09 October 2015

بدر الديب: إجازة تفرغ



بدر الديب
إجازة تفرغ

2
ما أضعف الإنسان وما أسذجه، هل هكذا يصنع المرء حياته؟ لقد ضيع حياته، أكثر من أربعين سنة في صراع غريب متصل لا ينقطع لصناعة الفن ومحاولات دائمة متصلة لا تنقطع أيضًا لتوفير النقود التي تسمح له برد عادية الأهل والمجتمع وطلبات الحياة الأولى، هل كان ذلك كله مغالطة أو غلطًا في البداية ومنها؟ إنه لم يحقق الكثير من الفن، لكن ما يريد تحقيقه ما زال كثيرًا، وما أنجزه بالفعل لا يفقد قيمته. إن ما وضعه بالفعل في كل عمل من أعمال النحت التي انتهى منها بمثابة قطع كبيرة عزيزة من حياته، وكأنها مثل الذكريات مدفونة، كالكنوز التي تحتاج إلى فتح وسيطرة على الطلسم.
إنه لم يأت هنا ليسترجع حصاد حياته وأعماله. لقد جاء ليعمل، لكنه على الرغم من البيت وعلى الرغم من التفرغ ما زال لم يستطع أن ينتزع من روحه إلا هذا العمل الرابض عند البحر. إن أحدًا لم يره بعد، ولا يظن أن أحدًا سيراه كما صنعه.
هل يمكن أن تمر وتنقضي إجازة التفرغ وهو ينظر فقط فيما كان يعمله وهو غير متفرغ؟ لقد مرت السنون وهو مستطيع أن يضمن هذه القشرة الهشة من الراحة لحياته، وأن يعطيها مظهر الاستقامة والهدوء. لكن ما أقل هذا القدر من المادة الذي حققه، لقد كان دائمًا قليلًا عابرًا، ومع ذلك كان عليه دائمًا أن يجاهد للاحتفاظ به. لكن ألم يضحِّ بفنه من أجل القليل، هذه القشرة؟ إن وعود الفن في روحه منكوثة مبددة قد تبعثرت في أيام كثيرة نتيجة لعدم التركيز والتفرغ والتوجه المتواصل للعمل. هل هذا صحيح؟ أم أنه في الحقيقة محدود القدرة نزر الإبداع، وليس له أن يعتذر بأنه انشغل دائمًا عن فنه ولم يتفرغ له؟
ما أفرغ فؤاده الآن! إنه لا يعرف هل القلق هو الذي يسبب الفراغ أم الفراغ هو الذي يسمح للقلق أن يقوم؟ في هذا التقلقل وهذه الحيرة مع نفسه وما يعمل بها، يبدأ القلق وتتواجد حوله، كالعفاريت الصغيرة، الأفكار والاتهامات لنفسه وللناس.
وإذا فرغ من اتهام نفسه اتجه للناس، والناس معنى غريب عام لا يعرف كيف يتعامل معه إلا في ظواهر عامة، في تاريخ، في خصائص حضارة، هل هذا ما تعلمه من تاريخ الفن الذي درسه وانشغل به سنوات من عمره أم هو مرة أخرى عجز طبيعي في النفس عن معاشرة الناس والتعرف عليهم والتصرف في طرقاتهم والقدرة على أن يصبح واحدًا منهم؟
إنه يعرف أن كل هذه الأفكار وهذه الاتهامات، وكأنها ضجة تسكت تمامًا عندما يعمل، عندما يمتلكه العمل ويحس أن أجزاءه تتصنع أمامه. لكنه الآن لا يعمل، ولا يعرف ماذا يعمل بنفسه. إنه يتحرك من البيت، ويخرج إلى البحر، ويسمع تلاطم الموج على الشاطئ، ويحس أن الحركة والموج كلها اتهامات في داخله، كلها أفكار فراغ وقلق.
يجب أن يتهم نفسه. إنه يحسب نفسه دائمًا فريدًا. لكن ليس التفرد ميزة، بل هو ما يعانيه وهو يعمل. إن أحدًا ليس مثله، لكن الحقيقي أن عمله في جزئياته لا مثيل له. كل جزء لا مثيل له وهو يتكامل، وهو يصبح واحدًا. هذه التجربة التي يعرفها، ويعرف تفاصيلها هي التي تجعله يحس بالتفرد. فليس هناك من يعمل مثله. هل هناك من يعمل وهو يحس أن هناك ضرورات في لحظات العمل ومادته وتشكله لا يستطيع إلا أن يخضع لها، وهل الخاضع الراضخ المتقبل المنتظر متفرد متعال صعب؟
إن أحدًا من «المتفرجين» على أعماله «المتكلمين» عنها لم يلحظ أو يدرك أو يستخرج أي ضرورة من الضرورات التي مرت عليه وهو يعمل. لكن أليس ما يطلبه مستحيلًا؟ هل يستطيع أي متلقٍّ أن يدرك ضرورات الفن؟ إن كل ضرورة لحظة حرجة تتلاشى في ضرورة أكبر حتى ينتهي العمل ويصبح فعلًا بلا ضرورة إلا وجوده. لماذا ينتظر الناس ما لا يستطيع هو أن يقدمه لنفسه؟ إنه يعرف بالتفصيل ماذا فعل في كل عمل لكنه لا يستطيع أن يسرده أو أن يرتبه للناس متحدثًا عنه. فالعمل وحده هو الذي يحتوي كل شيء، ولا يمكن أن يضاف عليه شيء من الخارج، حتى وصفه تحوير له وانحدار به.
أهذا هو السبب في أنه يحس أن الناس يفتعلون الإعجاب والفهم لما يصنع وكأنهم بما يقولون يزيحونه، هو والعمل، ليفرغوا لشيء آخر؟ إن بينه وبينهم دائمًا هذا الأدب العابر الذي يجعله فنانًا صعبًا وجادًّا، لكنه غير مريح وغير مستجيب تمامًا لما هو مطلوب منه أو منتظر. هل المطلوب منه أن يخرج أعمالًا ينشغل بها الناس ويتحدثون عنها كما يتحدثون عن مشاكلهم اليومية أو يصفقون لها كما يصفقون للكرة؟ هل يمكن أن يكون هذا شرطًا للفن؟
لو عرفوا عذاب الخط أو وجع الشكل، لو ذاقوا هذا الألم أو وعوا به لما تحدثوا أبدًا عن الفن. لكنهم يغفلون الفن بعازل من المعاني والقيم يسمونه «رسالته». وفي هذه الأرض البور التي لا تنتج عملًا يزرعون كلامًا مكرورًا لا يمنح ثمرًا ولا ظلًّا عن أثر الفن وفائدته ودوره في التعبير عن الجماهير. إن الفن فعل فاعل وليس تعبيرًا. وإنه يحس الغضب والفرح والحب والرغبة في التحطيم والرهبة والخشوع والأمل والرجاء، لكنه لا يعبر عن شيء من ذلك في فنه لأن التعبير ليس فنًّا لكنه تعبير، عبور لما هو قائم، وهو يريد أن يصل إلى أن يكون العمل قائمًا وليس معبورًا. ثم كيف يمكن للفن أن يكون تعبيرًا عن الأمة والجماهير؟ إن الأمة والناس قد تستطيع أن تستعمله للتعبير عن نفسها وبذلك فقط يمكن أن يكون تعبيرًا عنها، أما أن يبدأ بالتعبير عنها فهذا مستحيل.
لو يستطيع أن يقضي في أذهان الناس على فكرة المحاكاة، وأن يضع محلها الفعل. المحاكاة كلام على الفن استحدثه النقاد، كلام يحاولون به النفاذ إلى أسرار العمل التي لا يمكن أن ينتهي سرها أو يفض تمامًا منذ الأزل.
والفن لا يحاكي لكنه يستعمل الواقع ليفعل، ليفعل فعلًا مستقلًّا منعزلًا، له وجوده الخاص. وليس التاريخ الجديد للفن إلا محاولات متكررة لتأكيد ذلك. كل تلك اللوحات القديمة، كل تلك التماثيل، لم تكن تحاكي، كانت تنتهي عند نفسها حتى لو وضع الفنان أمامه نموذجًا، موديلًا أو منظرًا يحاول أن يمسك به. فإذا ما أمسك به يصبح شيئًا آخر قائمًا في مادة اللوحة أو التمثال له زمانه ومكانه، وله مادة وجوده ونبض هذا الوجود. فليس هناك فن تمثيلي وفن غير تمثيلي. أنا طول عملي في مكان، ولا يمكن أن أكون في زمان أبدًا.
مد رجله وهو جالس ينظر حوله في «الأتيليه» إلى الألواح الفارغة التي أعدها، وإلى الألوان وقطع الحجر التي جمعها طوال حياته ليعمل فيها. كم كلفته؟ كل ما يملك. دائمًا ما يملك تستنفده مادة الفن. يصنع به مكانًا للعمل. هل هذا ما يعنيه بأنه لا يعيش في زمن أو بزمن؟ الابن زمن والزوج زمن والموطن زمن والسياسي المذهبي زمن ومدعو الرسالات زمن والقوال للمعاني والوضاع للقيم زمن، فقط الفنان مكان. وفارق كبير بين أن يكون المرء في مكان وبين أن يمر عليه زمان. شروط المكان متماثلة داخله في الذات، وليس على الذات لتحقق ذلك إلا أن تظل فيها. أما شروط الزمان فكلها خارجة عن الذات، ولا يمكن أن تكون منها، فإذا أصبح الزمان ذاتيًّا صار مكانًا، أما المكان فهو دائمًا ذاتي. موضوعية الفن من موضوعية المكان هي دائمًا وجود، أما الزمان فلا موضوعية واحدة له، لأنه متعدد تفرضه عوامل خارجية. هذه العوامل قد تكون اجتماعية، أليس كذلك، علاقات وأوضاعًا، وقد تكون ما يسمونه إيديولوجية، مذهبًا ورأيًا ومصلحة كلها زمان حتى ولو دامت عصورًا، أما الوجود فمكان متلاحق، وليس الزمان إلا تلاحق المكان وإلا كان عدمًا. فلنقسم المكان إلى عوامل أو عناصر، ومهما قسمنا فإنها جميعًا تستوعب في وجود واحد، وهو وجود الذات في المكان، أي ذات. أما الزمان فلا يمكن أن تستوعبه الذات، أي لا يمكن أن تكونه. ليس هناك ذات هي زمان. المجرد، المجرد في ذاته زمان. ومهما بالغنا في التجريد لا نخرج من أسر الزمان. أما المكان فهو دائمًا خلاص الإنسان وغاية وجوده، ولذلك هنالك جلجثة وهناك كعبة وهناك موقع للمعجزة. أما زمن كل ذلك فهو مرفوع. ولو لم نرفع زمن المعجزة لم تعد معجزة. القرآن نفسه كمعجزة مكان. كل أعمالي وكل ما خرج عني من فن مكان، هو حولي، هو أنا وأنا لا أريد أن أدافع عن نفسي أو أن أبررها، وعليَّ أن أقبل هذا الطريق وهذا التفرغ الذي لا ينتهي في داخلي لما أريد أن أتوجه إليه من عمل.
هل بعد هذا يمكن أن أعبر، أن أقول ما يريدون مني أن أقوله؟ أن أكون موصوفًا بعامل من عوامل الزمن، ثوريًّا، تقدميًّا، رجعيًّا أو حتى سورياليًّا أو تجريديًّا؟ عندما أعمل لا أكون ابنًا ولا زوجًا ولا حتى رجلًا وإن امتلأت بالرغبة والشهوة للجسد.
وسمع الطرق الذي كان يتوقعه على الباب الخارجي الخشبي للمنزل، إنه يعرف أن مندوب مكتب المجلة سيحضر الليلة ليحمل ما قد يكون أنجزه من أعمال، لكن ليس عنده شيء يعطيه. بل ما زالت نفسه في وحدته لا تريد أن تترك مكانها لتفتح. إنه يتصور القادم. يتصور دخوله ويواصل دفاعه عن فنه: لو قلت له «ادخل» فأنا أصنع فنًّا. قد لا أكون عبرت تعبيرًا كاملًا، ولكنني صنعت عملًا تصورته. إنه لن يتحقق أبدًا كما تصورته، وهذا هو الحال دائمًا في أي عمل. لكن جانبًا كبيرًا مما سيقع قد تم تصوري له. قد تم الإعداد له. إنه سيدخل إلى المكان وأنا أعرفه أو لا أعرفه. وهو سيغير من المكان على نحو أعرفه مقدمًا أو لا أعرفه. لكن عندما يقع ما يقع ستجعله معرفتي اللاحقة به كأنه كان متوقعًا. أليس هكذا أعمل؟ حتى الضوء الذي سيقع عليه وهو داخل، وحتى تغير مواضع الأشياء بدخوله، هذا سيكون أقرب منه وسيكون أبعد.. كل هذا فن.. وعمل.
لا أحد يعبر أبدًا، كل واحد يشكل، يصنع شيئًا آخر، كل الناس لا يعرفون أنهم فنانون أشقياء، فنانون رغمًا عنهم. لو عرفوا ذلك على الأقل لازدادوا صدقًا. ما أكثر الأعمال الفنية المتواضعة التي يصنعها الناس وهم لا يدرون!
- ادخل.
- لا. أنا آسف. لم أنته من شيء.
وخرج مندوب المجلة كما جاء لا يحمل أعمالًا.. لكنه بالضرورة قد ترك فنًّا.
ماذا يفعل إذن في هذا الخلاء؟ هل هناك مسؤولية عنه، هل له مصدر، تاريخ، أم هو يقع، يحل فجأة وكأنه لعنة أو احتدام شمس أو انفساح الصحراء فجأة بعد خضرة الوادي؟ إنه وحده في الغرفة مع كل أدواته، لكنه يحس أنه مجرد داخل خال. ما أغرب «لاندسكاب» النفس البلقع! لا بد أن يكون هناك طريق في هذا الخلاء. أصفر الرمل ملقى في روحه على مسافات ممتدة واسعة لكنه حار محتدم ملتهب بشمس غير مرئية، واللون كأنه بخار، فقط مضيء متخابث عليه، لا يمكن له أن يمسكه. مفروض عليه فقط أن يراه. لو يستطيع أن يرسم فوق الرمل آثار أقدام لتملكه.
ومع المعنى تذكر صاحب «فاوست»: لو أمسك الفنان بموضوع ما لم يعد هذا الموضوع من الطبيعة. لكنه لا يستطيع أن يمسك بشيء، يداه قابعتان إلى جانبه وكأنهما مقيدتان أو مضروبتان بشلل، وجلسته على المقعد تزعجه، وكأن المقعد يربطه للخلاء الذي بداخله. نزل على الأرض وأقعى تحت الحامل ولم تتحرك روحه للزيت أو الألوان المائية، إن الفرشاة والسكين لا تزيحان الخلاء. لن يقطعه إلا الإزميل والمطرقة في الحجر ويخلص من الخلاء. لكن كيف يحصل الآن على الحجر، على الجرانيت، على الرخام من أسوان أو كرارة؟
(((... أخي محمود.. أرجو أن تكون قد وصلتك الحوالة البريدية التي أرسلتها وأن تكون قد استطعت ترتيب القطع التي طلبتها وأنها الآن على مركب في النيل.. إني أعيش في خلاء قاطع وأريد أن أعمل... حتى الطين الذي حملته معي من القاهرة إلى البيت هنا في الإسكندرية لا يدفعني للعمل. إنني أحركه بين أصابعي وأدعه يتسرب كما هو دون أن تتحرك في نفسي أي رغبة لعجنه.. أريد أن أنحت، أنحت بيدي. وكل ما أملك تقريبًا وضعته في شيك وأرسلته لـ«برتيني» في «تورينو».. لكنك طبعًا تعرف كم يستغرق ذلك من وقت.. قد يصبح شهورًا طويلة وقد تنتهي إجازة التفرغ اللعينة التي أخذتها بكل صعوبة قبل أن يصلني شيء.. والآن ماذا تريدني أن أفعل؟ هل سأكتب لك مرة أخرى؟ قد تستطيع أنت أن تكتب مرة. قل لي وسأحاول إذا كنت بحاجة إلى نقود أكثر.. أعلم أنك كنت تفضل أن آتي أنا إلى أسوان وأن أرتب هذه الأمور معك من هناك، لكنك لا تعلم كيف تملكني هذا البيت هنا في الإسكندرية والأرض من حوله. لو نستطيع أن ننحت في الملح أو في الأرض الملونة من حوله! لكني أتوقع زيارتك وأؤكد لك أنك ستقضي أوقاتًا ممتعة هنا على البحر.. إنني أرجوك.. أتوسل إليك أن تخبرني ماذا فعلت ومتى يمكنني أن أتسلم القطع.. مرة أخرى اكتب.. أرجوك.)))
هل يخرج ليلقي بالخطاب إلى صديقه في أسوان أم ينتظر حتى الصباح؟ إنه يلقي بالخطاب إلى جواره مستشعرًا أن كل اتصال لن يؤدي إلى شيء، على الأقل لن يؤدي إلى شيء مباشر، وأنه يكذب على نفسه في محاولته الخروج من هذا البلقع القائم في نفسه. هذا الصندوق الورقي فيه كل أوراقه. أوراق كثيرة متجمعة. خطابات وحسابات طفيفة وصور ورسوم واسكتشات على أوراق عارضة ودواوين صغيرة من الشعر.. مجلدات «دانتي» ومجلدان من ألف ليلة وليلة. وكلها قد تآكلت أوراقها، وأظرف، أظرف كثيرة مليئة بالصور الشخصية وصور اللوحات.. مد يديه وبأصابعه حرك الأوراق وحملها وجعلها تتساقط من جديد في الصندوق من غير ترتيب. وكأنما أراد أن يمتحن صدق ما قاله في الخطاب فقام إلى جوالات الطين الأسواني ووضع أصابعه، وأخرجها قابضة على حفنة من الطين، وظل ينظر إلى نفسه، وهو يراها تتسرب ساقطة من بين أصابعه إلى الكيس من جديد دون أن تحرك في أصابعه رغبة التشكيل.. إنه يضغط على أطراف الأصابع، ويحس ما في الأنامل من قدرة، لكنه لا يستطيع أن يدفعها للحركة أو العمل.
لم يعد إلا أن يخرج بعض اللوحات القديمة أو أن ينظر إلى بعض أعماله المعدة للصب. لكنه لا يريد هذا، بل هذا بالضبط ما لا يريده. إنه يريد أن يخرج عن نفسه، عما عمله من قبل ولا يريد أن يعود إليه. آخر ما صنعه هو هذا التمثال الموضوع الآن عند البحر في نهاية السلم، لكنه كأنما يخشى منه، ومن الذهاب إليه.
راح ينفض آثار الطين من أصابعه، وهو يتحسس أطرافها، ويضغط على طرف كل أصبع بأصبع من اليد الأخرى، وبالإبهام وحده على أطراف أصابع كل يد. أنامله تلك، هذه الوسادات التي يحملها مليئة بالإحساس فيها الآلاف المؤلفة من الأطراف العصبية التي تستشعر الطين والشكل والخط والانحناء، لكنها الآن مجرد قدرة لا يستطيع إلا أن ينفضها فقط مع ذرات الطين المحمر.
ودار في الحجرة، خطوات متكررة يريد أن يعرف ماذا يستطيع أن يعمل بنفسه وبهذا الداخل الفارغ. إنه يلوك في داخله شيئًا، عصيًّا كلحم الجمال. هذا هو الواقع المطروح عليه قد تلبسه وداخله كالشياطين. ما هذا القلق الجاف الحارق الذي يملأ بدنه، ويجعله يدور كالدوخان من الزمن؟ إنه يعرف هذا الطغيان المفاجئ للزمن عندما يستديم في داخله، فتتوقف كل قدراته على العمل ويجعله ينظر إلى ذرات متعاقبة من العدم هي اللحظات التي لا يستطيع أن يخلص منها أو أن يخرج منها، ولا يستطيع أن يعلق نفسه بشيء يستنقذه منها. في هذه اللحظات لا يحتمل المقعد، ولا يصبر على أن يجلس على الأرض، أو أن يقع أو ينام، عليه أن يدور، أن يخطو وأن يدور في المكان الواحد، وقد استحال إلى زمن ضاغط جبار لا فكاك منه. بأي شيء يتعلق، وإلى أي شيء يمد يده ليمسك به؟ وقام يدور في الحجرة كأنه حيوان يتحسس جدران قفصه.
لقد وقع كنيزك في صحراء. لا روعة لضوئه وحرارته تجمد وتبرد مع ليل الرمل. يتجمد الفنان وينعزل في لحظات تجرده من فنه. وقدراته نفسها قد أصبحت هي جدران القفص التي تصدمه. إن اللحظة المستديمة تمتد حوله، وكأنها فعلًا صحراء وهو في وسطها مغلق عليه إلا من تلك القضبان التي يرى من خلالها بلقع الروح. كم هي مركبة تلك الصورة التي يتخيلها لنفسه. نسر عجوز في قفص ضيق ملقى في صحراء. لماذا حدث هذا ومتى حدث؟ هناك رمال في أظافره وعلى شفتيه، وجناحاه في الذراعين واليدان مثقلان تتسرب منهما رمال لا تنقطع. أين هذه الصورة من لوحاته المضيئة بالأصفر ودرجات الأزرق وخطوط البني الدافئ؟ أين راحت خيوط النجوم وتحامل المساحات الملونة بعضها على بعض وتحركها جميعًا لتصنع لوحاته التي يراها نابضة حية في داخله قبل أن تكتمل ويحسها، تدفعها دفعًا للعمل والسير، كأنما في طريق له حدود مرسومة يكتشفها مع العمل. أين هذه اللحظات؟ أين راحت؟ وماذا يفعل ليستردها؟
لقد طال هذا الانغلاق واستمر أيامًا متلاحقة، يومًا وراء يوم. كان يظنه في أول الأمر كسلًا وطلبًا للراحة فنام. وكان يرده في ساعات للجوع أو الوحدة فيخرج إلى المدينة لكنه يعود، وكأنما كان تائهًا. وقد ذهب أكثر من مرة إلى مكتب المجلة ليحادث أناسًا وأفرادًا وليسألهم ويسألوه، وليتشكل أمامهم في محاولات الإجابة، لكنه كان يراهم جميعًا كتلًا ومساحات ميتة لا حركة فيها ولا لون، كأن عليه أن يعمل فيهم كي يصبحوا بشرًا أو أحياء أو ذوات معنى. وضحك من «ذوات المعنى» و«ذوات الأربع» وأحس أن البهائم برباعيتها أكثر التزامًا وحرصًا على نفسها من البشر الذين يراهم، وتخوَّف من قسوته عليهم، ومن تلك اللعنة التي يراها فيهم أو يفرضها عليهم، وعاوده الإحساس بأن كبرياءه يدفع ثمنها غاليًا، وأنه كمن ارتكب إثمًا عميقًا يغير الطبيعة، ويسحر البشر مسوخًا صغيرة تتحرك فيها أعين وأيد قصيرة لا ترى ولا تمسك بشيء.
كيف يعاود ممارسة قدراته؟ كيف يحرك أجنحته؟ كيف يحجب عن الخارج وعن البشر لعنة عينيه التي تسخط كل شيء وتجمده؟ كيف ينفذ وراء قفصه وكيف يمد في الصحراء طرقًا نافذة؟
إن لديه زجاجات نبيذ و«روم» فهل يشرب؟ لكنها لا تؤدي إلا إلى أن ينام وهو يريد أن يعالج هذا الحجاب المفروض الملقى على الرؤية في روحه، وأن يستعيد لعينيه طراوتهما السيالة التي تغير وتجرف الشكل المرئي حتى يستقر على اللوحة لونًا وتناغم مساحات. هل ما ينقصه هو الموضوع؟ لقد واجه هذه الواقعة أكثر من مرة. واقعة التحدث أو البحث عن موضوع، لكنه لم يكن يسعى أبدًا إلى موضوع، بمعنى شيء يرسمه ويضعه في التمثال، من الحجر أو الطين. إنه لا يعرف هذا الانشغال بالتصوير، بالوضع لشيء له معنى أو قصة أو رمز. كل هذا كان يصاحب العمل، كان يتدرج مع التنفيذ، كان ينضج مع الخطوط ودرجات اللون. كان يتحرك كالخضرة السيالة في سيقان النبات أو كالأبيض والأحمر والأصفر والبرتقالي والأزرق والأسود والبني في خدود الزهر وريش الطيور ومنحنيات الحجر. كان المعنى والقصة والموضوع دائمًا في الشكل المتحقق، في هذا التوازن المعجز والتداخل الحميم بين المساحة واللون، بين تركيب الحجم والحركة الممسوكة فيه.
فلماذا يحس الآن أنه يريد موضوعًا؟ هل هذا جزء من العقاب على كبريائه، على ما يعرفه في نفسه من «هوبريس»؟
يسقط المرء دائمًا ويهوي من «الهوبريس»، بل قد يذبح، وأنا عشته طول حياتي، أليس كذلك؟ هل أنا بهذا الوعي أستبقي اللعنة، أديم العقاب أم أحاول الخلاص والنفاذ والعودة.. العودة إلى ماذا؟
أنا أريد العودة إلى فني، إلى اللوحة. نعم اللوحة أكثر من النحت، لأنني أحس نفسي مجرحًا مضيقًا على موضوع تحت حكم هو من داخلي وحدي، لا تعامل معه ولا دفاع ولا تسامح أو رأفة. هل كل ما في الحياة غير هذا الموقف من الاتهام ثرثرة وهراء؟ هل كل البشر نُصُب منخوبة خاوية؟ هل كل وعود الحياة تحقيق مكذوب مجرد من البلوغ، لأن كل ما تدركه هو ثمرات الزمن يبلغها العفن مع النضج، وتسقطها رياح الوصول؟
أنا لم أطمع في حياتي في غير الفن. لم أسعَ لمال ولم أشته شهرة أو منصبًا. فكل حياة غير الفن، كانت بالنسبة لي موضعًا للتلخيص والإيجاز. فهل هذا نفسه هو نفس خطيئتي؟ لقد بعت أعمالًا وغادرتني وتسربت أموالها في بالوعة الزمن وأعرف أن لوحات وتماثيل صغيرة وكبيرة تقف الآن معروضة في الصالات المظلمة بالليل في متاحف متناثرة تجفوها عيون البشر، أو تلقاها حسب الظروف والأوقات. ولي سرب طويل من النساء دخلت أجسادهن، ولا أكاد أذكر عنهن الآن إلا ما أمسكت به من ضوء أو لون أو حركة لم تصورهن أو تنقلهن أو تبقيهن، بل حولتهن جميعًا وكأنما أُكلن. قد يكون سرب النساء هو أصعب ما يلخص أو يوجز، لكنهن مع ذلك لم يكنَّ إلا لحظات ومضت وأقوى منهن جميعًا وميض النجوم. أنا لا أنكر زوجتي سميحة ولا أمي ولا هذا الحب الطويل المجنون في إيطاليا، زوجة «برتيني»، «لويزا». لكن أين هذا الثالوث الآن؟ هل كن ثلاثتهن موضع الخطيئة، والمرقد الذي ولد فيه العقاب؟ هل هن القادمات الآن كـ«الفيوريز» ليأكلن قدرتي؟ هل شعورهن الآن هي قضبان قفص، هل لهن عيون تلعن وأيد تسحب من أناملي حس الإمساك بالفرشاة؟ ليس من ثلاثتهن من لم تكن شخصية يمكن أن تصفها وأن توجزها وأن تلخصها. الحكاية عنهن هي كذلك. لقد أخذن من روحي، أكلن من حياتي أيامًا وساعات، وصنعن ضنى ووجعًا، وحركن اشتياقًا وألمًا. فهل كن هن الشخصيات أم أن ما تسرب مني فيهن هو الذي جعلهن كذلك؟
إنني أعرف خطيئتي، وها أنا أكررها بهذه الأفكار والصيغات. لكن أليس هذا هو الواقع والحق؟ هل أدخل معهن في معركة لأسترد حقي في العمل؟ أليس هذا الصراع نفسه تكرارًا للخطيئة واستمرارًا فيها؟ إنهن جميعًا خفيات الآن. «لويزا» هي التي ما زالت وحدها تضرب طُرقات «تورينو» تدخل حوانيتها كأنها جدي صغير أو غزال حر، وبيني وبينها سنوات وزمن ووطأة، إنها ماض لا يسترجع إلا بالذكرى. وسميحة وأمي صفية. طفولتي وزواجي وتعليمي وعملي وحياتي قبل اكتمال خطيئتي. كل منهن اختارت وقررت أن تموت. ولكل منهن لحظة في مستشفى انتزعن فيها أنفسهن مني، وتركنني وكأنما أردن ذلك أو عاقبنني به. لقد بلغت سميحة خفاءها وهي تلد، ومضت وابنتها معها. وعود يبلغها العفن مع النضج، ويحيلها الزمن أجسادًا تطلب المواراة وتترك الأيدي فارغة. وسارت أمي في طريق المرض بالإرادة تذوي مع اليوم الذي يمر، وتشعرني كل يوم أن كل ما أحققه هو تقرير للاستغناء عنها، وتبرير لها كي ترحل.
لقد أصبحن وراء كل استعادة، فماذا أفعل لأمسح ما ارتكبت معهن أو لأمسح عن وجوههن غضب التعقب لي والرغبة في مص دمي؟
أنا وحدي الآن بلا قدرة على العمل وغولاتي الثلاث في الحجرة على حوامل لوحاتي، وفوق اللوح الخشبي العريض الذي أضع عليه الطين الذي أريد أن أعمل عليه، وعند أقدامي على الأرض صندوق الأوراق والصور والكتب والخطابات الذي أريد لو أسخط نفسي إلى مجرد شيء فيه.
أحيانًا تتحرك الصور محددة لكل منها لحظة موقوتة، وتنطفئ كأنها لوحات تصدرها آلة عرض، ومعها الصوت الخفيض، تلك التكة التي تغيرها. وأحيانًا تسيل من أطرافها السفلى أو العليا وتندلق كاللون أو كالدم من فم رجل مذبوح. وأحيانًا لا تكون هناك صور بل جمل أقولها أنا أو أسمعها، حوار مقطوع مبتور يقف بمفرده وكأنه أسلاك في الهواء. ثم تحل ظلمة، ظلمة طويلة كسراديب لا تنتهي ليس فيها خطو، لكن تحرك كتلة ثقيلة، معنى مغطى بمعطف ثقيل. وفوق ذلك كله قد تنطق قطع طويلة من موسيقى مسموعة مصاغة وكأنما أعرف أن أكررها، وأنا طبعًا لا أستطيع لو فتحت فمي، وأحيانًا أتعرف فيها على «بيتهوفن»، «برامز»، وأحيانًا «باخ» أو «شوبرت»، بل و«شوبان». لوحات الكبار وألوانهم تبرق في رأسي فعلًا كالبرق ولا أمسك فيها إلا ألوانًا ثنية لـ«فلاسكيز» أو «تينتوريتو»، لكن «دا فنشي» يجيء دائمًا بوجوه أو خضرة شجر أو ماء. أحيانًا أفزع من عيون «جويا» ووجوهه وأتقدم وأستاف في خيول «دولاكروا». وفي لحظات تقوى في رأسي بقع اللون الإيطالية «الماكيا» (macchia) أو نقط الأخضر والأزرق والأصفر في انطباعيات الضوء.
ماذا يعني هذا كله؟ ومتى ينتهي؟ ومتى يجيء الوقت الآخر الذي أعمل فيه؟ أليست هناك فائدة؟ هل سأظل هكذا على الكنبة راقدًا؟ لقد جررت صندوقي الورقي المليء بكل هذه الأوراق والصور والخطابات وبقية فتات الحياة. أدب يدي وأنا نائم وأخرج شيئًا. معظم ما يخرج في يدي، مرة وراء مرة، أوراق معارض «ميونيخ»، بينالي في الإسكندرية، «هامبورج»، «هيوستون»، دليل ممزق قديم لباريس وأول أدلتي في «تورينو». كل ما يشدني الآن التاريخ، 1959. هل للتاريخ معنى؟ طبعًا معناه البسيط الوحيد الأولي أنها السنة التي وصلت فيها «تورينو» أولى رحلاتي وسنوات الدراسة. لماذا لا تكون «لويزا» و«برتيني» بعد ذلك هما الصور التي تلعب في رأسي؟ كأنني أسقطهما وأنا أسقط الدليل في الصندوق، وأستدير على جنبي لأبعد يدي، لكني أعود مرة أخرى وأمد هذه اليد، هذه اليد البغيضة لي الآن التي لا تريد أن تتحرك، أن تقوم لتمسك بالفرش. إن ما يثقل عليَّ هو هذا الإحساس بالخطيئة، هذا الشعور بالعقاب، وكأنما أريد أن أجد له سببًا.
في الساعة الرابعة بعد الظهر، في الحر وأنا أتصبب عرقًا وأرتدي بدلة. على ممر المستشفى هدوء وصمت، وأنا في الطرف الآخر على المقاعد، وأمي تخرج من الغرفة ووراءها الطبيب. وأنا أتحرك بسرعة إليها دون أن أريد حتى أن أفعل ذلك، أتلبس موقفًا أريد أن أعرف، أريد أن أنتهي، أريد أن يقع ما وقع لأن انتظاره ثقيل، لأن شيئًا ما فيه سيغيرني سيدفعني إلى حرية أخرى، إلى قطع، إلى بتر كأنني أريده. ولست بالطبع على هذه الدرجة من القسوة والفظاعة. لقد حاولت البكاء لكنني لم أستطع. أمي قالت: «تعيش أنت يا حسن»، والطبيب قال شيئًا معناه «البقية في حياتك»، جملة مضغوطة الآن تتراكب فيها الكلمات، لكنها تعني أن البنت، فقد كانت بنتًا، هي أيضًا... يد أمي على ذراعي تضغط وكأنها لا تريد أن تبكي أمامي، ثم تدلف مرة أخرى إلى الغرفة لتكون وحدها معهن.. ماذا فعلت بعد ذلك؟ أنا لا أدري ولا أستطيع أن أذكر. إنني أذكر فقط أنني نقلت - متى لا أدري - تقرير المستشفى بالحرارة والضغط واسم التسمم المائي واختناق المشيمة.. وكلمات أخرى وسطور وخط قبيح صعب لا يُقرأ. أين هو الآن؟ ألا يكون في صندوق آخر أم هو أيضًا هنا؟ أنا لا أريد أن أبحث ولا قيمة للبحث. فعلى الرغم من كل هذا النسيان أنا أذكر، أذكر كل شيء.
ليست هذه أول مرة أذكرها. أنا كنت أريد أن أسميها «منى»، وكانت أمي تريد أن تسميها «حميدة» على اسم أمها، و«عبد السلام» إذا كانت ولدًا على اسم أبي. ولم يكن لسميحة رأي، وكأنها كانت تعرف. ما هذه الأفكار السخيفة المكرورة؟
لكن الصورة في عيني الآن لو أنها كبرت، لماذا إحدى فتيات «مادونا الصخور»، تلك ذات الشعر الأجعد الكثيف، وهذا الميل بالرأس وكأنه لتحديد منتصف اللوحة؟ هل كان يمكن أن تكون منى كذلك؟ لقد تلقيت العزاء كما أتلقى كلمات الناس عن لوحاتي وأعمالي. شيء ناقص لا قيمة له، غير موجه لي لكنه محاولات للتشكل منهم تستحق المراقبة والنظر.
أمي أخذتني في حضنها بالليل، وظلت يقظى وهي تحاول أن تدفعني للنوم. كم مرة فعلت هذا في حياتي وأنا طفل! رأسي على صدرها المليء الضخم ورائحة المسك منها والثياب السود القديمة حتى ولو كانت قطيفة وعندما ترفع ذراعها لتضمني أرى شبه البياض من العرق الجاف.
وأقوم وأضع الصندوق بين قدمي لأبحث عن صور طفولتي وكأنها طريق خلاص. هناك صور لي بقميص مثل البلوزة المشجرة، وبنطلون ضيق على فخذيَّ السمينتين، إنني لا أجدها لكنني أراها وأعرفها. ومرة أخرى أحس الرمل في فمي ويدي وأرقد من جديد لأرى الطفل يمشي في الصحراء على أطراف حلوان إلى جانب جده الطويل الصامت بجلبابه الأبيض وبُلغته الحمراء المتسخة.
لست أدري كيف تبقى في ذاكرتي من ذاكرة الطفل هذا الإحساس والمعرفة بالقصر، بالضؤولة، جانب هذا القوام الطويل الممشوق في الجلباب الأبيض يمس يدي أحيانًا، ويجذبها نحوه لأصاحب خطواته، وفي معظم الوقت يتركني إلى جانبه كأنني إضافة مفروغ منها مقررة. حجمي حينذاك في ذاكرتي الآن يحوم حول بدني الراقد حول الكنبة، وكأنه سحابة أو طائرة أو غمامة على عيني. صورة فوق بدني الراقد منتزعة منه تسبح فوقه دون حركة أو تقدم.
أنا وحدي في الصحراء وهو صامت لا كلام بيننا. أحيانًا يسألني: «هل تعبت؟»، دون أن ينتظر جوابًا، أو يعرف أن الجواب هو مجرد خطوتي القصيرة معه في انفساح الصحراء نصنع طريقًا ضيقًا. لم يكن الرمل ناعمًا أو كثيفًا بحيث نترك آثارًا في الطريق، لكنني كنت أحس مع ذلك أننا نشق هذه المساحات العريضة الصخرية المليئة بالرمل الأصفر الخفيف الذي تحركه أحيانًا الرياح، وتمضي به إلى أبعد مما نستطيع الوصول إليه، عند الكثبان البعيدة التي لم نصل إليها أبدًا. في الأرض زلطات ممسوحة وأحيانًا خطوط تصنعها حشرات غير مرئية، ودرجات الأصفر إلى البني لا نهاية لها.
تنحدر الشمس إلى الأفق البعيد، وتتصاعد صفرة الرمل لتتحول إلى تلك الحمرة الفريدة للغروب في حلوان. حمرة جافة صافية تفيض على اليمين وعلى اليسار، وتبدأ تمتزج على الأرض بمقدم الليل، وكأن الليل ينشأ من الأرض وعليها.
ويتوقف الجد ويخلع بُلغته ويزيحها إلى جانبه ويبدأ الصلاة. يتجه إلى الشمس ويصلي، في هدوء وصمت أسمع غمغمة الآيات وانتظام «آمين» والدعوات التي تصعد مع ارتفاع الجسم وسجوده، وأنا لا أعود أراه لأنني أفعل مثله، وقد خلعت صندلي، وبدأت الرمال توجعني في قدمي وركبتي. فالصلاة تطول وما يكاد يصل إلى «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته» حتى يبدأ من جديد «الله أكبر» جديدة وجسدي كله مواظب مواصل للمحاكاة، للحركة فقط، وأحيانًا تتضح على فمي «الله أكبر» أو «آمين».
لم أكن أستطيع أن أعد، ولم تكن هناك وحدات واضحة للعدد، كان هناك وقت، وقت طويل ممتد كأنه مكان دخله الجد، وشدني معه وليس عليَّ إلا أن أنتظر حتى نخرج منه.
عندما نعود وقد هبط المساء وبدأت الظلمة سأذهب معه إلى البيت الكبير، ولن أعود لأمي مباشرة لأنه سيتناول عشاءه الباكر، وسأتناوله معه. قطعة خيار باردة مقشرة، وسيضع بعضًا من الزبادي الذي سيأكله، ولقمة من الرغيف السميك وشيئًا من عسل مرة أسود ومرة أبيض.
للتذكر وقع كأنه عملية من عمليات البدن. إنني لا أسترجع ولا أستعيد، لكن التذكر هو في جوهره تكرار الاختيار القديم للرؤية. مرة أخرى ترى ما كنت ترى، وما اخترت أن تراه. لهذا لا أرى كل شيء. أرى السجادة التي سيصلي عليها العشاء وأرى الرف الصغير الذي عليه بعض كتب مغلفة ومجلدة، وعليها اسمه بالذهب، وأرى السبحة التي يخرجها مرة من جيبه ومرة من تحت مخدته، والسرير ودولابًا مغلقًا وهذا كل شيء. حتى النافذة، إن كان في الحجرة نافذة، لا أراها. أرى الباب المغلق المؤدي إلى الشرفة الواسعة والتي وراءها الشارع، والليل والأخوال الشبان والخالة التي تخدمه. وأعرف من أعماق قلبي، وكأنه في داخلي وليس شيئًا أراه، نور السلاملك الذي تعيش فيه أمي على طرف فناء البيت، وأعرف أنني في نهاية الأمر سأعود إلى هناك.
خارج الصور، تخدعك الذاكرة وتتداخل الأوقات. إنك لا تستطيع أن تمارس التذكر فعلًا إلا مع الصور، أما إذا بدأت تحاول أن تفهم أو تحاول أن تحكي فأنت تصنع شيئًا مفتعلًا لا وجود له في لحظة محدودة لأنه مصنوع في العقل وليس في العين. تساندك الصور، والجمل والنظرات في أعين الأفراد لكنك تعيد ترتيبها، تربط بينها وبين بعضها بأنواع من الاستنتاجات وبنماذج متعددة من التعاقب. وفي نهاية الأمر لا تعرف فعلًا متى تمت هذه المعرفة الأخيرة التي تتصور أنك تذكرها، وهي في الحقيقة شيء مصنوع على مدد طويلة، لم يحدث في لحظة، ولم يتكامل في لحظة، بل قد يكون حتى الآن لم يحدث ولم يتكامل.
كيف أدرك الطفل كل هذا الحجم من العلاقات، وكل هذا الحد من التاريخ والمعرفة وراء أفراد البيت الكبير وغرفتي السلاملك؟ لم يحدث في لحظة، ولم يتكامل في لحظة. بل قد يكون حتى الآن...

No comments:

Post a Comment