11 October 2015

إبراهيم عبد الحليم: أيام الطفولة


إبراهيم عبد الحليم

أيام الطفولة


1

منذ طفولتي كانت الأحداث تدور من حولي عنيفة تهز نفسي وتترك فيها أثرًا كوقع السياط ما زلت أحس بآلامه ومرارته حتى اليوم، مرض أبي وأطفال يقضون الليالي مع أمهم بلا لقمة خبز.. وعمليات نط الحواجز التي كنت أقوم بها مع أمي لانتزاع حقي في التعليم.. والقلوب الرحيمة والقلوب الجامدة القاسية التي كانت تعترض طريقنا وفي يدها تقرير مصيري.. وأحداث عديدة أخرى يحتاج سردها إلى عشرات الصفحات.. وأحداث صغيرة ما زالت راسبة في أعماقي كانت تحدد نظرتي إلى الناس وإلى العالم: ناظر المدرسة الذي سمح لي بدخول المدرسة والاستماع إلى الدروس بطريقة هي أشبه ما تكون بعمليات السرقة، وانفعالات الحقد والكراهية والتمرد التي كانت وما زالت تهزني وأنا أكتب هذه العبارات.
ما زلت أذكر جيدًا عدد تلاميذ الفصل.. اثنين وثلاثين، ومع ذلك كان الرقم المدون في ورقة الغياب واحدًا وثلاثين فقط. كانت هذه المسألة تحير المدرسين، كنت أفاجأ وخاصة في أيام الدراسة الأولى بعملية عرض لفقري وعجز أهلي. كان المدرس يمسك ورقة الغياب ويعد التلاميذ فيجد عدد الموجودين يزيد واحدًا عن عدد المقيدين في الورقة فيسأل عن السبب ثم يتذكره بعد أن يستقر نظره عليَّ أو يستمع إليه من جديد من تلميذ صغير لبق يُفهمه السر بعبارات ساذجة أو بابتسامة سخرية يصوبها نحوي.. أية مهانة؟ - وأظل طوال اليوم أفكر وأسأل نفسي: لمَ؟ وكيف؟ - وأراود نفسي أحيانًا في الهرب من الفصل ومن المدرسة ومن بيتنا حتى أتخلص من هذه المهانة ومن الألم المُمِضِّ الدائم.
ومن حين لآخر كان يزور المدرسة أحد المفتشين. وتعودت أن أتوقع في هذه الحالات سماع طرقات الفرَّاش على باب الفصل - كنت وحدي ألتفت إلى الباب بنظرات المتنبئ بما سيحدث - ويذكر الفرَّاش اسمي ويستأذن المدرس في خروجي لمقابلة الناظر، ولا نكاد نختفي وراء الباب المغلق حتى يطلب مني باسم الناظر أن أظل في فناء المدرسة حتى يخرج المفتش دون أن يكشف الجريمة.. أية مصيبة تحل على الناظر إذا عرف المفتش أنه يستهين باللوائح والحواجز التي وضعتها الوزارة لتمنع أمثالي من تلقي العلم؟
وأهيم على وجهي في فناء المدرسة.. وأتحرك بلا وعي إلى المراحيض ولا أكاد أدخلها حتى أنفر من الرائحة الكريهة وأهرب إلى ملعب الكرة وأنزوي هناك في ركن منعزل؛ حيث ألعن في أعماقي بأحاسيس الحقد والتمرد المدرسة والناظر والمفتش والحياة التي انتقتني لتمثل عليَّ هذا الدور الشاذ.
وحوادث أخرى كثيرة من نفس النوع ما زلت أذكرها: عصابة اللصوص، نعم كنت وعدد قليل من الصبية أمثالي نكوِّن عصابة للسرقة لها تنظيم ولها قيادة ولها أهداف نلتقي حولها. كلهم كانوا متمردين مثلي، وكلهم كانوا يئنون من الحرمان والحاجة وهم يرون رفاقهم يلتهمون قطع الحلوى.. كنا جميعًا لا نتعاون مع كانتين المدرسة ولا مع باعة الطعام والحلوى، وكنا لا نعرف القوانين التي وضعتها الدولة لحماية زملائنا الذين يملكون المال ولهم الحق في شراء كل شيء.
وبدأنا نشاطنا بسرقة الكتب.. فلا يكاد الجرس يدق معلنًا انتهاء الدراسة حتى يندفع التلاميذ فوجًا بعد فوج إلى الباب ويبقى منا ثلاثة أو أربعة، وفي دقائق نسطو على عدد من الأدراج.. وبعد أيام انتهينا من سلب قواميس اللغة الإنجليزية. كنا نعرف أن هذه القواميس هي أقل الكتب استعمالًا، بل كنا لا ندري لِمَ وزعتها المدرسة، ولَمْ يُفهمنا المدرس أننا سنستخدمها في يوم من الأيام.. وكانت القواميس أثمن ما في أدراجنا.. وفي أسابيع انتقلت قواميس الفصل إلى إحدى مكتبات المدينة وتحولت إلى نقود في جيوبنا وإلى حلوى كم كنا سعداء ونحن نلتهمها!
وبعد القواميس انتقلنا إلى أطالس الجغرافيا.. نفس الأسباب دفعتنا إلى تحويل دفة الهجوم عليها - سعرها في السوق وعدم حاجة التلاميذ إليها.
وبعد أسابيع اندلعت الثورة في الفصل واكتشف التلاميذ الواحد بعد الآخر أن قواميسهم وأطالسهم قد اختفت، وبدأ التحقيق ولم يسفر عن شيء.. كنا نحن أيضًا من الضحايا وكنا أكثرهم ثورة.
ووجدنا أن الموقف يحتم علينا نقل نشاطنا إلى ميدان آخر، وتحركت العصابة إلى فصول أخرى حتى شاع في المدرسة أن هناك عصابة تسرق القواميس والأطالس، واضطُر الناظر إلى جمع المدرسة كلها وإلقاء خطبة طويلة عن جريمة السرقة وعن القوانين التي تقف للصوص بالمرصاد وعن السجون والعار والأخلاق والدين والمستقبل المظلم الذي ينتظر المجرم.. لم يرهبنا وعظ الناظر ولا تهديده ووعيده، فالأهداف التي التقينا حولها ما زالت قائمة والحاجة ما زالت تلح علينا كل يوم، والاستفزاز ما زلنا نواجهه في كل ساعة من زملائنا الموسرين.
ما زلت أذكرهم جميعًا بسُتَرهم الجميلة ووجوههم التي تنبض بالدفء والراحة والرفاهية. ما زلت أذكر ابن المأمور وابن مفتش الصحة وأبناء مُلاك الأراضي. ما زلت أذكر أن المدرسين كانوا ينظرون إليهم نظرات مختلفة عن تلك التي تصوب نحو أمثالي.. كانوا يتحدثون معهم عن آبائهم وأملاكهم، وكانوا يعتبون عليهم إذا أخطأوا أو أهملوا في أداء الواجبات ويهددونهم بإبلاغ آبائهم دون أن تمتد إلى أجسامهم الرقيقة كف أو عصا.. أما نحن فكنا في نظر هؤلاء المدرسين بلا آباء وبلا عائلات وبلا بيوت، ولم يكن أهلنا يملكون أشياء تصلح لأن نتباهى بها أو حتى لأن نذكرها.
كنا في المدرسة لا نهرب من واقعنا المر بل نحاول تغطيته بكل الطرق، كنا نظن أننا مثل الآخرين من نفس الطينة، بل وكنا نرى أننا أكثر من الآخرين نشاطًا وذكاء وشجاعة. ومع هذا كنا نواجَه حين نخطئ بالشتائم والصفعات تتوالى على وجوهنا.. شتائم لا تتناول الخطأ الذي ارتكبناه بقدر ما تتناول وجوهنا الضامرة والسُّتر البالية التي نرتديها وفقر عائلاتنا والشوارع والأرصفة التي تنتظرنا والتي تضم أمثالنا من الأطفال المشردين.
ما زلت أذكر زملاءنا أبناء الموسرين.. ما زلت أذكر ضياء ابن مفتش الصحة ووجنتيه الورديتين وعينيه الواسعتين وشعره الأصفر الناعم والملابس الجميلة التي كان يرتديها والأحذية الغريبة الشكل التي كان يفاجئنا بها من حين لآخر. كنت أحبه وكان يحبني، وكان دائمًا يجري ورائي ويفضل أن يتحدث ويلهو معي، ولكني وباستمرار كنت أحس بالحواجز التي تفصله عني: ملابسه.. وجنتيه الورديتين.. الأطعمة التي يأكلها والتي يتحدث عنها.. حجرته الخاصة في بيته ومنضدة «البنج بنج» التي اشتراها له والده من القاهرة.. والمدن التي زارها.. والشواطئ التي يمضي فيها الإجازة الصيفية والناس الذين يزورون بيتهم.. كل هذه الأشياء كانت تبعدني عنه بالرغم من حبي له وتجعلني أنظر إليه كالغريب وأفضل عليه أفراد العصابة.
ووُوجهنا نحن أفراد العصابة بأزمة أو كارثة حين أعلن الناظر أنه سيضرب بيد من حديد على أول لص تقع يده عليه. كنا نفتعل الهدوء والشجاعة ونحن نستمع مع باقي التلاميذ إلى ألوان العذاب التي سيصبها الناظر على أول ضحية تقع في يده. سيجلده مائة جلدة أمام جميع التلاميذ.. سينصب له مشنقة ويجلده في فناء المدرسة. سيحبسه في حجرة مظلمة مليئة بالفئران والثعابين.. وتحدث الناظر عن أشكال أخرى من التعذيب كنا لا نعرف كنهها، وأنهى خطبته الطويلة بأن العقاب لن يقتصر على الجلد والحبس والشنق، بل سينتهي بالفصل نهائيًّا من المدرسة.
واعتبرنا نحن أفراد العصابة أن تهديدات الناظر كانت موجهة لنا وحدنا وكأنه يعرفنا فردًا فردًا، وعقدنا اجتماعًا انتهينا فيه إلى قرار إجماعي بوقف نشاطنا نهائيًّا، ومر أسبوع ونحن نتلوى غيظًا ونحنُّ إلى قطع الحلوى كلما رأيناها في أيدي زملائنا. ومر أسبوع آخر نسينا خلاله تهديد الناظر ووعيده، وقررنا بدء الهجوم في جبهة جديدة لم يكن يتوقع أحد أننا سنتنبه لها أو نتسرب إليها.
بعد انتهاء الدراسة كانت تبدأ فرق الرياضة الخاصة، وكان التلاميذ يخلعون سُترهم ويلقونها فوق الحشائش، وكنا نميز أصحاب السُّتر ونعرفهم واحدًا واحدًا ونعرف مقدمًا الذين يملكون والذين لا يملكون. وبدأنا الهجوم على السُّتر. في اليوم الأول سُترة واحدة وخرجنا بعدة قروش. وفي اليوم التالي تضاعف الإغراء وازداد عدد الضحايا وأخذ يتزايد باستمرار متمشيًا مع ازدياد شهوتنا في الحصول على طعام وحلوى ومع وعينا الجديد بقيمة النقود وما يمكن أن نحصل عليه بها.
لم نكن نحلم بأننا سنذهب يومًا إلى سينما المدينة، فذقنا لذة قَطع التذاكر وأصبحنا من رواد السينما الدائمين، وتعلمنا منها كيف يتمكن البطل بلكمات متوالية من القضاء على الخصم، وكيف يوقعه غدرًا، وبدأنا نقلد صرخات الهنود الحمر واشتركنا مع الآخرين في الحديث عن «شارلي شابلن» والشجيع والغوريلا الذي يضحك ويرقص ويأكل مثل الإنسان.
ومع ازدياد شرهنا في السطو على من يملكون وعددهم محدود لا يتغير، انفضحت الجريمة، واندلعت الثورة ضد اللصوص، وسمعنا الصرخات وهي تتعالى وتنتقل من التلاميذ إلى مدرس الرياضة ثم إلى الناظر، وتكرر المشهد الأول، ورص التلاميذ في فناء المدرسة لنستمع إلى الناظر وهو يتحدث بعبارات كلها غضب عن المجرمين والجبهة الجديدة التي فتحوها، وتكرر الوعيد والتهديد والحديث عن الأخلاق والدين والأرض والسماء.
لم ترهبنا تهديدات الناظر هذه المرة.. كنا نستمع إليه بلا حماس ونعرف مقدمًا قائمة العقوبات التي سيسردها. وكنت مثل رفاقي أفكر طوال حديثه في الأيام التي سنقضيها بلا حلوى وبلا سينما إلى أن نعثر على ميدان جديد لنشاطنا.


2

ما زلت أذكر بيتنا الصغير في ميت غمر حيث ولدت وأمضيت طفولتي - وكلما تذكرت هذا البيت وهذه الأيام عادت إلى نفسي المرارة وكواني الألم وازددت إيمانًا بأن بيني وبين ماضيَّ ثأرًا قديمًا لن يزول إلا إذا وثقت أن أطفالي وأطفال كل الناس لن يلقوا نفس المصير الذي لقيته.
ما زلت أذكر كمن يرى الصور الغامضة: ماكينة الخياطة التي كانت تدور في بيتنا طوال اليوم ومنظر أختي الكبيرة وجسدها الدقيق والعظام البارزة من وجنتيها وهي تعمل بلا توقف كالجواد الذي يلهبه سوط السائق؛ فمن ورائها سبعة أفواه تطلب الخبز.
ما زلت أذكر منظر أبي المريض، وأتخيله وهو راقد في مخدعه لا يبارحه طوال اليوم والليل، وما زلت أذكر صرخاته وهو يتأوه، وأرى الدموع تنهمر من عينيه كلما رآني أو رأى أحد إخوتي. كان قبل مرضه في غاية القوة والذكاء، لقد خلق نفسه من لا شيء وهجر قريته الصغيرة ونزح بأمي إلى المدينة حيث بدأ يعمل ويتاجر، وحيث شيد بعرقه هذا البيت - كان يحبنا حبًّا من نوع غريب، كان باستمرار يحدثنا عن البطولة والأبطال ويُدخل في عقولنا الصغيرة أننا لسنا ككل الأطفال - كان يجمعنا حوله ويقص علينا قصص رجال فقراء شقوا طريقهم وسط العواصف ووصلوا إلى القمة، وكان يرانا دائمًا في القمة. كان يتباهى بنا أمام أقاربنا وأمام زواره ويطلب من أخي الكبير ومني أحيانًا أن نقف ونخطب ونلقي الأناشيد ونردد الكلمات والجمل الإنجليزية التي تعلمناها والتي لم يكن يفهم منها حرفًا واحدًا. وكان قبل مرضه وكما تحكي لنا أمي لا يبخل علينا بشيء.
ومرض أبي فجأة ولا أدري كيف مرض ولا نوع مرضه ولكني كنت أرى الطبيب يزور بيتنا كل يوم تقريبًا، وكنت أرى أمي وهي تعد النقود في يده - وكنت أراها وهي تتململ وتبكي إذا لم تجد نقودًا تكفي - وكنت أرى زجاجات الدواء العديدة وهي تملأ سطح منضدة كبيرة في حجرة أبي - وكنت أرى أبي كالسجين يروح ويجيء في الحجرة ويحدث نفسه أحيانًا وينتهي حديثه كل مرة بدموع غزيرة تنهمر من عينيه وبرعشة حادة تصيب شفتيه وتدفع حمرة غريبة إلى وجهه.
ورأيته مرة - وكنا يومها نخزن القمح في بيتنا - يملأ كفه بحبات القمح، ويمد يده الفارغة إلى أمي ويناولها بيد ترتعش مرة حبة واحدة ويقول جنيه ومرة جنيهين ومرة عشرة ومرة عشرين، وفي كل مرة كان أبي والفرحة تضيء وجهه يحدد اسم الدائن ويطلب من أمي أن تسدده. وبعد أن انتهى أبي من سداد الديون رأيته وهو يمد يده بما تبقى من حبات القمح ويعطيها لأمي دفعة واحدة وهو يقول:
-       اصرفيها كلها على الأولاد. ادفعي لهم أقساط المدارس واشتري لهم طعامًا وملابس ولحمًا وحلوى.
ما زلت أذكر منظر أبي في ذلك اليوم، وما زلت أذكر أنه نام نومًا هادئًا عميقًا ودلائل السرور والطمأنينة تطفح من وجنتيه المحمرتين.
في تلك الأيام - أيام مرض أبي التي امتدت إلى سنتين - كنت أنا وإخوتي نلتف حوله وتنهمر الدموع من أعيننا حين نراه يبكي فيتحرك نحونا ويحتوينا الواحد بعد الآخر بين ذراعيه ويُقبلنا بشفاه غارقة في الدموع وهو يصيح: «أولادي أولادي». كان في لحظات بكائه يغمرنا بحب غريب شاذ - كان يطلب من كل منا أن يحمل إليه كتبه وكراساته فيتناولها بيده ويقلب صفحاتها ويتطلع إلى الصور والكلمات ثم يقربنا نحوه ويتطلع إلينا وبريق غريب ينبعث من عينيه ثم يطلب مني ومن أخي الكبير أن نَعِده بأننا لن نترك المدرسة ولن نتوقف عن تلقي العلم، ثم يحدثنا من جديد والدموع تجري على خديه وتلمع على الشعر الأسود البارز في صدره عن الصورة التي رسمها لكل منا - وكان دائمًا - وحتى في فترات النوبات التي تصيبه - يرانا في القمة.
وفي أيام أخرى كان أبي ينقلب إلى ثور هائج حين يسأل عنا ويعرف أننا خرجنا من البيت لنلهو مع الأطفال في الطريق أو على شاطئ النيل.. ما زلت أذكر الليلة التي عدت فيها أنا وأخي الكبير إلى البيت في ساعة متأخرة، وصمم أبي أن يصعد بنا إلى سطح البيت وبعصا غليظة أخذ يضربنا بلا وعي. وما زلت أذكر منظره - بعد أن تدخلت أمي وانتزعتنا من يديه - وهو يهبط درجات السلم خلفنا والدموع تنهمر من عينيه.
وفي ليلة أخرى اتهم أبي أمي بأنها لا تعتني بنظافتنا وصمم على أن يغسل أبداننا بيديه وأمر أمي أن تحضر الماء وطشت الغسيل وتضعهما في الصالة. ووقفنا عراة في برد الشتاء القارس وأخذ يصب الماء على أجسادنا ونحن نتلوى ونرتعد ونصرخ، ومرة ثانية انتزعتنا أمي من يديه.
وفي يوم آخر رأيت أبي هائجًا ينتقل من حجرة إلى أخرى ويجمع أكوام الملابس: ملابسي وملابس أمي وإخوتي. وطلب من أمي أن تحضر له الكبريت وزجاجة الجاز ليوقد فيها النار. كنا نقف حوله وننظر إليه وإلى كوم الملابس وكأننا في عالم آخر وكأنه ليس أبي بل انقلب إلى إنسان غريب، وحاولت أمي بالتوسلات وبالدموع أن توقفه فازداد إصراره وازدادت صيحاته ارتفاعًا وهددها بحرقها وحرق البيت. كانت أمي تتحاشى أن يثور وتتحاشى أن يرفع صوته وتحاول بكل وسيلة ألا يشعر الجيران بمرض أبي وبما يدور في بيتنا، ورأيتها وهي تناوله الكبريت ثم وهي تصب الجاز على كوم الملابس، ثم رأيت أبي وهو واقف بجوار شعلة النار يبتسم ويضحك ويقهقه، ثم رأيته من جديد والدخان الأبيض يحيط به ويكاد يخنقه، والنار تسري في القماش وتحيله إلى رماد أسود - رأيته يرتعد من أعماقه وتهتز شفتاه وكأنها أسنان تصطك من برد قارس وتنهمر من عينيه الدموع. وقادته أمي إلى مخدعه وظل ينتفض وهو يبكي.
كان أبي في آخر أيامه مجنونًا، ولم أكن أعرف هذه الحقيقة، ولم أكن أصدقها وما زلت أنكرها، لأن كل من عرفوا أبي حدثوني عن ذكائه الخارق وعن شخصيته القوية وعن نفوذه الكبير في مدينتنا الصغيرة. وأمي وجميع من حدثوني عن أبي ذكروا لي سبب مرضه وسبب وفاته. صدمة لم يقوَ على تحملها حين أصيبت تجارته بخسارة كبيرة وحين تطلع حوله فوجد نفسه عاجزًا عن تحقيق آماله الواسعة. آماله في مستقبل لأولاده لا يتوقف عند إتمام دراستهم في جامعات مصر بل يتعداه إلى إرسالهم في بعثات إلى الخارج. هكذا حدثنا أبي ووعدنا مرارًا.. ومرض ومات وهو يرى أحلامه تنهار وهو موقن أن أولاده لن يلقوا في حياتهم إلا الشقاء والحرمان والضياع.

No comments:

Post a Comment