29 September 2015

محمد المنسي قنديل: شخصيات حية من الأغاني


محمد المنسي قنديل

شخصيات حية من الأغاني


فضل العبدية
الحب صفقة خاسرة

إذا أردت أن تبيع نفسك، فليكن الثمن غاليًا، كانت «فضل» تحلم، قطرة من العطر باغتتها الشمس فتبددت، رفعت الستر، فرأت الخليفة، وإخوتها الخمسة، وسعيدًا بن حميد، والنخَّاس الذي اشتراها، وعصافير بغداد ميتة على الأرصفة، وكان عليها أن تعقد الصفقة، وأن تدفع الثمن أيضًا، لحظتها قال لها الخليفة:
- أليس لك مطلب آخر؟
أومأت برأسها، واصل السؤال:
- وبعد ذلك؟
ترددت قليلًا، غاصت الكلمات في حلقها كنصل سكين، ثم قالت:
- أُسلِّم لك جسدي وروحي، دون قيد أو شرط.
«فضل العبدية» ما زالت تحلم، والخناجر تسابق حلمها، عندما لم تكن «عبدية»، وكان إخوتها الخمسة يعبرون بها الصحراء، رحيل، واختطاف، وقمر جائع يأكل من الرمل، ونفس ممزقة، تنام الليل في القيد، وتصحو محاصرة بعيونهم العشر، وأظافرهم المتسخة تنغرس في لحمها، كل واحد منهم يشبه الآخر تمام الشبه، وهي لا تشبه أحدًا، كانت أمها تموت في خيمة منزوية، والنجوم تتساقط، وسألتها فضل:
- يا أمي، لماذا يكرهني إخوتي لهذه الدرجة؟!
قالت الأم:
- جئت إلى هنا وأنا جارية غريبة، أعتقني أبوكِ لحظة ولادتك، أما إخوتك هؤلاء من زوجة أخرى، حرة، لم تكف لحظة واحدة عن كراهيتي.
مع كل ذكرى، وكل لحظة، واجهتها هذه الكراهية، كانوا أكبر منها، وأكثر غلظة، وماتت أمها جوعًا فرفضوا أن يدفنوها بجوار زوجها، ورأت الأم الأخرى وسط أولادها الخمسة تهيل الرمل على القبر، وحين رأتها تبكي صاحت في سخرية:
- أترتدين ثوب الحداد وأنت بهذه الجدائل الطويلة؟
وهجم الإخوة الخمسة مثل قطيع من الذئاب، ألقوها على الأرض، جذُّوا جدائلها بخناجرهم، أطلقوا صيحات الانتصار وهم يسلمونها إلى أمهم التي تأملتها قليلًا، ثم ألقتها إلى القبر، وأهالت فوقها الرمال.
كانت في العاشرة من عمرها، بلا صدر، ولا جدائل، قالوا لها:
- سوف ترحلين معنا إلى الشمال.
وسمعت الأم وهي تؤكد عليهم آمرة:
- تخلصوا منها بأي ثمن.
ووقف رجال القبيلة، شهودًا صامتين، يؤكدون بصمتهم المصير الذي ينتظرها، عدا شيخ واحد أصم، دق الأرض بعصاه وهتف بهم:
- إلى أين تذهبون بالصَّبية اليتيمة؟
وارتبك الخمسة، وأسرعت الأم تأخذ الشيخ بعيدًا، تحكي له عن زوج مزعوم في قبيلة أخرى يطلبها للزواج، وظل الرجل يلح في السؤال، ورحل الأشقاء الخمسة والشقيقة الوحيدة، جوعًا وعطشًا، والشمس غصة، وبحار الملح بلا نهاية، كانت تبكي: «يا إخوتي، يا أشقائي»، ولم يجبها سوى الصدى. أنزلوها في أول بئر قابلتهم، وتركوها معلَّقة حتى كفت عن البكاء والتساؤل، وأخرجوها ليواصلوا السير الخشن، وكانت بغداد عالمًا حزينًا برغم ألوانه الزاهية، ساروا بها إلى الكَرْخ حيث يجلس حسنويه النخَّاس، عرضوها أمامه فسألهم بغتة:
- من أين جئتم بها؟
وكالعادة ارتبكوا، نظروا إلى بعضهم كأنما يبحثون عن الأم لترد بدلًا عنهم، ثم قال أكبرهم:
- إنها جاريتنا، مللناها وأردنا التخلص منها.
ونظر حسنويه إليها في تساؤل، لكنها صمتت، لماذا تنكر وتشكو؟ لماذا تعود معهم أصلًا؟ في الصحراء لا ينتظرها سوى الكراهية والملح والخناجر، قال حسنويه:
- عشرة دنانير.
همهموا في طمع:
- عبرنا كل هذه الصحراء من أجل عشرة دنانير!
كانت «فضل» متأكدة أنه لو عرض عليهم أقل من هذا لقبلوا، قال حسنويه:
- خمسة عشر دينارًا، لا تزيد دينارًا واحدًا.
كل واحد منهم أخذ ثلاثة دنانير، وعادوا يبكون إلى قبيلتهم بني القيس وهم يصيحون:
- أختنا أكلتها الذئاب، اختطفها الذئب منا.
وفردوا أمامهم ثوبها الملوث بالدم، الممزق بالأظافر، وصدق الجميع، حتى الشيخ الأصم، تذكروا قصة سيدنا يوسف، ولم يتذكر أحد أنها كانت قصة كاذبة.
نظر حسنويه إليها، اكتشف جمالها الذي لم ينضج، من هذه اللحظة فقدت كل أنسابها، أصبحت «فضل العبدية»، لم تنسَ شيئًا من عذاباتها، أيام الجوع، وليالي الخوف، والطرد، حتى موت أمها كمدًا، كانت تهذي بكل هذا، وتدفع الشعر من ينابيع هذه الآلام، كان حسنويه يشظفها مثل يهودي يعمل بالماس، ومرت السنوات فلم تمحُ جرحًا أو ندبة، تعلمت أكثر مما قدر لها، ورفضت نقاب الجواري، وجلست سافرة وسط شعراء بغداد، تستمع إليهم، وترد عليهم، تحفظ القصيدة من أول مرة، ثم ترتجل في التوِّ قصيدة على نسقها، وفرك حسنويه يديه، وهو يرى قيمتها تزداد كل يوم.
لكن الحب، ذلك الطائر الأبيض مقصوص الجناحين نقر جدار قلبها، ذات ليلة أقبل سعيد بن حميد إلى مجلسها، لفتت نظرها لأول وهلة حمرة الخجل التي علت وجهه عندما طلبوا منه أن يقول شعرًا، ثم قال أشعارًا حزينة عن الوحدة في شوارع بغداد، لا تدري لماذا لم تعارضه، لعل الشعر مس الجرح الذي جاهدت في إخفائه، وانتصف الليل، وأصبح القمر محاقًا، فسمعته يتمتم في صوت خافت: «هذا القمر، يتركنا، ويموت».
التفتت إليه في فزع، علت حمرة الخجل وجهه، بدأت تراقبه باهتمام، لحيته السوداء الصغيرة، وأنفه المفلطح بعض الشيء، هذه الكلمات الحمقاء التي تفوه بها، ماذا تعني؟ أخذت تسخر منه فجأة، تردد الأشعار الموحية، وتترصد له، وانطوى هو على نفسه، وضج المجلس بالضحكات، والجواري يزقزقن من خلف الستر، وحسنويه خلع عمامته، ونسي بخله التقليدي، وانفرطت كؤوس الشراب، وبالغت هي في قسوتها عليه، وظل القمر محاقًا.
لم يأتِ في الليلة الثانية، ولا الثالثة، وبحثت عنه، وأدهشها أنها تبحث، ومال تاجر أغنام على حسنويه يعرض فيها مبلغًا كبيرًا، لكنها رفضت، فرفض هو أيضًا، وتقدم أمير جيوش الخليفة، وكان قادمًا من بلاد الهند والسند بعد أن قتل عددًا لا يُحصى من الناس والأفيال، ورفضته أيضًا، وتطلعت في مرارة إلى المجلس الخالي إلا من أنصاف الرجال، وفي الليلة الرابعة رأته واقفًا وهي تقول شعرًا:
وهل لي نَصيبٌ في فُؤادِكِ ثابتٌ     كما لك عندي في الفُؤادِ نَصيبُ
كان حسنويه نائمًا على ظهره، وأمير الجيوش يلمع سيفه، واقترب ابن حميد منها، كان هناك قمر مشقوق، وسوسنة، وظبي وحيد، و«فضل» تسري في داخلها رعدة غامضة، قالت:
- أين أنت يا ابن حميد؟ لقد افتقدناك.
ثم صمتت، حاول أن يبتسم، ابتسامته الخجلى، قال بعد تردد:
- ربما، لأنني أحبك أكثر.
لحظة وجيزة كخطف البرق، وأفاق السكارى، واعتدل حسنويه وقال:
- هي جاريتي، حتى الحب، له ثمنه المناسب.
انعقد المزاد فجأة على غير توقُّع، التفت إليه ابن حميد، وسأله:
- كم تريد فيها؟
هتف حسنويه:
- عشرة آلاف دينار.
وتمنت «فضل» لو أنه عرض ثمنًا أقل، وقال ابن حميد:
- قد قبلت.
 وأضاف حسنويه:
- أمامك ثلاثة أيام، وإلا سوف يتضاعف المبلغ.
وخيَّم الصمت، ونهضت «فضل»، أغلقت باب حجرتها، كانت مسرورة، اكتشفت في هذه اللحظة ماذا يعني اسمها، «فضل العبدية»، لا نسب، ولا رأي، ولا مصير. وحين أقبل حسنويه صرخت فيه:
- لماذا فعلت ذلك؟!
قال في صفاقة:
- ومن قال إن العشق بلا ثمن؟!
أصبح للنجوم لون الملح، ووقف ابن حميد أمامها فقيرًا، فقر كل شعراء العالم، بسيطًا وصريحًا مثلهم، لكن حسنويه كان على حق، الحب كالأحلام باهظ الثمن، كم مرة تضاعفت هذه الخمسة عشر دينارًا الحقيرة منذ أن أصبحت «فضل» عبدية؟ لم يحضر ابن حميد في الأيام التالية، بغداد ثقب إبرة، كل دينار ينفذ منها يحتاج إلى معجزة، وإلى تلال من القصائد، مدح أمير الجيوش، وشهبندر التجار، والوزراء، وتجار الحروب، ولصوص القوافل، استوهب ثمن عشقه من كل المتخمين، وتحول الشعر إلى أثمال بالية، ونامت «فضل» تحت شمس الصحراء، ومد الإخوة أصابعهم ونزعوا قلبها، القوة في قبر الدم، وهتف حسنويه:
- وهل حسبت أني أبيعك إلى شاعر مفلس؟
لكن هذا العاشق الشاعر المفلس جاء في اليوم الخامس، وضع أمامه عشرة أكياس من الدنانير، وترقب «فضل» كعصفورة، واشرأبت بغداد كلها، وضحك حسنويه في سخرية:
- هذا هو اليوم الخامس، وهذا فقط نصف المبلغ، أمامك ثلاثة أيام أخرى.
وعاد ابن حميد يلهث وحيدًا، وعادت «فضل» إلى حجرتها فاكتشفت أن حسنويه قد وضع حرسًا على كل منافذ البيت، وكانت تحلم بابن حميد، يرشق الزهر في مفرق شعرها، وعلى وجهها وصدرها، يغطي جسدها كله بورق الزهر، حتى إذا نهضت تناثر حولها كالفراشات الملونة، ومدح ابن حميد الوزراء، والقادة، والسماسرة، ولم يعطوه شيئًا، ظلوا يلحون عليه أن يقص عليهم قصة غرامه الأبله، واستمع الخليفة إليه ضاحكًا، طلب منه أن يسمع أشعاره أولًا، فوضع ابن حميد قلبه بين يديه، تلوى مثل شهاب يحترق، وفجَّر في الكلمات كل الأمنيات المرتعدة، وأشار الخليفة إلى صاحب بيت المال أن يهبه عشرة آلاف دينار، ومرة أخرى حمل ابن حميد المال، واصطفت الأكياس تحت أقدام حسنويه، فهتفت به:
- ما أضعف إحساسك بالزمن، لقد تبددت المهلة الثانية كسحب الصيف!
كان الحرس متيقظين، حين حاولت الهرب قبضوا عليها، وضحكت بغداد في خشونة، ونصحه أصدقاؤه، بهذا المال تستطيع شراء جيش من الجواري الروميات والحبشيات، لكنه يريد «فضل» ولا شيء سواها، وكان أبلهَ لدرجة كافية فذهب إلى الخليفة، وقف بين يديه يحكي عن حبه الذي تقتله أطماع حسنويه، فسأله:
- أي شيء تُشبه «فضل»، هذه التي أصابتك؟
قال ابن حميد:
- تشبه حلمًا غامضًا، وتشبه كل لحظات العذاب والشوق، وتشبه قطر الندى.
 ووعد الخليفة وعدًا غامضًا، وفوجئ حسنويه بموكب الخليفة يدق بابه، وشعر بالراحة حين لم يجد ابن حميد في ركابه، وقال الخليفة في لهجة محددة:
- أخرج لنا «فضل» لنرى حاجة ابن حميد.
وأسرع يضع على وجهها اللمسات الأخيرة، وفكر: هذا الخليفة المجنون يريد أن يعطي هذه الدرة لشاعر مفلس؟! وعندما أقبلت «فضل» فوجئ الخليفة بذلك التألق الذي يشع منها، وازدادت تألقًا وهي تقول أشعارها الحزينة، كانت تحاول أن تستميل الخليفة، عله يرفع إصبعه الذي فيه شارة الحكم ويأمر بأن يتوقف هذا اللهاث، لكنه قال:
- أما سعيد بن حميد فسوف يكون عاملي على خراسان، وأما «فضل» فستكون زينة قصري.
وشهقت «فضل»، وقفز حسنويه فرحًا، وغارت الأقمار الملونة، لقد حققت الخمسة عشر دينارًا أقصى استثمار لها.
لا أحد يعرف أين ذهب ابن حميد، قالوا إلى خراسان، وقالوا بل طفت جثته فوق دجلة، وقالوا إنه في زنزانة مفردة في سجن «التنور»، لكن الشيء المؤكد أن «فضل» سيقت إلى قصر الخلافة، ورأت شقائق النعمان تملأ الحديقة كأنها جروح نازفة، وتطلعت إليها الجواري في حسد، كن جميعًا أجسادًا جميلة، وحناجر قوية، وأنوثة لا تقاوم، لكن «فضل» كانت عقلًا فريدًا، شاعرة حقيقية، وعاشقة بلا أمل، هتفوا بها:
- أسمعينا أشعارًا يا «فضل».
زاد شعورها بالغربة، للحرير ملمس الشوك، وللشراب طعم العلقم، ظلت صامتة أمام الخليفة، قادها إلى غرفته فكانت المعركة خاسرة، رفضته، ورفضت عرش الخلافة، ولو شاءت لصعدت وحكمت وأمرت بما تريد، كانت قد خُدعت، استولى عليها بغتة، فليحدث ما يحدث لابن حميد، ليقبل الولاية، أو يشتري جيشًا من الجواري، لكنها لن تُسلِّم نفسها، مهما هددها الخليفة، أو وضع اللآلئ تحت قدميها، مهما ازدادت درجة جنونه وولهه بها سوف تبقى نائية، لعلها تحصل على سلامها الداخلي.
ويئس الخليفة منها فأعطاها للحرس، وقادها الحرس للسجن، وضعها السجان في قبو مظلم، وتداخل الليل والنهار والرطوبة وقرض الفئران ولدغات البراغيث، وألقوها على ظهرها وجذوا جدائلها الطويلة للمرة الثانية، ولم تكن تملك سوى أن تحلم، بسبع شموس ملونة، وبسبع زهرات من شقائق النعمان، وبسبعة آباء وأجداد تنتسب إليهم، ولم تحلم بابن حميد.
وظل الخليفة يتوقع أن تلين قليلًا، وعندما خشي أن تموت داخل السجن أمر غلمانه فأخرجوها وأعادوها إلى القصر دون مطلب محدد، وأشركها في مجالس الشعراء والمغنين لعل شيئًا من مرح العالم يتسلل إليها، وهكذا، قُدِّر لها أن تراهم مرة أخرى.
الإخوة الخمسة، لم تتغير ملامحهم برغم كل هذه السنين، كما تطاردها في الكوابيس، كانوا أمام الخليفة، وأجسادهم العملاقة بدا عليها هزال غريب، ارتعدت، تخيلت أصابعهم وهي تمتد إليها وتعيدها إلى صحراء الكراهية، لتبيعها مرة أخرى، إلى نخاس آخر، وكان أكبرهم يتكلم:
- رحماك يا مولاي، خمس سنوات من الجدب والمجاعة، بلاد اليمامة قفر وكلنا في عوز وحاجة!
هيئتهم مثل كلماتهم رثة، حيوانات زاحفة تبحث عن شيء تلعقه، كانت بغداد كلها مليئة بأفواج القبائل الرثة الجائعة بعد أن لفظتهم الصحراء القاحلة، قال الخليفة:
- إذا كان الغد، تعالوا إلى مجلسي.
قبَّلوا الأرض تحت قدميه وارتدوا، و«فضل» لا تكف عن الارتعاد، نهضت، ثم سارت إلى جناح الخليفة، لقد جاءت لحظتها أخيرًا، وحين توجَّه هو إلى جناحه وجدها في أتم زينة، وعطرها حار كنداء الرغبة، ورق صوتها للمرة الأولى:
- أسعد الله يومك يا مولاي.
تطلع إليها في دهشة، ثم تساءل:
- ماذا حدث للظبية النافرة؟
ضحكت بصوت رائق وقالت:
- فلنقل إنها مَلَّت المطاردة.
قال الخليفة:
- قول غير مقنع!
ساد الصمت، وكل منهما يتحسس الطريق إلى الآخر، فتحت قنينة العطر ونثرت قطرة على وجهها وقطرة على لحيته، ثم قالت:
- وهل يقتنع مولاي إذا قلت إنني أريد أن أعقد صفقة بيننا؟
وصمت الخليفة، تلوى جسدها داخل ثيابها الشفافة، اقتربت بوجهها من وجهه وهمست:
- هؤلاء الخمسة من بلاد اليمامة، هم قُطاع الطرق الذين اختطفوني وباعوني إلى حسنويه، وأنا أطالبك بعقابهم.
ضحك بصوت جاف، ابتعد برأسه لعله يبتعد عن تأثير أنفاسها، قال:
- ذلك أمر مضى، لا دليل عليه ولا بينة.
قالت فضل:
- الدليل هو أنا، والبينة هي كلماتي، والجرح لا يندمل مهما مضى عليه!
تردد الخليفة:
- إنهم رجال من بني القيس، أنسابهم معروفة، وعاملي على اليمامة يعرفهم.
قالت في صوت خافت مبحوح:
- هذه صفقتي يا مولاي، دعهم يأخذون عقابهم في التنور، وانسَ أمرهم قليلًا، أكون لك، دون قيد أو شرط.
همهم الخليفة:
- دون قيد أو شرط؟
ثم هتف وهو ينهض مبتعدًا:
- كلا، ليس دون بينة، أو قاضٍ.
وتركت فراشه صامتة، تركت خلفها العطر والرغبة المحمومة في نفس الخليفة، وجاء المساء وقد غلفها الصمت البارد، ورمقها، فأدرك أنها لن تأبه به مرة أخرى، وفي الصباح جاء إليها غلامه وهو يقول:
- يطلب منك مولاي أن تحضري مجلسه.
توجهت إلى القاعة، رأت الإخوة الخمسة واقفين، كانت سافرة كعادتها، وتأملوها لبرهة ثم أحنوا رؤوسهم، هل تعرفوا عليها؟ سألهم الخليفة في غلظة:
- اذكروا أنسابكم.
أدهشهم السؤال المفاجئ، ثم ذكر كل واحد نسبه، هي الوحيدة التي نزعوا نسبها، وحولوها إلى سلعة رخيصة، وصرخ الخليفة:
- أنساب كاذبة، منتحلة، أنتم حفنة من قُطاع الطرق!
برقت عينا «فضل» في انتصار، دارت عيونهم في فزع، حطت عليها لبرهة وجيزة، هتفوا:
- ولكن يا مولاي، قومنا والجفاف!
وصرخ الخليفة:
- يا حُراس، خذوهم إلى التنور، لا أريد أن أسمع عنهم شيئًا بعد الآن!
وأحاط الحرس بهم، بأسمالهم ومخالبهم وكوابيسهم، نظروا مرة أخرى، لعلهم كانوا يتساءلون عن هذه النظرة المنتشية على وجهها، اقتادوهم وهم يتأوهون كالحيوانات، يحاولون الدفاع عن أنفسهم بكلمات متقطعة، وأصبحت القاعة خالية فجأة، كانت «فضل» ما زالت تحلم، والخناجر تسبق حلمها: «تمت الصفقة يا مولاي، وعليَّ أن أدفع الثمن، والصفقة على أي حال خاسرة، خاسرة حتى الموت!».

فكري الخولي: الرحلة


فكري الخولي
الرحلة

1
الخروج من القرية

كان أبي يشتغل بناءً في بلدتنا والبلاد المجاورة. وكثيرًا ما كان يسمع الأمهات ينادين على أبنائهن في أكثر البلاد بأسماء: محمد، وإبراهيم، وعلي، والسيد، وعمر. كانت هذه هي الأسماء المألوفة لديه. وأثناء عمل أبي، حضر أحد المقاولين من مصر واتفق مع كثير من عمال البناء، ومن بينهم والدي، على العمل في مصر. وهذه كانت أول مرة يتغرَّب فيها أبي عن بلدتنا. وذهب أبي للعمل في مصر. وذات يوم، وهو واقف على إحدى سقالات البناء في الدور الرابع، سمع إحدى الأمهات تنادي: «يا فكري، يا ولد.. تعال كلم أبوك». سمع أبي هذا ولم يُصدِّق.. لم يُصدِّق أن هناك ولدًا بهذا الاسم. وتوقفت يداه عن العمل، وأخذ ينظر من فوق العمارة دون أن يُصدِّق، وظل في ذهول إلى أن سمع الأم تحضن ابنها وتقول: «يا واد يا فكري.. كنت فين يا ولد».. وقال والدي لنفسه: «أصل إحنا في مصر، ومصر كلها متعلمين، وعشان كده فيه أسامي زي دي».
«يا واد يا فكري.. تعال يا واد كلم».
دق الاسم في أذنه، واستمر يردده، وقال لنفسه: «نادرين عليَّ لأسمِّي هذا الاسم في بلدنا».
وانتهت مأمورية أبي في مصر، وعاد إلى بلدنا، وقال أبي لأمي: «أنا جبت لكي هدية من مصر.. جبت لك اسم فكري.. لو جبت ولد سمِّيه فكري.. اسم من مصر».
وأعجبت أمي هي الأخرى بهذا الاسم، لأنها لم تسمع به من قبل. وفي 26 فبراير سنة 1917 ولدت أمي، وسعد أبي بمولدي وتسميتي بهذا الاسم لأول مرة في قريتنا. ومرض أبي بعد ولادتي بشهرين، ودخل المستشفى. وكلما زارته أمي كان يقول لها: «اتوصي بفكري.. علِّميه عشان يبقى زي الناس اللي في مصر».
ثم مات أبي بعد ولادتي بثلاثة أشهر!
وعملت أمي بالوصية، فخصتني دون إخواتي بالرعاية والاهتمام. ولأنها كانت تحب أبي، أحبتني، ولم تنزلني من فوق كتفها. وكانت كلما تعبت، أعطتني لإحدى إخواتي: زينب، أو حُسْن، أو خسكية. وتربيت في أحضانهن الأربعة. وبعد أن بلغت من العمر ست سنوات، حاولت أمي أن تعلمني، وكانت دائمًا تقول لي: «أنا عايزاك تبقى زي الناس اللي في مصر.. أنا عايزاك تبقى أحسن من إخواتك وأحسن من أولاد البلد كلهم. إللي بيتعلم بيشتغل كاتب ويتوظف، واللي ما بيتعلِّمش بيشتغل خدَّام وفواعلي ويشيل على الحمير حِدا العمدة. أنا عايزاك تبقى سيد نفسك».
وأحسست بالعاطفة، عاطفة أمي، وعاطفة إخواتي نحوي، كما أحسست بعاطفة كثير من نساء قريتنا وشبابها، لأنهم كانوا يحبون أبي كما كانوا يحبون أمي، ولأن أبي مات بعد ولادتي بثلاثة أشهر، ولأني نشأت يتيمًا بلا أب.
وعملًا بما قالته أمي ذهبت إلى الكُتَّاب في قريتنا. وفي الكُتَّاب تعرفت على الولد الغريب والولد السيد الصفطي، ونمت بيننا صداقة. وكثيرًا ما كنا نذهب إلى البحر، ونتسلق أشجار النخيل وأشجار التوت بعد خروجنا من الكُتَّاب كل يوم. وفي ليالي كثيرة يأتيان إلى بيتنا ونلعب جميعًا مع أختي خسكية وأختي حُسْن ألعاب «جمال الملحة» و«حط الحمام - شال الحمام»، وكنت أرى السعادة بادية على وجه أمي وهي ترى أختي حُسْن تحملني على ظهرها، وتلف بي مثل الجمل على الفرن حول إخواتي. وكلما رأت أختي خسكية وأختي حُسْن السعادة على وجه أمي كانت كل منهما تتفانى في إرضائي. وكلما ذهبت أختي حُسْن إلى الغيط أحضرت لي معها «الذرة المشوي» وعقل عيدان الذرة المسكرة كالقصب. وكلما ذهبت أختي خسكية مع أمي لبيع البطاطا أو الخس أو البصل في سوق محلة مرحوم أو في طنطا أحضرت لي معها الحلاوة الطحينية والعيش الخاص والفلافل. وهذا كان يسعدني ويدفعني إلى ملازمة أمي، فأينما ذهبت أمسكت بذيلها. كنت أذهب مع أمي وهي ذاهبة تطلب بهائم عمي السيد الصعيدي وتتفق معه على حرث فدان الغلة. وكثيرًا ما كنت أسمع أمي وهي جالسة مع عمي محمود الصعيدي وعمي محمد مشعل وعمي السيد أبو الدهب وعمي محمد الصراف وخالتي نظلة وأم الولد الغريب، كنت أسمعهم يتحدثون عن الإنجليز، وسوقهم الرجالة إلى السلطة قسرًا، واستيلائهم على الجمال والحمير، كما كنت أسمع أمي تقول عن الإنجليز: «لما كانوا بييجوا البلد راكبين الحِصنة، النسوان كانوا بيستخبوا ويقفلوا على نفسهم البيبان لَاحْسَن الإنجليز لو شافوا واحدة كانوا ياخدوها ويعتدوا عليها».
وكنت أسمع عن سعد، وعن المظاهرات ضد الإنجليز. وكنت أسمع الرجالة والنسوان وهم يدعون للوفد ولسعد باشا أن ينصره على الإنجليز.. كما كنت أسمع الشباب والعيال وهم يقولون: «يا عزيز يا عزيز كبة تضيع الإنجليز»، وكنت أردد هذا مع الأطفال كلما ذهبت إلى الكُتَّاب، كما كنا نردد: «الله حي، سعد جاي، ضرب البمبمة في طـ... العمدة وهوَّ جاي».
وأذكر أنني كنت أسير بجانب أمي وعدد كبير من نسوان بلدنا وهن يزغردن لسعد وللدستور، وكان الرجال يهتفون للوفد لأنه عاد للحكم. لم أكن أعي ما يدور حولي، ولكني كنت أردد تلك الأغاني لأني أرى إخواتي والعيال والشبان يرددونها في الحواري والعُطف. وكان هذا يضايق عمدة بلدنا ويدفعه إلى الحقد على الرجال وعلى الشبان الذين يهتفون للدستور، لأنه كان عدليًّا «من أنصار عدلي باشا». وكان يدفعه حقده هذا إلى إرسال الرجال والشبان إلى بلاد بعيدة في أيام الفيضانات للعمل في الجسور. وكنت أرى أمي وهي تبكي لأخذ أخي إبراهيم، كما كنت أراها وهي تقف فوق سطح منزلنا، وتنكش شعرها، وتتطلع إلى السماء وتدعي على العمدة الذي أخذ أخي وأرسله إلى البلاد البعيدة. وكانت المدة التي يقضونها بعيدًا عن القرية تتراوح بين ثلاثة أشهر وستة أشهر بلا أجر. وكان هذا يضايق أمي وكل الأمهات، لأن تغيب الشبان طوال تلك المدة يتلف الكثير من الحاصلات المزروعة.
لم يكن العمدة يأخذ إلا الرجال والشبان القادرين على الزراعة، وهذا يدفع الأمهات إلى الولولة والصوات والدعاء على العمدة وعلى عدلي وعلى الإنجليز الذين يخربون بيوتنا ويأخذون أبناءنا. كما كان ذلك يدفع الأمهات والزوجات إلى العمل في الزراعة بدلًا من الرجال. وكنت أذهب مع أمي لجمع القطن، وتكسير القصل، وجمع الفول، وتقليع البطاطا. وكثيرًا ما كنت أذهب مع أمي يوم الخميس والجمعة إلى الجبانة لزيارة أبي، وأراها تحتضن التربة وتقول: «أنا عملت بالوصية.. أنا رايحة أعلِّمه، أنا رايحة أخلِّيه زي الناس اللي في مصر زي انت ما قلت.. اقرا يا واد سورة الفاتحة.. سمَّع أبوك». وتستمر أمي في ترديد هذا وهي تحتضن التربة وتحتضنني، إلى أن يأتي إخواتي إبراهيم ومحمد وزينب لأخذها عنوة وهي تبكي.
وكنت كلما طلبت من أمي قرشًا وأنا ذاهب إلى الكُتَّاب أعطتني، ولم تؤخر لي طلبًا. كنت أشتري بالقرش حلاوة من رجل كان يأتي عند الكُتَّاب وينادي: «حلاوة زمان يا ملبن».
وفي يوم من أيام الصيف لم أذهب إلى الكُتَّاب بسبب مشاجرة تمت بالليل مع الأطفال، قُطعت فيها ملابسي. وفي الظهر، جلست أمي أمام منزلنا وخلعت عني كل ملابسي لخياطتها، وجلست بجانبها عاريًا كما ولدتني. وسمعت الرجل وهو يقول: «حلاوة زمان يا ملبن»، وجُنَّ جنوني وطلبت القرش من أمي، ولكنها تباطأت، فقذفتها بزلطة كانت بجانبي، ورأيت الدم ينزف بغزارة من فمها، فجريت، وجرت هي ورائي تصرخ باكية إلى أن لحقت بي في أحد غيطان الذرة بجانب بيتنا. وفي غضب، قلعت أمي أحد عيدان الذرة، وانهالت ضربًا على جسدي العاري إلى أن تورَّم. ولم تكتفِ بذلك، بل جرتني برجلي على الأرض إلى أن دخلنا منزلنا. ولم تنتبه أمي إلى ما حل بي إلا على صرخات النساء اللائي جئن لنجدتي.. هالها جسدي الذي تحوَّل إلى قطع زرقاء والدماء تنزف منه، ولم أعد أسمع منها إلا همهمة الكلمات وقد انكفأت عليَّ وأخذتني في حضنها وهي تقول: «الحقوني، الواد حيموت يا خلق هوه.. آه يا ابني.. إلهي كان ينشل دراعي».
ولما أفقت وجدت نفسي في حضن أختي خسكية وأختيَّ حُسْن وزينب وخالاتي والولد الغريب والولد السيد الصفطي ونسوان كتيرة وعيال زملائي في الكُتَّاب، وكنت أتنقل بين أحضان خالاتي وإخواتي وأمي، وكانوا يعطونني حلاوة وكراملة، ويسقونني لبنًا، ويعطونني كحكًا. ورأيت أمي وهي تبكي وتقول: «الحمد لله»، وخالتي عفا الله وخالاتي وهن يقلن: «هاتي نرقيه - حسدونا الناس». وكانت أختي خسكية وهي تحضنني تقول: «آه يا بنت الكلب يا امه، ضربت اخويا.. آه يا اخويا، واد يا فكري، خد القرش ده واصحى لإخواتك».
وبقيت في أحضان إخواتي وأمي وخالاتي أستمتع بالرعاية والعطف إلى أن شُفيت وعُدت إلى الكُتَّاب وختمت سورة ياسين وفرحت أمي لنجاحي.
وتزوجت أختي حُسْن، كما تزوج أخي محمد. وكانت أمي هي التي سعت لذلك لأنها كانت محتاجة لواحدة بدلًا من أختي لمساعدتها في البيت، تقوم بما كانت تقوم به أختي. وتربت بيني وبين زوجة أخي ألفة. ولم تكن تذهب إلى منزل والدها إلا وتأخذني معها، وتعطيني مما كانت تعطيه لها أمها، وتطعمني بحنان.
وفي الأيام الأولى لعام 1928، ذهبت إلى الكُتَّاب كعادتي، وإذا بمشايخ البلد يأتون ويطلبون منا الذهاب إلى دوار العمدة. وهناك وجدت أمي وإخواتي وكثيرًا من نساء قريتنا والشبان والرجال والعيال. وطلب منا العمدة الجلوس، ووقف واحد أفندي مع العمدة، وتكلم بصوت عال:
- يا أهالي كفر الحما، إحنا جينا عشان نتكلم معاكم. بنك مصر عمل مصنع يغزل القطن اللي انتم بتزرعوه ويعمل منه القماش اللي انتم بتلبسوه.. كنا زمان بنزرع القطن ليأخذه منا الإنجليز.. إحنا النهارده بنزرع القطن وحنحوله إلى قماش، إحنا اللي حنزرع القطن وحنغزله وحننسجه عشان يبقى كل شيء من مصر.. صناعة وطنية. ابعثوا بأبنائكم عشان يتعلموا صنعة، ولما حيتعلموا حياخدوا أجر كويس.
وتكلم العمدة هو الآخر في هذا الاتجاه، وقال:
- البيه رايح ييجي بعد أسبوع ويجيب معاه عربية لوري وياخد معاه كل الناس اللي عايزين يروحوا ويشتغلوا في المصنع.
وفي اليوم الذي حدده العمدة جاءت العربات إلى بلدتنا واتلمت الناس عند الجامع لتوديع المسافرين للعمل في المصنع الجديد. وكان كل واحد وهو جاي جايب معاه قفة مليانة عيش ومخلل، وكل أم تاخد ابنها المسافر في حضنها وتوصيه بأن ياخد باله من نفسه. وجلست أنا بجوار الواد الغريب والواد السيد الصفطي، جلست بجانبهما أبكي لأنهما مسافران. ووضعوا كل القفف، وركبوا العربات، وكل الناس اتلمت حواليهم، ويقولون لهم «مع السلامة»، ومشت العربات، وسار حولها الرجال والنسوان يبكين، وجريت أنا الآخر مع النسوان والرجال عشان الواد الغريب والواد السيد الصفطي.
وجاءت أمي خلفي تقول: «تعال، أنا عايزاك تتعلم زي أبوك ما قال». وأخذتني معها وهي تقول: «بُكرة ييجوا تاني، ما تزعلش». وعدنا إلى منزلنا. وفي الصباح، ذهبت إلى الكُتَّاب، ولم أجد الواد الغريب ولا الواد السيد الصفطي. وعدت إلى البيت أفكر في أصدقائي الذين تعودت أن أراهم في الكُتَّاب وأراهم معي على البحر. ولم يطل بي التفكير طويلًا ففكرت أن أهرب وأروح المحلة.
وذات صباح، طلبت مني أمي أن أحرس البيت لأنها رايحة السوق مع زوجة أخي لشراء بعض الأشياء الخاصة بالمنزل، وأعطتني خرزانة طويلة لأمنع بها الفراخ من الخروج، وطلبت مني أن أحط الأكل للبهائم كلما جاعوا، وقالت لي: «أنا رايحة أجيب لك عيش وحلاوة طحينية. إوعى حد ياخد حاجة، إوعى البهايم، إوعى الفراخ». قالت لي أمي هذا وتركتني ذاهبة إلى السوق ومعها زوجة أخي وأختي. وبقيت وحدي أمام باب منزلنا.. الباب مفتوح، والفراخ رايحة وجاية وسط الحوش. وجلست أنا أمام الباب أتأمل كل ما في منزلنا، وعاودني مرة أخرى التفكير في الولد الغريب والولد السيد الصفطي، زمانهم بيشتغلوا على المكنة اللي الراجل جه وقال عليها.
ولم يطل بي التفكير، وأخذت الخرزانة، وتركت الباب مفتوحًا على البهايم، ومشيت على السكة اللي رايحة على الغيط. وعلى رأس الغيط دفست الخرزانة في الأرض وأهلت عليها التراب. ومشيت أسأل كل من أقابله: «فين طنطا؟».
ولما وصلت طنطا سألت على سكة المحلة الكبيرة فدلني الناس على السكة، وقالوا لي: «امشي بجانب السكة الحديد، وتانَّك ماشي لحد ما توصل». وواصلت السير بجانب شريط السكة الحديد. وقرصني الجوع وأنا ماشي إلى أن وصلت بلدًا اسمها «الرجدية»، وهي أول بلد بعد طنطا. وبجانب هذه القرية وجدت مصلية فجلست بجانبها أبكي، وتطلعت خلفي فوجدت المسافة بيني وبين طنطا كبيرة، فبكيت لأني لم أتعود الشحاتة ولم يسبق لي أن شحت. وتذكرت أمي والفراخ والبهايم.. زمان الناس سرقوا كل حاجة في البيت.. دلوقت أمي بتلطم.
وكلما تذكرت هذا ازداد خوفي من أمي، وازددت بكاءً بجوار المصلية. وبقيت على هذه الحال حتى أذان الظهر، وعند خروج المصلين رآني أحد الرجال فقال:
- مالك يا ولد بتعيط؟ إنت منين؟ تعال معايا.
وأخذني معاه إلى البيت وقال لامرأته:
- هاتي للولد ده ياكل.. إنت منين يا واد؟
قلت:
- أنا من كفر الحما مركز طنطا.
- وإيه اللي جابك هنا؟!
قلت:
- أنا رايح المحلة الكبرى.
قال:
- ليه؟
- أصل الولد الغريب والولد السيد الصفطي راحوا يشتغلوا هناك وسابوني!
- وانت مالك بيهم؟ همَّ قرايبك؟
- لا، همَّ كانوا معايا في الكُتَّاب.
قال:
- أمك عارفة؟
- لا.
- يعني انت هربان، هربان من أمك!
وصاحت زوجته:
- الله يلعن العيال ويلعن خلفهم! زمان أمك دايخة عليك! إيه اللي موديك المحلة؟! عربية تهرسك ولَّا حاجة! هات الحمار وخده قدامك ووديه لأمه ينوبنا ثواب.
هنا تذكرت البيت اللي أنا سايبه، والفراخ اللي زمان الديابة كلتهم. وارتعدت فرائصي خوفًا من عودتي. وانتهزت فرصة انشغالهم في حل الحمار وأخذت بعضي ودورت الجري على برَّه، والراجل يجري ورايا، وامرأته تقول: «امسك يا جدع يا اللي ماشي، امسك يا جدع، الولد ده. الولد ده هربان من أمه.. الله يقطع العيال وخلفهم.. امسكي يا بت يا اللي جاية، امسكي الولد ده». ولكني طرت كالريح خوفًا من أمي.
وأخيرًا هدأت من سيري، وكلمات الولية ترن في أذني: «الله يقطع العيال وخلفهم.. زمان أمك دايخة عليك». وواصلت طريقي متجهًا نحو المحلة الكبرى. ومن بعيد رأيت المداخن، ورأيت الدخان يتصاعد منها.
وكلما اقتربت رأيت المباني العالية والدخان يملأ السماء وقلت لنفسي: «هنا يكون المصنع، هنا سوف ألتقي بالواد الغريب والواد السيد الصفطي».


2
الليلة الأولى في المحلة

اقتربت من مشارف المدينة. وفي أول طريقي إليها رأيت ناسًا كثيرين يملأون الشوارع. ناس زي الناس اللي شفتهم في بلدنا.. لابسين هدوم زي اللي بنلبسها.. هدوم بلدي وصداري زي اللي إخواتي بيلبسوها. ورأيت عيالًا صغيرين كل واحد ماسك طرف جلابية الثاني وعاملين قطار زي اللي بنعمله في بلدنا. ومشيت أدقق في وجوه كل الناس، أنتقل من رصيف إلى رصيف، باحثًا عن الواد الغريب والواد السيد الصفطي. وسألت بعض الناس:
- فين المحلة؟
- هي دي.
- وفين المصنع؟
- تانك ماشي في الشارع ده على طول، وحوِّد في أول حواداية وامشي على طول يقابلك المصنع.
وصلت المصنع. وأمام بابه الكبير رأيت ناسًا كثيرين، كثيرين جدًّا، ترش الملح ما ينزلش! ووقفت أنظر في الوجوه، وجوه كل الواقفين باحثًا عن الواد الغريب والواد السيد الصفطي. وأحسست بإرهاق شديد من كثرة السير، فجلست على الأرض أستريح، فوجدت أقدامي متورمة. جلست أستريح وأنا أنظر في وجوه كل اللي جايين واللي رايحين. طال تأملي، وأحسست بالجوع يمزق أحشائي. أحسست بالغربة عن أمي وإخواتي. ووقفت أتأمل الوجوه من حولي وأتفرَّسها. ورحت أحدث نفسي: «حاكل منين؟ أشحت؟! أنا عمري ما شحت.. وأنام فين؟!».
وقطع تأملاتي صوت صفارة لم أحتمل سماعها لشدة قوتها. وفتح باب المصنع الكبير. ودخل كل الناس اللي كانوا واقفين أمامه. ووجدت نفسي تسوقني الجموع إلى داخل العنابر. ورأيت ناس كثيرة تزق عربيات مليانة قطن، وناس واقفة على مكن كبير، وعيال تزق عربيات مليانة بكر. كنت لا أتطلع إلى المكان بقدر ما كنت أتطلع في وجوه كل من يقابلني باحثًا عن الولد الغريب والولد السيد الصفطي. دخلت كل العنابر فلم أجد أثرًا لأحدهما، فخرجت، ووقفت في حوش المصنع أتطلع في وجوه كل الناس الرايحين والجايين. وأوشكت الشمس على الغروب، وأنا واقف أتطلع إلى السماء تارة وإلى الوجوه تارة أخرى بعيون زائغة متطلعة إلى ما وراء الأفق. وجال بخاطري ما كان يردده أخي من أغاني الحنين إلى الأهل:
يا عم دا انا غريب والغربة كايداني
والقلب والبين والأيام كايداني
أفكار قاتمة سوداء! وكدت أيأس فلم أستطع منع الدموع من عيني. فجأة تبددت الأحزان والمخاوف، واختلطت الدموع بالابتسامات عندما وجدت يدًا توضع فوق عينيَّ من الخلف، ويدًا أخرى تحتضنني. كانت الأيدي هي أيدي من جئت من أجلهما. وبقينا لحظات كل منا ينظر إلى الآخر ودموع الفرح باللقاء تتساقط! وبعد فترة صمت، قال الولد الغريب:
- إنت جاي منين؟
- من البلد.
- جاي إزاي؟
- جاي ماشي.
- ماشي؟! يا نهار أسود! أمك عارفة؟
- أبدًا.
- رحنا في داهية. طيب تعال. إحنا رايحين نكلم الريس عشان يشغلك معانا. إحنا بنشتغل الأسبوع ده بالليل من الساعة 8 للساعة 7 صباحًا. والأسبوع اللي جاي بنشتغل بالنهار، من الساعة 7 للساعة 8 بالليل. إحنا بنشتغل على مكن بيغزل القطن. عملوا لنا قرش صاغ في اليوم، ولما نتعلم رايحين يزودونا. الريس قال لنا كده. إنت جعان؟
- ميت من الجوع.
- خد كل الأول.
أثناء الأكل سمعت صفارة، ولم أستطع إلا أن أسد أذنيَّ من شدتها. فقال الولد الغريب:
- الصفارة دي هي اللي بتنادي على العيال. دلوقت الساعة 8، ودي آخر صفارة.
وأخذني فدخلت معه عنبر الغزل، ووجدته مليئًا بالعيال الصغار في مثل سني، لا يزيد عمر الواحد عن 10 أو 11 سنة. وقفت كالتائه، أنظر إلى المكن تارة وإلى الأولاد تارة أخرى وهم يتدافعون جماعات، وفي يدي كل منهم أسطوانة مليئة بالبكر. وكان هناك آخرون يركبون البكر على الماكينات. وإلى جوار صندوق من الخشب وقفت أنظر إلى كل هذا دون أن أتحرك من الخوف.. شيء لم أره قبل ذلك في حياتي. المكن طويل مرصوص، كل مكنة بجوار الأخرى في شكل جميل. والأطفال واقفون بين المكن بملابسهم المخططة الملطخة بالزيوت وهم يروحون ويجيئون، وكلما سقطت بكرة أسرعوا يركبونها. ولكل ماكينة سير من الجلد طوله أكثر من عشرة أمتار يدور حول طارة. وإذا نظرت إلى السقف لا تستطيع أن تراه من كثرة السيور. وضجيج الآلات يجبر الجميع على سد آذانهم بالقطن. واختفت لغة مناداة العمال بالاسم وحلت محلها لغة الإشارة بالأيدي. وإذا أراد أحد العمال زميلًا زعق بصوت جهوري: «هوه.. هوه»، فيتطلع الجميع إليه، فيطلب العامل من يريد بالإشارة. كل هذا وأنا واقف في مكاني تائه. وإذا برئيس العمل يأتي ويطلب أن أسجل اسمي في دفتر كان بيده، وطلب مني أن أعمل مع الأطفال في تقليع المواسير من مكن الغزل.
وتقدمت وأنا في ذهول. وكلما نظرت إلى المكن وهو يدور لم أستطع الاقتراب منه. وعلى بعد، وقفت أنظر إلى الأولاد وهم يركبون البكر. ناداني المباشر ووقف يعلمني ويشجعني على الاقتراب من المكن شيئًا فشيئًا، إلى أن دخلت الطمأنينة قلبي، واقتربت من المكن. وشجعني على ذلك من سبقني من الأطفال، فاندفعت إلى العمل بحماس بدافع الغيرة. واندمجت في العمل إلى أن تمكنت من وضع يدي على بكرة وتركيبها والمكنة دايرة. وزاد هذا من ثقتي بنفسي، وبدد جزءًا من خوفي ومن الرهبة التي كانت مسيطرة عليَّ. واندفعت ألتقط كل بكرة من أي مكنة وأركبها مكانها.
وفي النصف الثاني من الليل كان التعب قد أنهكني وأنا أغالب النوم. وحاولت المقاومة بوضع رأسي تحت حنفية ماء خوفًا من الرؤساء، ولكن دون جدوى، فجفوني قد تشابكت وغلبها النعاس مرة أخرى. فذهبت نحو صندوق البكر الكبير، ولشد ما كانت دهشتي عندما وجدت الصندوق خاليًا من البكر ومرصوص بداخله بدلًا من البكر أطفال نائمون، فألقيت بنفسي معهم ونمت. ولم أصحُ إلا على جرادل المياه التي انصبت علينا وأغرقت ملابسنا. صحونا مذعورين، وإذا بالرؤساء أمامنا، فعاد كل منا إلى ماكينته جريًا. وبجوار إحدى الماكينات خلعت كل ملابسي، والتف الأطفال حولي وساعدوني على عصرها ونشرها على جوانب المكنة، وأنظارنا تتطلع إلى الرؤساء وهم يتمتمون بكلام لا نسمعه. وبجانب المكنة وقفت أنظر إلى الطرقات وفرائصي ترتعد من شدة البرد. ورأيت الأطفال وهم يجيئون ويروحون وقد هدهم التعب. رأيتهم وبأيدي كل منهم أسطوانة مليئة بالمواسير، وهم يسيرون ببطء متهالكين يتساندون على الحائط وعلى جوانب المكن، وجفونهم قد تشابكت. ورأيت المباشرين يسيرون وفي أيديهم جرادل مليئة بالزهرة المبللة يلطخون بها وجوه كل طفل نائم أو على وشك النوم. ورأيت الأطفال يتدافعون إلى دورة المياه بالعشرات لغسل الزهرة عن وجوههم. وحاولت التغلب على النعاس، ثم لبست ملابسي بعد أن بدأت تجف.
وانطلقت أتجول بين مكنة وأخرى. وكلما تجولت رأيت الوجوه تتطلع إلى السماء في انتظار طلوع الفجر. ومع بزوغ الشمس كانت السعادة بادية على الوجوه. سعادة بانتهاء الليل وانقضاء ساعات عمله الطويلة المنهكة.
استقبل العمال النهار بلغة المصنع: «هوه.. هوه.. هوه». صيحات تهز الجدران، وتطغى على زئير السيور وضجيج الآلات وهي تتردد من آلاف الحناجر في فرح واستبشار. رويدًا رويدًا بدأ نور الصباح الساطع يطغى على نور الكهرباء، واتجهت الأنظار نحو عقارب الساعة المعلقة على الحائط انتظارًا لتوقف عقاربها عند السابعة، وكلما اقتربت من الموعد هدأت النفوس.
وعدوت أبحث عن الواد الغريب وعن الواد السيد الصفطي وسط ذلك الحشد الهائل من الأطفال خوفًا من أن أتوه. عدوت نحو دورة المياه، وهناك وجدت عشرات الأطفال يضعون رؤوسهم تحت حنفيات المياه، وآخرين يمشطون شعورهم استعدادًا للخروج، ووجدت الواد الغريب والواد السيد الصفطي، فأخذاني معهما، وتوجهت إلى باب العنبر. كانت عقارب الساعة تشير إلى السابعة. وفتح باب العنبر. وتلاقت الوجوه، وجوه عمال الليل مع وجوه عمال النهار. وتلاقت الأيدي بالسلامات. وبدأت عمليات تسليم المكن. كل منهم يسلم الآخر: «كل شيء تمام».
وعدوت أنا والواد الغريب والواد السيد الصفطي في طريقنا إلى خارج المصنع.


3
الجثة المحشورة بين السقف والطارة

خرجنا من المصنع، وقلت للولد الغريب:
- على البيت؟
- إحنا ملناش بيت.
- يا نهار أسود.. ملكمش بيت ازاي؟!
- أصل إحنا ما عندناش فلوس نسكن بيها.. لما جم وخدونا من بلدنا قالوا إن الشركة حتريحنا وتوفر السكن. إحنا صدقناهم. ولما جينا هنا قعدونا في حوش المصنع مع آلاف العمال اللي جابوهم من كل البلاد، وبعدها قالوا خلاص، شوفولكم سكن خارج الشركة. ولم يمهلونا، وطردونا بعد عشرة أيام من وصولنا. فخرجنا وكل واحد يحمل أمتعته، وسرنا في شوارع المحلة. كل جماعة من بلد واحد أجروا حجرة بخمسة وعشرين قرش في الشهر، وأصحاب البيوت هنا بيسكنوا العمال «بالراس»، إيجار الراس قرش صاغ واحد في الشهر. كل 25 شخص يسكنون مع بعض، وأحيانًا 30. ومعظم الجماعة من بلد واحد أو من بلاد متجاورة أو من مديرية واحدة. ولم نتمكن من إيجار حجرة لأننا لم نجد عددًا كبيرًا من بلدنا. كنا في بداية مجيئنا عشرة، ولم يبق منا غيري أنا والولد السيد الصفطي، ومعناش فلوس نأجر بيها حجرة، وجلسنا على الرصيف، وتجمع الناس حولنا، وأخذنا راجل طيب صاحب طابونة اسمه محمد الطباخ، وقال تعالوا معايا يا ولاد على الفرن لغاية ما تشوفوا سكن. في أسبوع عمل الليل ننام بالنهار على البحر تحت الشجرة، أما أسبوع النهار فننام في الطابونة.
قلت:
- إحنا حنموت بالطريقة دي.
فقال:
- فاضل 18 يوم على العيد. إن ما كانوش يعطونا زيادة نبقى نروح وما نجيش بعد العيد.
وصلنا إلى البحر. وقرب المستشفى الأميري، وتحت ظل شجرة صفصاف قال الولد الغريب:
- هذا هو بيتنا المؤقت، اقعد.
كان الإنهاك يهد جسمي، فنمت نومًا عميقًا لم أصحُ منه إلا على أصوات صرخات نساء. نظرت من حولي فرأيت عشرات النساء وكل واحدة تحمل صفًّا من الحلل والأواني، والكل منهمك في تنظيفها في المياه بالقرب من بيتنا المؤقت. ورأيت عشرات من الشبان والأطفال عراة كما ولدتهم أمهاتهم يسيرون على الشاطئ، ويتمرغون في الرمال، ويقفزون في البحر، ويعاكسون النساء ويرشونهن بالماء. وهذا ما دفع النساء إلى الصراخ والشتيمة:
- يا ولاد الكلب يا شركاوية، من نهار ما جيتوا غليتوا علينا المش.
=غليتوا علينا السكن. كنا مستريحين. كانت الواحدة تسكن في أوضة وجنب منها عشر أوض فاضيين. وكان اللي عندها بيت تتحايل علينا عشان نسكن عندها. النهارده بيطلبوا منا نعزِّل عشان يسكنوها بالراس. البيت بحاله كان زمان بعشرة صاغ النهارده بيسكنوه بجنيه!
=ومن نهار ولاد الكلب دول ما جم واحنا ما احناش عارفين ناكل! كانت الواحدة منا بتروح السوق تشتري قفة البدنجان بقرشين صاغ، وكانوا يتحايلوا علينا. النهارده مش ممكن نشتريها إلا بستة أو بسبعة صاغ!
=إلهي تنخرب!
وتواصل سيل الدعوات والشتائم ضد الشركة وضد العمال، واللي حدفهم إلى هنا. وبقيت في مكاني مضطجعًا، أسمع وأنا مكاني تحت شجرة الصفصاف إلى أن غلبني النعاس مرة أخرى. ولم نصحُ هذه المرة إلا قرب بداية الوردية.
ونحن في طريقنا إلى المصنع، قال الولد الغريب موجهًا كلامه إليَّ:
- إنت عملت إيه إمبارح في الشغل؟ عرفت تشتغل على المكنة؟
- لسه. أنا عرفت بس أركب البكرة والمكنة دايرة.
- المباشر ما ضربكش؟
- لا. بس أنا لما كبس عليَّ النوم رحت على صندوق البكر لقيت عيال كتيرة مترصصة فنمت جنبهم، ولم نصحُ إلا على جرادل المياه تدلق علينا من الرؤساء.
فقال الولد الغريب:
- إنت خايب. أصل العيال دول جداد. إحنا بنهرب في عنابر تانية وننام.. وأول الكاتب ما ييجي ويكتب الأسماء بنزوغ على عنبر البرم وعنبر السحب وعنبر الكرد وعنبر التنظيف وعنبر النسيج، ولما نتعب من اللف نيجي تحت أي حيطة أو صندوق وننام.. إحنا رايحين ناخدك معانا ونفرجك.
قلت:
- أنا عاوز أشوف مكن النسيج.
وكنا قد وصلنا إلى بوابة المصنع ونحن نشق طريقنا وسط زحام الآلاف الواقفة في انتظار توقف عقارب الساعة على الثامنة مساء، وهو موعد بدء العمل. وحولنا الباعة من الرجال والنساء يصيحون بصوت يصم الآذان: «القوطة المخللة بالتوم... البدنجان المخلل المحشي بالبهارات.. الجبنة البلدي.. الفجل والكرات...». أصوات لا تهدأ، كل واحدة وكل واحد عايز يخلص. الكل عايز يبيع قبل ما تدخل الجموع إلى العمل.
زعقت صفارة الدخول في الثامنة مساء، وبدأ العمال يدخلون كلٌّ متجه إلى عنبره، وفي يد كل واحد منديل مربوط على العيش، وفي اليد الأخرى ما اشتراه عند باب المصنع: بدنجان مخلل كل اثنين بمليم، أو كوم من القوطة المخللة كل ثلاثة باتنين مليم. ووصلنا إلى عنبر الغزل، واستقبلنا العمال بلغة المصنع: «هوه.. هوه.. هوه».. صيحات تغطي على زئير السيور وضجيج الآلات ابتهاجًا بانتهاء يوم العمل.
وأخذ الرؤساء يوزعون العمل: مجموعة تسمى عمال التقليع، وهم من العمال الجدد. ومجموعة أخرى تجلب لهم البكر. وعمال آخرون لكنس الأرض ولم المواسير من تحت المكن. وكنت أنا ضمن عمال التقليع. وكنت جادًّا في أن أتعلم الصنعة لأن العمال القدامى كانوا يتآمرون على العمال الجدد. وكان هذا يدفعني إلى أن أتعلم بسرعة تركيب المواسير ورش المكنة وتدويرها. وكنت أجري نحو كل عامل يدور المكنة كلما توقفت، وكلما دورت المكنة مرة أخرى كان هذا دافعًا جديدًا لي.
وبدأت أسأل الأطفال عن بلادهم، منهم من قال أنا من «الباجور منوفية»، ومنهم من قال من «دمياط»، وثالث من «تلا منوفية»، وآخر من كوم النور. وكانوا هم يسألونني عن بلدي فأقول أنا من «كفر الحما غربية». ونشأت بيني وبين الكثيرين صداقة، وخاصة حين يعلمون أن أبي مات دون أن أراه. ومنهم من ساعدني على تعلم تركيب البكر وتدوير المكن.
وطلب مني الولد الغريب أن أزوغ معه بعيدًا عن العنبر فرفضت، لرغبتي في أن أتعلم سريعًا من كل من تعلم قبلي، فتركني وذهب. ولم يمض وقت طويل حتى حضر المباشر وأخذني لكي أجمع البكر الواقع تحت ظهر المكن. ولرغبتي في سرعة العمل، دخلت تحت المكنة. وعند خروجي وجدت كل ملابسي ملطخة بالشحم والزيوت السوداء، ووقفت مذهولًا لا أقوى على الكلام لأني لا يوجد معي من يغسل ملابسي. وسرحت بخاطري نحو أمي التي لم تكن تحب أن تراني هكذا، فبكيت. ولم يترك لي المباشر فرصة للتفكير، ولا حتى للبكاء، وأمرني أن أكنس الأرض متظاهرًا بعدم رؤية ملابسي.
وفي النصف الثاني من الليل، تهالك جسدي، وغلب النعاس عينيَّ، وحاولت المقاومة خوفًا من الرؤساء بغسل وجهي في دورة المياه، ولكن دون جدوى، والرؤساء في هذه الساعة يشيعون القلق والخوف في النفوس. كانوا يحملون جرادل بها شحم ويسيرون بين المكن وفي الطرقات لدهن وجوه كل من يغلبهم النعاس، وهم كثيرون. وكان النعاس يغلب كل من لم تتوفر له وسائل الراحة في بيته. وهذا ما كانت تتحدث به العمال:
- أصلنا ما بنامش بالنهار.
- إحنا رايحين ننام فين يا عم. الواحد بينام وحاطط إيده على قفة العيش أحسن تتسرق.
- هو احنا عارفين ننام واحنا عشرين ساكنين مع بعض في أوضة! يلعن أبو دي شغلة! دا الواحد يروح البلد أحسن ولا البهدلة دي.
- تصور أنا ما لقيتش حتة أنام فيها امبارح، رحت نمت في عربخانة.. «عربخانة بهايم»!
- إنت نمت مع البهايم؟
- أيوه، نمت مع البهايم، شوف يا سيدي. في المحلة فيه سوق التلات، والسوق ده بتيجي له ناس كثير: الحاوي ييجي عشان يظهر مواهبه، والقرداتي ييجي عشان يلعب ألعابه.. كل دول ييجوا يوم الاثنين عشان يحضروا السوق يوم التلات. كل دول بيناموا في العربخانة. وأنا كمان ومعايا ناس كتير لم نجد مكانًا ننام فيه فرحنا ننام في هذه العربخانة مع البهايم.. تصور، ننام مع البهايم! طبعًا مش ممكن نعرف ننام. وبعدين نيجي عشان نشتغل 12 ساعة. يا عم دي شغلانة منيلة! لازم نيجي هنا ننام! وآخرتها الرؤساء يلطخوا وشنا بالزهرة ويسودوه بالشحم.
- ليه يا عم؟! ضحكوا علينا وجابونا من بلادنا وقالوا احنا حنريحكم. هي دي الراحة؟!
- المباشرين دول أول العمل ما بيبدأ يروحوا موزعين العمال على المكن وتبص ما تلاقيهومش. يروحوا يناموا ويشبعوا نوم وييجوا بعد نص الليل يضربونا ويبهدلونا بالشحم والزهرة والميه.. دول أندال يروحوا يناموا ويشبعوا نوم وبعدين ييجوا يشيعوا الرعب فينا.
- هو حد قادر يحوش النوم، النوم سلطان، تعال شوف العيال نايمين فين، شوف الرعب خلَّى الولد حاشر نفسه فين.. في الأسطوانة.. أسطوانة من بتوع البرم.. ليه عمل كده؟ عشان الليل طويل، 12 ساعة.. وهوَّ طول النهار في الشارع فلازم ييجي هنا ينام.
- تعال شوف كمان.. آدي صناديق مكفية.
=إللي يشوفها يقول مفيش تحتها حاجة.. تعرف تحتها إيه؟ تحتها عيال نايمين.
قلت:
- دول ممكن يموتوا كده!
قال:
- هو اللي بيموت هنا حد يسأل فيه؟!
قلت:
- إزاي؟! هوَّ مفيش قوانين؟! مفيش حكومة؟!
قال:
- حكومة مين يا عم؟ مش شايف الناس عينهم نصف نايمة من التعب ازاي؟ تعال لما نقلع الوش ونرش المكنة.
وبينما نحن منهمكون في العمل وإذا بأطفال ورجال يجرون إلى وسط العنبر وصياحهم يغطي على ضجيج الآلات: «واحد مات! واحد مات! السير خطف واحد! علقه في سقف العنبر! الدم نازل يشرشب! الدم نازل على العنبر!». وجريت أنا أيضًا في نفس الاتجاه، ووجدت مئات العمال وقد وقفوا صامتين وعيونهم كلها على الجثة وهي محشورة بين السقف والطارة المركب عليها السير، والدماء تتساقط بغزارة ملطخة المكن المجاور.
وبسرعة، أحضر العمال السلم العالي الخاص بالكهرباء، وانتزعوا الجثة المحشورة بين السقف والطارة. ولم يتمكنوا من إنزالها برفق، فسقطت من بين أيديهم على الأرض. وازدادت وجوه العمال شحوبًا من هول المنظر، وخاصة بعد أن غطيت الجثة بالخيش.
فقد العمال القدرة على مواصلة العمل. كانت أبصارهم جميعًا معلقة بالجثة، والأعصاب محطمة، والفزع يسود، والقرف يستولي على العمال ويتحول إلى حقد على المكن وعلى السيور.
وتوالت أحداث من هذا النوع تثير الفزع بين العمال: خمسة عمال آخرين من عمال الشلل كانوا يركبون السير فلفهم بين السقف والطارة، فماتوا بعد أن تحول العنبر إلى بركة من الدماء. والكل أصبح ساخطًا على المصنع وعلى المكن. ويتضاعف السخط كلما حدثت حوادث أخرى من هذا النوع.
وازدادت الهمسات بين العمال:
- المكن لما يخرب ما يشتغلش إلا لما يزفر بدم بني آدم!
- إحنا زمان لما كانت مكنة الطحين تخرب، كانوا يسرقوا لها عيل عشان يدبحوه ويزفروا بيه المكنة، وعشان العفاريت تتنطط، وتنطيط العفاريت هو اللي بيدور المكن.
=كانت أهالينا ما تخليناش نروح نواحي مكن الطحين.
=وآدي احنا النهارده جايين لحد المكن برجلينا!
- الواحد يروح أحسن يشتغل ويحرث الأرض ويطلع غلة أحسن من الشغلة دي!
- تصور الواحد منا زي الفحل ويشتغل بتلاتة تعريفة من الصبح لحد نص الليل.. الواحد لما يروح ويموت على فرشته أحسن ما يموت غريب.. هو حد عارف الناس اللي ماتت دفنوها فين؟!
- المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين. وآدي احنا بنشتغل لحد العيد، ولما نقبض نروح، وإذا كان ربنا قاسم لنا نرجع تاني حنرجع.
أحاديث.. وأحاديث.. والأيام تمر. وكل يوم نرى عربات محملة بالمئات قادمة من قرى متعددة تملأ الحوش المعد لاستقبال العمال الجدد.