24 October 2015

إبراهيم عيسى: دم الحسين


إبراهيم عيسى

دم الحسين


مقدمة

(أ)

كم مرة بكيتُ وأنا أكتب هذا الكتاب!
فجأة، حضر التاريخ كله في حجرة مكتبي. وجدتُ السيوف اللامعة، والدم المُراق، ودفقات الجثث، وصراخ الثكالى، والأحصنة اللاهثة، والحر القائظ، وألسنة النار، وألوان الخيانة، وعتمة الغدر، ودهاليز السياسة، وستائر القصور، وجموع الرؤوس المقصوفة والمذبوحة... وجدتُ كل هذا على المقعد المقابل، وحول حواف المكتب، وفوق المكتب، وتحت أوراقي، وخلف ظهري. واندفع الدم ساخنًا وسخيًّا على أقلامي وأوراقي وكتبي، حتى ظننت أنها النهاية.
ثم إنني رأيت الحسين!

(ب)

لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون.
ولا يستوي ـ كذلك ـ الذين يتعلَّمون مع الذين لا يتعلَّمون.
والتاريخ مُعلِّم عظيم.
ليس ـ إذن ـ من قبيل المصادفة أن يكون المفسِّر العلَّامة ابن كثير، صاحب أهم التفاسير الشارحة للقرآن الكريم، هو نفسه صاحب المجلد الضخم «البداية والنهاية»، أهم مراجع التاريخ الإسلامي كافةً. وليست مصادفة ـ كذلك ـ أن يكون «تاريخ الرُّسل والملوك» للإمام الطبري واقفًا على قدم المساواة مع عطاء الطبري الفكري والديني والتفسيري.
وإنهما ـ وغيرهما ـ عرفا معنى التاريخ، وأنه الساحة المفتوحة لاختبار واختيار الدين والدنيا.
التاريخ ـ قصصًا وحكاياتٍ وسِيرًا ـ مدرسة حقيقية لكل تلاميذ الحقيقة.
والغريب أن أحدًا من الذين يتشدقون ويُفتُون ويرمون الناس بالفتاوى لم يعطِ نصف وقته ـ أو رُبعَه ـ لقراءة التاريخ وفهمه، وليعلم يقينًا أن السياسة غير الدين، وأن الدين ليس مطية السياسة، وأن أناسًا رفعوا المصاحف والسيوف ـ والبنادق ـ بعضهم أمام بعض، مع أنهم لا يختلفون كثيرًا ـ ولا أبدًا ـ في شروح الآيات وفقه السُّنة، وإنما استخدم كل طرف الآيات والأحاديث لهثًا وراء الحُكم والنفوذ والمال... وقَطع الرقاب.
الدين كانت معركته سهلة.
أما الدنيا فهي معركة دامية.
وأهم ما يُفصح عنه التاريخ أن الدين قد تم استعماله واستخدامه ـ ولا يزال ـ لصالح الدنيا. كما أن القيم الشريفة والخِصال الرفيعة تُدهَس دومًا تحت حوافر الخيل وجنازير الدبابات.

(ج)

هل وقته الآن الكلام عن الحسين؟
نعم، في كل وقت نحن في حاجة إلى هذا الزمن، ومع كثرة ما كُتب ـ وما قُرئ ـ عن الحسين سيد الشهداء وسيد شباب أهل الجنة (جعلَنا الله من شبابها... يا رب) فإن كثيرًا من العيون والأقلام أغفل الحديث عمَّا بعد مقتل الحسين.
ماذا جرى تحت اسم دمائه الطاهرة؟
حقًّا، يمكن أن ننخدع بالشعارات واللافتات، بدءًا بـ«يا منصورُ أَمِت» وانتهاء بـ«الإسلام هو الحل»، لمجرَّد نبل وعظمة وأهمية الشعار.
إن الشعار يظلُّ ـ مهما كان ـ شعارًا.
أما الذي يُطبقه...
أما كيف يُطبقه...
فهذه هي القضية!

(د)

ستجد في هذا الكتاب شيئًا مما أريد أن أقوله، لكن لن تجد كل شيء تمنيت أن أقوله، وعليك أنت أن تقرأ وتخرج بما تريد.
لكن ما أضمنه لك، أمران:
الأول: أنك ستُحِب سيدنا الحسين أكثر.
والثاني: أنك سترى هولًا لا تطيقه، ودماءً لم تعهدها، وأحداثًا أغرب من أن تتخيلها. وكل هذا حقيقي، وسنده الأساسي ابن كثير والطبري.

(هـ)

عندما أعدت قراءة كتابي هذا، قررت أن أحذف منه كثيرًا وأضيف إليه أكثر. لكنني كلما كنت أحاول، أعود فأرى الدم المُراق، والأحصنة اللاهثة، والسيوف اللامعة، وألسنة النار، وألوان الخيانة، ودفقات الجثث، وصراخ الثكالى، وجموع الرؤوس المقصوفة والمذبوحة.
فلم أحذف، ولم أُضِف.



دم الحسين
(تدور الأحداث بين عامي 60 و67 هجريًّا)


الجزء الأول

الخيل فوق صدر الحسين
أنت يا حرُّ حرٌّ

وقف الحر بن يزيد على فرسه، ينظر بعيون دامعة، وقلب واجف، وبدن مُرتعِد، برعشة أخذت عليه جسده، وأنهكت قلبه. يتحرك بفرسه دائرًا حول نفسه، ملقيًا نظراته على الصحراء الممتدة أمامه، وقد تَحكَّمت فيه أفكاره، وسيطرت عليه أحاسيسه. بدا كأنه ليس الحر بن يزيد، أقوى فرسان قومه، وأعظم قادة الكوفة العسكريين.
كانت حوافر الفرس تخبط في الرمال، فتثير غبارًا، وتفجر ترابًا فوق تلك الربوة التي اعتلاها الحر.
وبين عُمْرين وحياتين وقدرين ومستقبلين، يتردد.
عن يمينه جيش الحسين بن علي بن أبي طالب، الحسين ابن النبي صلى الله عليه وسلم، يحاصره الجنود والحطب والقصب والخشب والنار والخيام، التي يتخذها ابن بنت رسول الله وقاية لظهره وحماية لأهله.
تتصلَّب عيونه في هذه البقعة من «كربلاء» على ابن نبيِّه، ذلك الذي يُصلِّي عليه ويُسلِّم، ويرجو عفوه وشفاعته، ويُقاتل من أجل دينه، ويُعلي في بنائه.
لكز الحر بطن فرسه وهو يسأل نفسه: ما الذي أوقعني؟ مَن الذي قادني إلى تهلكة نفسي، وبيع الدين بالدنيا؟!
تَذكَّر أوامر عمر بن سعد، قائد جيش يزيد الزاحف بأربعة آلاف جندي وفارس يطلبون دم الحسين أو جرَّه إلى قصر الكوفة، حيث ينتظره زياد بن مرجانة، أمير يزيد بن معاوية على الكوفة، بدمامته، ووحشيته، وسوء خُلقه، وسوأة خِلقته، يفترس عظم ابن النبي العظيم، وينهش في لحم رسالته وحلم إمامته.
ـ ما الذي أوقفني هنا يا أبناء الأفاعي؟
حدَّث الحر نفسه، وهو يلتفت إلى جيش عمر بن سعد، وحسم أمره، وأجبر شيطانه على التراجع.
ـ مقاتلٌ أنت هذا الرجل؟ (يقصد الحسين).
فأجابه عمر:
ـ إي والله، قتالًا أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي.
ليست المسألة تهديدًا لكي يتراجع الحسين عن طلب الخلافة، وليست مجرَّد إرهاب ليُسلِّم ليزيد بالبيعة.
إن الأمر جِدٌّ، وإن الهلاك قادم، والحسين مقتول لا محالة، فهو يقف بين ثلاثين أو أربعين رجلًا فقط من أهله وأنصاره وعشيرته. وحدَه في هذه الصحراء الشاسعة القاتلة. خلفه النيران الناشبة في خيامه، وأمامه أربعة آلاف فارس يقودهم الطامح إلى الإمارة، والأفَّاق، والمنافق، والمريض بالسُّلطة، والذي باع دينه مقابل كيس دراهم، والذي أجبره الخوف وأضعفته النَّفس السيئة، فاندفع لمقاتلة ابن النبي لا كذب، ابن علي بن أبي طالب، ابن فاطمة بنت محمد.
يا الله!
ما أضيع النفس، وأضعف القلب، وأخفَّ الثقل يوم العرض على الميزان!
سمع الحر حوافر فرس تقترب، وارتجاج جسد فوق ظهر الفرس، وهمهمة بعيدة تدنو.
إنه المهاجر بن أوس، صاحبه ورفيقه في رحلة الصحراء، وصفوف الجيش، وسكن الكوفة، والخروج لقتال «الدَّيلم» فجرًا، والصلاة في المسجد، والتسبيح في العشاء، وجلسات الشِّعر أمام نيران تدفئ القلب والصدور في ليل الكوفة.
زعق فيه المهاجر منتفضًا فوق حصانه:
ـ والله إن أمرك لَمُريب، والله ما رأيت منك في موقف أبدًا مثل شيء أراه الآن، ولو قيل لي مَن أشجع أهل الكوفة رجلًا، ما اخترت غيرك، فما هذا الذي أرى منك؟!
التفت إليه الحر وقال:
ـ إني والله أُخيِّر نفسي بين الجنة والنار، ووالله لا أختار على الجنة شيئًا ولو قُطِّعتُ وحُرِّقت!
دفع الحر فرسه فانطلق بالحوافر وزغرد بالصهيل، والمهاجر يتابعه مندهشًا مذهولًا. ودخل بفرسه إلى حلقة الحسين الصغيرة المقاتلة الشجاعة المؤمنة. اقترب منه لاهثًا، واثقًا، مطمئنًّا:
ـ جعلني الله فداك يا ابن رسول الله، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق. وإني جئت تائبًا مما كان منِّي إلى ربي، ومواسيًا لك بنفسي، وحتى أموت بين يديك. أفترى ذلك لي توبة؟
نظر إليه الحسين ابن رسول الله، وقال:
ـ نعم يتوب الله عليك، ويغفر لك... ما اسمك؟
فقال:
ـ أنا الحر بن يزيد.
قال الحسين:
ـ أنت الحر كما سمَّتك أمك، أنت الحر إن شاء الله في الدنيا والآخرة.

No comments:

Post a Comment