاء، حين يشاء». فإن كان هناك فضل فهو فضل من صاغ الفكرة في عبارة جزلة، وليس فضل من التقطها فأدركها. فأنت ترى أن الفكرة واللفظ ليسا شيئين متميزين فحسب، بل إن اللفظ هو كل شيء، والفكرة لا تكاد تكون شيئًا.
قلت:
-       هذه سفسطة أخرى كانت السبب في نكبة الأدب العربي في جل عهوده، وهي لا تزال نذير سوء يتهدد كل نهضة أدبية جديرة بهذا الاسم. اعلم أن اللفظ لا وجود له بغير الفكرة، أما الفكرة فتستطيع أن توحد في صورة غير صورة اللفظ. إنما اللفظ عالة يعيش من فضل الأفكار، فما رأيك في أمة درجت على أن تعيش بالألفاظ وللألفاظ؛ أمة تاريخها ألفاظ لا أعمال، وأدبها ألفاظ لا أفكار، بل أكاد أقول إن نسلها ألفاظ لا رجال... إنني مبتئس يا مليم.
أطرق مليم هنيهة ثم رفع رأسه وقال:
-       هل الذي تشكو منه قد اختصت به الأقدار أمتنا وحدها؟
قلت:
-       إلى حد ما. ولو أن الخصومة الناشبة حول لغة الكتابة - ولغة الرواية على الأخص - شملت آداب الأمم أجمع. فلقد وجد دائمًا من يقول بوجوب صقل تلك اللغة صقلًا دقيقًا وفقًا للأصول التقليدية لفن الكتابة، بينما يؤكد آخرون أن الغاية من الرواية هي أن تخلق شخصيات، وأن تنفث فيها الحياة، وأما العناية بالأسلوب فأمر ثانوي.
هذه الخصومة ظلت تتجدد على مر العصور. وتتوقف غلبة أحد الرأيين على مقدار نضج كل أمة ومبلغ حيويتها. فإما أدب لفظي وإما أدب حي. وكان آخر من أثار هذه الخصومة في الغرب - في القرن الثامن عشر - الشاعر «بوب» الذي أتى ببدعة أن هناك أسلوبًا بعينه هو الذي يلائم الشعر والأدب. وظل هذا الرأي ينتج أثره السيئ في آداب هذا القرن حتى أحاله إلى أدب لفظي يعنى فيه بالعبارة الجزلة واللفظ الطريف على حساب بقية عناصر الأدب التي تفوقه في الأهمية.
أما في فرنسا فقد ردد هذا الرأي جماعة «جونكور» الذين دعوا الكُتاب إلى استعمال ما سموه «الأسلوب الفني». ويقول الكاتب «دوهاميل» في كتابه «دفاع عن الأدب» إن هذه الدعوة أساءت إلى النثر الروائي أكبر إساءة، إذ أثقلته بمحسنات متكلفة نأت به عن الأسلوب الطبيعي.
استمع يا مليم إلى هذا الكاتب العبقري إذ يقول: «إن من الهواة الذين ملوا كل شيء من يفضل التنقيب عن شواذ اللغة وشواذ التراكيب واهمًا أن أصالة الكاتب في الألفاظ والتراكيب، بينما الأصالة الحقيقية ليست في الصياغة وإنما هي صفة النفس. فالببغاوات تقلد بنجاح الكتاب الذين ترجع أصالتهم إلى شذوذ في الصناعة، بينما يشق تقليد أولئك الذين تصدر أصالتهم العميقة عن جوهر نفوسهم».
لهذا تراه يشبه كُتاب الألفاظ والتراكيب بأولئك النهمة المنحلين الذين يحلمون بالأطعمة الخارقة، فيودون أن يأكلوا «أوكار القطاة» أو «خراطيم الحلاليف» أو «أجنحة الزقا» ويقول: «تلك نزوة ساعة، نزوة حقيرة».
فأنت ترى يا مليم أن كُتاب الألفاظ هم الكُتاب الذين يشعرون بعجزهم عن استنباط أسلوب ذاتي حي، فتراهم يعمدون إلى فن الصياغة فيصبحون صناعًا، بدلًا من اعتمادهم على فن الموسيقى ليكونوا خالقين. إنما الأسلوب هو الرجل.
ولقد ظل أثر الاتجاه السيئ الذي نادى به «بوب» سائدًا في إنجلترا إلى أن ظهر الشاعر «وردزورث» فأظهر زيف هذا المقياس الخاطئ، وأتى بالمبدأ السليم الذي أصبح مقياسًا للنقد بعده، وهو أن كل لغة تناسب المقام يجوز استخدامها في الأدب. أما العيب الوحيد الذي يسيء إلى الأسلوب، فهو أن يكون عاجزًا عن التعبير، بمعنى أنه لا يستطيع إيصال الفكرة صحيحة دقيقة حية.
قال:
-       لقد رفعتَ من شأن الفكرة حتى جعلت منها ملكًا متوجًا تخضع له الرقاب. وفي اعتقادي أنك محق، فالعالم ذاته فكرة تتطور. ولكن حدثني أليست الفكرة تخطر لكاتب بعينه فيعبر عنها تعبيرًا حسنًا أو سيئًا؟
قلت:
-       هذا رأي النظرة العجلى. فالفكرة لا تخطر للكاتب مجردة، بل تأتيه في صورة ألفاظ. هذه الصورة اللفظية هي أسلوبه الذي تتحكم فيه الفكرة تحكمًا تامًّا. لهذا فأنت لا تستطيع أن تعبر عن الخاطر عينه بطريقتين مختلفتين. فحتم أن يتغير المعنى إن اختلفت طريقة الصياغة لأن المعنى الذي يوحي به إليك كاتب ما هو خليط غير منفصل من الفكرة واللفظ.
فمن يفهم الأدب فهمًا صحيحًا لا يقر بإمكان وجود موضوع جيد مكتوب بأسلوب رديء. لأنك إن أعجبت بالموضوع فأسلوب الكاتب وألفاظه هما اللذان أوحيا إليك بالإعجاب، منهما الصلة الوحيدة بينه وبينك.
ثمة فكرة جميلة سرت إلى نفسك وأنت تطالع كتابًا. كيف تم هذا؟ عن طريق لفظ وفي صورة لفظ. فحتم إذن أن يكون الجمال في اللفظ. إذ لو كان الأسلوب رديئًا لما وصلتك الفكرة الجميلة.
هذه الحقيقة أصبح يدركها كُتاب الغرب حق الفهم، حتى صارت الأساس الذي تقوم عليه المدرسة الحديثة في النقد. لم يعد للنقد قواعد عامة جامدة مجردة. إنما القاعدة الوحيدة للحكم على الآثار الأدبية هي تلك التي أتى بها «مانزوني» الشاعر والناقد الإيطالي. ليس هناك فكرة ولفظ. بل إن كل مؤلف يبسط لمن يريد أن يتفحصه المبادئ اللازمة للحكم عليه. وهذه المبادئ يمكن استنباطها بأن تسأل أسئلة ثلاثة: ما الغرض الذي يرمي إليه المؤلف؟ وهل هذا الغرض معقول؟ وهل استطاع المؤلف أن يبلغ هذا الغرض؟ فأنت لا تحكم على المؤلف وفقًا لقواعد موضوعة أو آراء يتصورها الناقد سواء بالنسبة لطريقة العلاج أو بالنسبة للأسلوب. ولكنك ملزم بأن تحكم على الكاتب في حدود النطاق الذي رسمه لك.
ليس هناك فكرة ولفظ منفصلان مستقلان. لهذا يقرر الكاتب الإنجليزي «أرنولد بنيت» أنه لا يستطيع فهم من يقول: إنني أقرأ لهذا أو لذاك لجمال أسلوبه فحسب. إلا أن يكون ما يعنيه حسن جرس الألفاظ ليس غير. ولكن المرء إن أعجبه بيت من الشعر لجمال موسيقاه فقط، فإن قصيدة طويلة تجري على هذا النمط، قصاراها أن تبعث الملل في النفس، كما لو كنت في حضرة امرأة جميلة، ولكن ليس من وراء جمالها شيء. وحسبك أن تقرأ للجاحظ فتدرك صدق مقالتي.
وهنا صاح مليم قائلًا:
-       أجل. إنه الجاحظ... لقد غاب عني اسمه، وقد كنت أريد أن أذكره لك، فقد سمعت عنه كثيرًا.
أحسست أنني على وشك الانفجار، ولكنني جاهدت حتى استطعت أن أملك زمام نفسي ولذت بالصمت الحميد.
قال:
-       أراك لا تنطق.
قلت:
-       وحقي عندك يا مليم أن تتركني لشأني. فمرجلي يوشك أن ينفجر.
قال:
-       أليس هو أمير البيان الذي يقاس به سائر الأدباء؟
قلت:
-       ليكن أمير البيان عند من يريد أن يوليه هذه الإمارة. ولكن القياس ممتنع على أي حال.
قال:
-       كيف؟
قلت:
-       وبعد يا مليم!
قال:
-       أريد أن أفهم. أليس هذا من حقي بعد أن أسقطتني؟
قلت:
-       إذن فلتفهم من لسان غير لساني. ليس عليك سوى أن تفتح كتاب الأستاذ أحمد الشايب المسمى «أصول النقد الأدبي» فتقرأ في الصفحة 254 منه: «ما دام الأديب يؤدي إلينا فكرته، ثم يشركنا معه في شعوره مشاركة قوية، فليس لنا عنده شيء، بل ليس علينا دائمًا أن نسأله كيف ظفر بهذه البراعة، ولا أن نقرنه بأديب آخر اعتدنا أن نجعله نموذجًا لحسن التعبير».
أفي هذا ما يشبع نهم رغبتك في الفهم، أم تراك تطمع في المزيد؟
قال:
-       فهمنا هذا، إنما بقي أن نسمع رأيك في إمارة البيان، أغلب ظني أنك تنكرها على الرجل.
قلت:
-       معاذ الله! إنني إنما تذكرت قول شوقي رحمه الله:
لست ليلاي داريا               كيف أشكو وأنفجر
أشرح الشوق كله               أم من الشوق أختصر
ثم استطردت قائلًا:
-       دعني بربك يا مليم فلا تزال لديَّ بقية من صبر أخشى أن تنفد.
فسمعته يكرر قوله:
-       إنما أريد أن أفهم.
قلت:
-       إذن فلتفهم من لسان غير لساني. حسبك أن ترجع إلى الكتاب الذي أسلفت الإشارة إليه فتقرأ ما يلي: «عماد القدرة البيانية الأمانة. فهي السر الصحيح للأدب الجميل. والكاتب إذا أعوزته قوة الشعور أو جماله، عجز عن التأثير في القراء مهما يحاول ذلك التصنع الممقوت الذي لا يلائم فكرة ولا إحساسًا. على أن الأمانة أو الإخلاص، لا يمنع الكاتب استخدام قوة اللغة وعناصرها البيانية للظفر بالتعبير الدقيق المناسب. ولكنه يجب أن يجعل غايته هي التعبير عن نفسه، ونقل ما في ذهنه إلى القراء، لا أن يعكس الوضع فينتهز الكتابة فرصة للعبث اللفظي أو البديعي أو الإغراب الذي يفسد غايته البيانية».
قال:
-       ولكن كيف تفوت الجاحظ هذه الحقيقة الدارجة؟
قلت:
-       أما إنها دارجة فلا. إنها لا تزال تفوت معظم من يمسك بالقلم في شرقنا العربي هذا.
فعاد يقول في إصرار مقصود:
-       ولكن كيف تفوت الجاحظ؟
ولما كان من عادتي أن أستعين على تفريج همي بالغناء فقد رحت أنشد قولهم: «إنما ذلك لضعف فيكم يا بني عذرة».
ولعله كان قد بلغ هدفه فأطلقها في وجهي كالقنبلة:
-       إذن فأنت ترمي الجاحظ بالضعف؟
وهنا انفجر المرجل..
***



[1] «السراب» قصة للأستاذ نجيب محفوظ، تحرجت اللجنة من منحها الجائزة لأنها - أي القصة - تصف مألوف الحياة.
[2] قيل إن النفاج هو من يعنونه في الإنجليزية بكلمة «snob».

No comments:

Post a Comment