20 October 2015

علي الشوباشي: رابعة ثالث


علي الشوباشي

رابعة ثالث

الصورة
دخلت حجرة مكتبي ذات يوم كعادتي، فإذا بي أصاب بإحباط شديد. لم يكن قد حدث أي تغيير في الغرفة أو في نظامها، فمنذ فترة طويلة، يعرف كل من في المنزل أن حجرة مكتبي مقدسة، وأن الفوضى الشديدة التي تتميز بها هي «فوضى منظمة». فأنا أعرف طريق كل ورقة ومكان كل كتاب وسط هذه الأكوام المتناثرة كيفما اتفق، في أماكن لم تُخصص لها في معظم الأحيان.. أو على الأقل هذا هو ما كنت أقوله لزوجتي.. فالحقيقة هي أنني كثيرًا ما بحثت عن ورقة أريدها بصفة عاجلة فلم أجدها في المكان الذي كنت واثقًا أنني وضعتها فيه، أو عن كتاب أريد أن أقرأه أو أرجع إلى شيء فيه، فلم أعثر له على أثر.. ولكنني بشر، وذاكرة البشر ليست منزهة.. أظن أنه لا خلاف على ذلك!
على أية حال، كنت قد نجحت في إقناع زوجتي بذلك، أو ادَّعت هي الاقتناع، فحرصتْ على ألا تدع أحدًا من الأولاد يدخل الحجرة، كما أعطتْ تعليمات مشددة إلى المرأة التي تنظف المنزل بألا تنقل ورقة واحدة أو كتابًا واحدًا من المكان الذي يوجد فيه، والاكتفاء بإزالة الأتربة. أما إذا اضطرتْ لرفع كتاب أو أوراق من مكانها، فعليها أن تعيدها إلى نفس المكان بالضبط.
لم يكن قد حدث إذن تغيير في نظام الغرفة (أو عدم نظامها إذا أردت الدقة)، على الأقل في الظاهر. فأنا أعترف أنه حتى لو كانت بعض الأوراق أو الكتب قد نقلت من مكانها، بل اختفت تمامًا، لما كان في إمكاني أن ألاحظ ذلك.
ومع هذا، نظرت للحجرة وأصابني الإحباط، وقلت لنفسي: «كيف يمكن أن تعمل في مثل هذه الفوضى؟! هل من المعقول أن يوحي مثل هذا المنظر بشيء ذي قيمة؟». والغريب أنني أكتب في هذه الحجرة وهي على حالتها هذه منذ سنوات، ولم يخطر لي مثل هذا الخاطر. ربما كنت يومها في حالة نفسية غير طبيعية. ربما حدث لي شيء ضايقني، فانعكس ضيقي على الحجرة. لا أذكر بالضبط سبب ذلك التغيير الداخلي الذي انتابني، لكن الذي أذكره هو أنني قررت أن أرتب حجرة مكتبي.
ولو حاولت أن أحكي هنا كيف كنت أقوم في ذلك اليوم بفرز الأوراق والكتب التي كانت على المكتب أو المصفوفة في أرفف المكتبة، أو تلك التي كانت فوق الكراسي، بل وعلى الأرض، وكيف كنت أضع لها ترتيبًا سرعان ما يضطرب، وكمية الأتربة التي كانت راقدة وسط هذه الأكوام المكدسة، ورائحتها النفاذة التي ملأت خياشيمي ويديَّ، لطال الحديث وأبعدنا عن بيت القصيد.
وبيت القصيد هو صورة وجدتها أثناء عملية «تنظيم» حجرة مكتبي في مكان لا أذكره الآن. كانت صورة مدرسية أخذت أدقق النظر فيها إلى أن استطعت أن أتذكر أنها صورة لفصل «رابعة ثالث» بمدرسة المنيرة الثانوية التي حصلت منها في العام التالي على الثانوية العامة، التي كانت تُسمى وقتها شهادة التوجيهية. وقد التقطت هذه الصورة - إذا لم تخني الذاكرة - في شهر ديسمبر عام 1949.
الناظر والمدرسون يجلسون على كراسٍ في الصف الأول، وخلفهم يقف التلاميذ في ثلاثة صفوف.. التلاميذ القصار في الصف الثاني، والأطول منهم في الصف الثالث، ثم أطول القامات - وأنا منهم - في الصف الرابع.
نظرت إلى الصورة بدهشة، فلم أكن أذكر عنها أو عن كيفية وصولها إلى هذا المكان شيئًا، ثم ابتسمت. فقد أثارت تداعيات كثيرة، وجعلت الماضي البعيد حاضرًا في لحظة واحدة. وبدأت أدقق النظر لأعرف هل سأتذكر أسماء زملائي القدامى أم لا. تذكرت بعضهم، لكن معرفة البعض الآخر كانت تحتاج إلى إعمال الذاكرة. وترددت قليلًا، وبمجهود نفسي كبير وضعت الصورة جانبًا، لأنني أدركت أن الغرق في محاولة تذكر كل من فيها سيستغرق وقتًا قد يطول بحيث لا أكمل تنظيم حجرتي.
واليوم، وبعد أن مضت عدة شهور على يوم اكتشافي للصورة، وبعد أن بدأت الفوضى تدب من جديد في الحجرة التي استغرق ترتيبها بعناية شديدة يومًا كاملًا، رأيت الصورة أمامي.. والآن ليس لدي شيء مهم أقوم به، لذلك فإنني سأحاول أن أتفحص هذه الوجوه وأتذكر أصحابها، وأستعيد ما أعرفه عن مسار حياة بعضهم فيما بعد.


No comments:

Post a Comment