28 September 2015

جلال أمين: مكتوب على الجبين: حكايات على هامش السيرة الذاتية

جلال أمين
مكتوب على الجبين
حكايات على هامش السيرة الذاتية


مسألة حياة أو موت

مع تقدمي في السن، كان لا بد أن تتتابع على سمعي أخبار الموت، على فترات تزداد قصرًا، حتى أصبح من الممكن أن يصلني منها خبران في نفس الأسبوع، أو في يومين متتاليين. إني أقصد بالطبع أخبار موت أشخاص أعرفهم معرفة جيدة، من الأقارب أو الأصدقاء، أو من أصحاب الأسماء المشهورة الذين أثروا فيَّ، بشكل أو آخر، عبر فترة طويلة من حياتي.
كنت أظن أن تزايد أخبار الموت على هذا النحو سوف يجعل تأثري بالخبر أقل مما كان في الماضي، عندما كانت هذه الأخبار نادرة، فإذا بي أجد العكس. أعتقد أن خوفي من الموت يضعف مع تقدمي في السن، ولكن الحزن لسماع أخباره يزيد ولا يضعف، ولديَّ أمثلة كثيرة تدل على ذلك.
ربما كان أول خبر بلغني عن الموت كان عن موت خالي وأنا في السابعة أو الثامنة من عمري، تلاه موت خالتي بعد ذلك بأربع أو خمس سنوات. أذكر أن الخبرين لم يتركا في نفسي أثرًا كبيرًا، ولا بقي هذا الأثر طويلًا. كنت حينئذ، كما لا بد أن يكون حال الأطفال جميعًا، أكوِّن رأيي في خبر الموت وفقًا لما أراه من وقع الخبر على مَن حولي. ولكن الأهم من ذلك، فيما أظن، أن حادثة الموت، في السن الصغيرة، تبدو أمرًا غير طبيعي بالمرة، يتعارض بشدة مع ما للسن الصغيرة من حيوية، وقوة الرغبات والطموحات، وانشغال طبيعي بعلاقات الطفل أو الصبي مع أقرانه.
لا بد إذن أن أعترف بأن خبر وفاة أبي، وأنا في التاسعة عشرة من عمري، كان له وقع أخف بكثير مما يُتوقع لوفاة الأب، بل ويكاد أن يكون أخف من وقعه عليَّ الآن كلما استعدته في ذهني. إني أحزن لغياب أبي كلما تذكرته في السنوات الأخيرة أكثر مما حزنت له من قبل، وأظن أن هذا صحيح أيضًا فيما يتعلق بخبر وفاة أمي الذي جاءني وأنا في قمة حيويتي وطموحي في أوائل عهدي بالبعثة في إنجلترا، وفي بداية علاقة حميمة مع فتاة إنجليزية.
***
لا زلت أحتفظ بخطاب أخي حسين الذي أرسله إليَّ من كندا في 3 فبراير 1960، أي بعد وفاة والدتي بثمانية أشهر، وكنت قد كتبت إليه من إنجلترا أطلب منه أن يصف لي ما حدث بالضبط، وفيما يلي جزء من خطابه البديع:
تسألني عن الأيام الأخيرة لوالدتي. أحب أولًا أن أذكر لك أنها حتى يوم 4 مايو (1959)، أي قبل وفاتها بثمانية عشر يومًا، كانت بالضبط كما عهدتها أنت دائمًا: لا محتفظة بوعيها فحسب، بل ومرحة كثيرة الضحك.. ثم أصابها عشية شم النسيم نفس المرض الذي كان يصيبها في صيف كل عام، بل وعلى درجة أقل بحيث لم يكن هناك ما يثير القلق إطلاقًا، خاصة وأنها كانت تجلس في الصالة كالمعتاد. ثم نصحها حمادة (أخي الأكبر محمد) يوم 9 مايو أن تقضي أسبوعًا أو أسبوعين في مستشفى العجوزة حيث الجو أكثر تهيؤًا لإعطائها الأدوية في المواعيد المحددة، فعارضت والدتي في بادئ الأمر، شأنها دائمًا، ثم قبلت.
كان الأسبوع الأول من الأسبوعين اللذين قضتهما في المستشفى عاديًّا: فاطمة (أختي) تزورها في الصباح الباكر لتأتيها بزجاجة من عصير البرتقال، وتأخذ منها ما خلعته من ملابس لتغسلها في البيت، ثم تأتي نعيمة (أختي الأخرى) فتقضي معها بقية الصباح، حتى إذا ما حانت الساعة الثانية جاءها حمادة وأمين وحافظ (إخوتي) وأنا، قادمين من العمل. كانت تبدو وقتئذٍ أشد اهتمامًا بأحوال حافظ (الذي كان مطلقًا حديثًا) وأحوالي في البيت منها بمرضها: تسألنا أين نأكل، ومَن يغسل ملابسنا، وهل البيت «بقى وحش» من غيرها. وطلبت منا أن نرسل لها أم سيد التي أوصتها بأن تطبخ لنا واعدة إياها بجُنيهَين حين خروجها، «ولا تلوصوا أبدًا»، هكذا كانت تردد. كانت تضحك كلما أغظتها برفع السرير عند الرأس وخفضه بإدارة اليد الملحقة به، وتدعو لزينب ومنى (بنتَي أختي فاطمة)، حين كانتا تجلسان إلى حافتَي سريرها لإطعامها بأيديهما، وقد نشرتا روح الشباب والمرح في الغرفة صائحتين: «لازم تاكلي دي يا ستي. دي بس».
ثم فجأة تغير الحال، دون أي سبب ظاهر. فجأة لم تعد معدتها تقبل لقمة واحدة. كلما أكلت ملء ملعقة من طعام استفرغتها. وإذ استمرت هذه الحالة ثلاثة أيام بدأوا يعطونها حقنة الجلوكوز. وكان حمادة يحضر لها كل يوم صحنين من «الجيلي» يطعمها إياهما بنفسه. والواقع يا جلال أن حمادة وفاطمة قد خدما والدتي أثناء تلك الفترة خدمة لا ينبغي أن ننساها لهما ما حيينا: حمادة عن حب عميق، وفاطمة عن اعتقاد جازم بأن كل ما ستؤديه لوالدتي ستؤديه لها كل من زينب ومنى في مستقبل أيامها (ولا أدري أي العاطفتين أحكم).
الغريب في الأيام الأخيرة هذه، لا ما أدى إليه انعدام شهيتها من ضعف جسماني متزايد، ولا ثقل لسانها الذي قلل من حديثها، وإنما الغريب ما نتج عن إحساسها حينئذ باقتراب الموت (أو على الأقل باحتمال حدوثه) من تغيُّر لا يكاد يصدق في نظرتها إلى الناس والأمور. كانت هناك، راقدة في سريرها، وجهها وعيناها إلى السقف في نظرة جامدة، لا تعبأ بما يدور حولها من حديث. أحاول إضحاكها بشتى الطرق فلا تضحك، ويسألها كل قادم عن صحتها فتجيب في برود أنها «كويِّسة». لا تشكو، لا تطلب شيئًا ولا كوبة ماء، ولا تبدي اهتمامًا بشيء، حتى ولا بعلي (ابن أخي عبد الحميد) الذي جاء به أبوه إليها لأول مرة في الليلة السابقة لوفاتها. كنا نتساءل عما إذا كانت تعي شيئًا، وكان البعض في شك من ذلك، غير أني لا أعتقد أنها فقدت الوعي إلا في منتصف ليلة 22 مايو (يوم وفاتها). كنت معها بمفردها يوم 20 مايو، في المساء، أحاول التسرية عنها تارة بالحديث عن زواج أحمد (أخي الذي كان في ألمانيا)، وتارة بأن أقرأ لها بطاقة التهنئة بعيد ميلادي التي أرسلتها أنت من لندن. وأحاول أن أضاحكها بصدد تهنئتك لها بولادتي. قالت مقاطعة:
- سلِّم لي على جلال يا حسين.
- تحبي تملِّيني جواب نبعته له؟
لم تجب، ثم تمتمت بعد لحظة:
- أنا قلقانة يا حسين.. أنا قلقانة قوي.
وعندما سألتها عن سبب قلقها لم تجب، وإن اختلج وجهها بقوة. وبعد لحظات هدأت والتفتت قائلة:
- روَّح أنت يا خويا.
كان هذا الحديث القصير أحد مرتين اثنتين في خلال الأيام الأخيرة من حياتها تبدي فيهما إدراكًا لشؤوننا. المرة الأخرى هي في المساء السابق لوفاتها حين يئست العائلة الملتفة حولها من إشراكها في الحديث. فبدأنا نتحدث فيما بيننا حتى أدى بنا الكلام إلى أمر يتعلق بحافظ. حينئذ بدرت من والدتي بادرة تشير إلى أنها تود أن تقول شيئًا، فسارعنا جميعًا إلى الصمت نصغي بشغف. قالت:
- حافظ غلبان.. اتعذِّب كتير.
وكانت هذه هي آخر ما سمعت أنا من كلمات والدتي.
في تلك الليلة زارها الدكتور جعفر. وبعد أن كشف عليها طلب لها أوكسجين، ثم سأل حافظ أن يبيت معها الليلة لأن حالتها «مش كويسة». في الساعة الخامسة صباحًا توجهت إلى المستشفى لأحل مكان حافظ إلى جوارها. كانت وقتئذ في غيبوبة تامة. شهيقها وزفيرها مرتفعان ارتفاعًا مذهلًا، تحس وأنت تستمع إليهما أنهما «اصطناعيان»، وكأنهما صادران عن جهاز وُضع داخل إنسان آلي، وتحس أنهما لا يمكن أن يستمرا طويلًا. كانت الممرضات يتجنبن المرور بالغرفة، وقد أغلقن الأبواب طول الصباح على المرضى في الغرف المجاورة. لم يكن هناك ثمة أمل. حتى الطبيب لم ير داعيًا للحضور. وأسرعت نعيمة إلى خارج الحجرة متخبطة، تكتم البكاء بمنديل إلى فمها، حتى إذا ما صارت خارجها تركت لنحيبها العنان. ووصل حمادة، فأمين. أما حافظ فلم يعلم بوفاتها إلا بعد أن عدنا جميعًا إلى البيت.
لا أدري ما إذا كان قد حدثك أحد عن الجنازة أو المكان الذي دُفنت فيه. فأما الجنازة فكانت من أكبر ما عرفته القاهرة من جنازات وأفخمها. معظم الحاضرين فيها قد جاءوا لتعزية حمادة وعبد العزيز (زوج أختي فاطمة). وقد حضرها من أصدقائك أمين يسري، وحسن القلعاوي، ومختار، وشكري فؤاد، وبهجت علام. أما مكان الدفن فمدفن عائلة بركات في أجمل بقعة يمكنك أن تختارها لوالدتي: تُظل قبرها شجرة مشمش وشجرة مانجو، ولا يفسد علينا حلاوة التأمل والتذكر سوى سماجة الشحاذين.
***
كان هذا منذ أكثر من خمسين عامًا، مررت أنا خلالها بأحداث كثيرة، رفع بعضها من مستوى آمالي وخيب غيرها بعض هذه الآمال، وأدى بي هذا كله إلى فهم أعمق لحقيقة الموت. استطعت مثلًا أن أتعاطف بشدة مع جملة قرأتها في رواية الطيب صالح الأثيرة لديَّ «موسم الهجرة إلى الشمال» وتقول إن كلًّا منا يرحل وحيدًا في نهاية الأمر. وكنت أعود من حين لآخر لتذكر كلمة قالها نجيب محفوظ مؤداها أنه لا يستطيع أن يقرر ما إذا كانت الحياة هي الأصل أم الموت.
ثم جاء مرض أخي حسين منذ سبع سنوات. كان حسين طوال حياته قليل الثقة بالأطباء. وأذكر أنه عندما رأى واحدًا بعد الآخر من إخوته يصاب بضعف البصر، ويبدأ في استخدام نظارة، قال إنه سيتبع رأي الكاتب الإنجليزي «ألدوس هكسلي» في رفض استخدام نظارة، لاعتقاده أن باستطاعته تقوية نظره بالمران، وأن استخدام نظارة عند ضعف البصر يزيد البصر ضعفًا. لا أذكر أني رأيت حسين بنظارة قط، ولكني أعرف أيضًا أنه كان ينتمي إلى ذلك الفريق من الإخوة الذي ورث قوة النظر من الأم، بينما ورث الفريق الآخر ضعف النظر من أبي.
كان يعجبني تشبيه حسين لجسم الإنسان، وهو بصدد التعبير عن عدائه للأطباء، بقوله إن تعريض الجسم لأيدي الأطباء، يعبثون به كما يشاءون، مثل تعريض موتور السيارة للعبث بأيدي الميكانيكيين بورش السيارات. كان يقول إن الجسم الذي لم يتعرض لعبث الأطباء قط مثل السيارة التي لم تذهب قط لورشة إصلاح. ألا ترى أن بائعي السيارات عندما يريدون الثناء على سيارة مستعملة، يصفونها بأنها تباع «بحالتها»، أي كما تسلمها مشتريها دون أن تتعرض لأي إصلاح؟
أذكر أنه عندما زرته في مرض ألمَّ بساقه بعد أن تجاوز السبعين من عمره، وأحاطت به زوجته وإحدى بناته وخادمة مخلصة، وألحوا جميعًا عليه بالذهاب إلى المستشفى لإجراء بعض الفحوصات، رفض رفضًا باتًّا إلى درجة الغضب. نجح حسين في النجاة بنفسه في تلك المرة، ولكني فوجئت بعد شهور قليلة بأنه ذهب بالفعل إلى المستشفى مستسلمًا، وأنه قبِل أن تجرى عملية جراحية في ساقه. فهمت من زوجته أن آلام ساقه زادت عن الحد مما لم يترك له وسيلة للمقاومة، ولكني لا بد أن أقول أيضًا إني كنت قد لاحظت في زياراتي له طوال العام أو العامين السابقين، وحتى قبل إصابته بهذا المرض، أنه كان قليل الكلام، وضعف حماسه المعهود في إثارة موضوع جديد يستهويه. ولا أدري حتى الآن ما إذا كان الضعف الذي أصاب إقباله على الحديث له علاقة بما حدث له بعد العملية.
ذلك أن حسين خرج من العملية شخصًا مختلفًا تمامًا. وكان الأمر محزنًا للغاية. ظننا في البداية أن تأثير المخدر الذي استخدم في العملية الجراحية لا زال مستمرًّا ولكنه سيزول مع الوقت. هذا ما قاله الطبيب الذي أجرى العملية، ولكن لم يحدث تحسن، بل تدهور الأمر ثم ثبت عند الحالة التي ظل عليها حسين طوال الست سنوات الأخيرة من حياته.
كيف يمكن أن أصف هذه الحالة؟ سكوت شبه مطلق، لا يقطعه إلا طلبه ممن بجواره طلبًا يتعلق بحاجة جسدية: كالأكل أو الشرب أو الذهاب إلى الحمام. تذهب لزيارته فيقابلك مقابلة مشجِّعة: وجه بشوش وصوت قوي، ويرد على تحيتك الرد الملائم بما في ذلك مخاطبتك باسمك. إنه إذن يعرف من أنت، ولا يخطئ فيخاطب أحدًا من أفراد الأسرة بغير اسمه، ولكن هذا هو تقريبًا كل شيء، لا يعرف شيئًا من أخبارك (مهما كانت مهمة ومعروفة للجميع)، ولا يهمه أن يعرف. لا يدرك أن ثورة قامت في مصر، ولا يبدو عليه أي اهتمام بما إذا كانت قد قامت أو لم تقم، فإذا داعبته بالتعبير عن استغرابك لذلك، ابتسم وظهر على وجهه بعض الدهشة، ولكنك لا تعرف ما موضوع دهشته بالضبط: هل هو عدم درايته بحادث مهم، أم استغرابك من عدم درايته، أم شيء آخر تمامًا؟
اكتشفت بعد قليل أن ذاكرته فيما يتعلق بالأحداث القديمة أفضل بكثير من تذكره للأحداث القريبة، وأن من الممكن أن أطلب منه أن يكمل بيتًا أو جزءًا من قصيدة للمتنبي، فيكمله مع بعض التردد والبطء، أو أن يكمل حكاية من حكايات العائلة القديمة، فيفعل ذلك أيضًا، ولكن دون أن يبدو عليه أي انفعال من أي نوع بتذكره أو تذكيره بهذه الحكاية. تسأله سؤالًا بسيطًا جدًّا عن إحدى بناته، أو عما فعله في الصباح، أو عما تناوله في الغداء، فينظر إلى زوجته طالبًا منها المعونة، بل طالبًا منها أن تقوم هي بالإجابة.
كان خلال السنوات السابقة على هذا المرض، كثيرًا ما يطلبني في التلفون فنتحدث حديثًا طويلًا لكثرة ما بيننا من اهتمامات مشتركة. يعرف أخبارًا جديدة تهمني معرفتها، وأعرف أنا أيضًا ما يهمه معرفته، فنتبادل الأخبار والتعليقات، فإذا بهذا الأمر ينتهي تمامًا. لا يطلبني في التلفون قط، وإنما أطلبه من حين لآخر فلا أظفر منه بشيء، مهما حاولت إثارة موضوع قديم أو حديث. ومن ثَم تنتهي المكالمة دون حماس من جانبه لبدئها أو إنهائها، ومقترنة دائمًا بشعور شديد بالحزن من جانبي.
كان الأمر يبدو لي مأساويًّا للغاية. إذ ما الذي بقي من حسين لي أو لغيري؟ وكيف تمضي الأيام منذ أن بدأ هذا المرض، وكيف نستمر في التعامل معه، وكأنه لم يحدث شيء خطير، ما دام لا يزال يأكل ويشرب وينام ويتحرك؟ هل الوفاة فقط هي الحادث المأساوي؟ فما هو بالضبط الذي يميز الشخص الحي عن الميت؟
كان يدهشني تعليق بعض أفراد أسرتي عن حالته. أحدهم يقول: «إنه يبدو أحسن اليوم»، وأخرى تقول: «المهم أنه لا يشعر بالألم». ويقول صديق مشترك: «إنه على الأقل لا يتدهور». ويقول آخر: «أهم شيء أنه لا زال يعرف الأشخاص المحيطين به ولا يخطئ فينادي أحدهم باسم شخص آخر». قد يكون كل هذا صحيحًا، ولكن أين هو حسين بالضبط؟ وما هو الشيء الذي لم يكن قد حدث بعد، ولكنه إذا حدث يصبح من الممكن أن أقول إني فقدت أخًا آخر من إخوتي؟
قبل أن يتم حسين عامه الثاني والثمانين، اجتمعتْ عليه بعض العلل الجسمانية أودت به بعد أن قضى نحو شهر ونصف شهر في غرفة العناية المركزة بأحد مستشفيات القاهرة. كنت أزوره كل يوم تقريبًا، فإذا رآني ابتسم ابتسامة شاحبة، فأعرف أنه سُر بمجيئي، فإذا جلست إلى جانبه، أطبق بيده بقوة على يدي طوال الجلسة، وكأنه يخاف أن أذهب، وقبض بيده الأخرى على يد زوجته التي تجلس في الناحية الأخرى من السرير، وكان يقرِّب يدها من فمه، بين حين وآخر، ليُقبلها.
بوفاته فقدت آخر أشقائي السبعة، وكنت في السنوات الأخيرة، حتى وهو في تلك الحالة الذهنية المحزنة، أتمسك به كما يتمسك الغريق بآخر طوق للنجاة يمكن أن يتعلق به. فلما انتُزع هذا الطوق مني كان حزني عليه أشد من حزني على أي من أشقائي الآخرين.
***
كنت في زياراتي الكثيرة لإنجلترا، كلما وجدت مسرحية لـ«تشيكوف» تمثل على المسرح، ذهبت لرؤيتها، مهما كان عدد مرات مشاهدتي لها من قبل، وكنت أحب على الأخص مسرحية «بستان الكرز». كانت تنتهي بنهاية محزنة، ولكن الحزن عند «تشيكوف» يختلط دائمًا بما يثير السخرية أو حتى الضحك.
قصة «بستان الكرز»، كما يعرف كثيرون، هي قصة امرأة ثرية ورثت بيتًا جميلًا يحيط به بستان رائع هو بستان الكرز. والبيت والبستان يحملان لها ولابنتها وشقيقها ذكريات عزيزة، لطول عهدهم بالعيش في هذا البيت، فلم يكن أي منهم يتصور فَقْد البيت أو البستان بأي صورة من الصور. كانت الأم والبنت قد عادتا لتوِّهما إلى موسكو بعد غياب طويل في فرنسا، فراحت كل منهما تتأمل البيت وأثاثه قطعة بقطعة، وتتذكر كل ما ارتبطت به كل قطعة منه من ذكريات عزيزة. وكذلك كان لقاؤهما بالخادم العجوز الذي خدمهما طوال العمر، وها هو الآن يستقبلهما متوكئًا على عصاه، وقد شاخ وهرم، فتقول له الأم بعطف إنها سعيدة بأن تجده لا زال على قيد الحياة!
يُظهر الخادم العجوز عواطفه القوية نحو أفراد الأسرة، ويظهر من سلوكه إزاءهم أنه اعتاد، كما اعتادوا هم منه، أن يحنو عليهم مثلما كان وهم أطفال، فيُصر على أن يرتدي شقيق صاحب البيت المعطف توقيًا للبرد، رغم أن هذا الشقيق قد جاوز الستين من العمر.
عندما تجد الأم أنه لا مفر من بيع البيت والبستان، بسبب ما هم فيه من ضائقة مالية لا مخرج منها، وتقرر أن تعود هي وابنتها إلى فرنسا، نراها وهي تودع كل جزء من البيت قبل أن تتركه، بنفس العواطف القوية التي أبدتها عند قدومها بعد غياب طويل. يرى المشاهدون كل أفراد الأسرة وهم يخرجون من البيت، واحدًا بعد الآخر، ونسمع صوت إغلاق الباب، ويصبح البيت خاليًا تمامًا. وتخفت الأضواء فنظن أن المسرحية ستنتهي على هذا النحو. ولكننا نسمع صوت أقدام في داخل البيت، ونتبين أنهم نسوا الخادم العجوز نائمًا في الداخل، ولم يسألوا عنه لتوديعه قبل ذهابهم، بل وأغلقوا الباب من الخارج بافتراض أن البيت خالٍ تمامًا. يظهر الخادم متوكئًا على عصاه، ويكتشف ذهابهم جميعًا، ويقول ما معناه أنهم نسوه، ثم يرقد على الأرض ليستريح، ونفهم أن هذه هي نهايته أيضًا.
كان قد وُزع علينا قبل بدء المسرحية كتيب صغير يحتوي على نبذات عن المسرحية، وظروف كتابتها، وعن كاتبها نفسه. ولفت نظري ما ذكره هذا الكتيب من أن «تشيكوف» كان يتبادل النِّكات والضحكات مع زوجته، وهو على فراش الموت (ولم يكن عمره قد تجاوز 44 عامًا عند وفاته). لم يذكر الكتيب ما الذي كان يضحكهما بالضبط، وهو في هذه الحالة، ولكن على ضوء ما أعرفه عن شخصية «تشيكوف» وحياته، لم أستغرب أن يكون هذا حاله قبيل وفاته مباشرة، أو أن تكون هذه هي طريقة استقباله للموت.
عندما سألت نفسي عن التفسير المحتمل لهذا الموقف من جانب رجل كـ«تشيكوف»، خطر لي أنه ربما كان هو الموقف إزاء الموت الذي نتوقعه من شخص حكيم مثله. وقد تذكرت أيضًا بهذه المناسبة ما كان يكتبه نجيب محفوظ عن الموت؛ لقد كان محفوظ أيضًا، فيما أعرف، رجلًا حكيمًا. ولا أشك في أن هذا كان أيضًا موقف الشاعر الهندي «طاغور»، ولنفس السبب.
قلت لنفسي: هل يمكن إذن أن نقول إن الشخص الذي عرف كيف يعيش بحكمة، يكون هذا هو موقفه عند اقتراب الموت؟ أو بعبارة أخرى، إن تعامل المرء مع الموت يكون على نفس الدرجة من الحكمة التي أبداها في تعامله مع الحياة؟ فإذا كان التعاطف (الحقيقي لا المصطنع) مع الناس، والزهد في تحصيل المال أو الشهرة، وكراهية التسلط، والبعد عن الحسد والغيرة، إلخ، هي الصفات التي نعتبرها من مكوِّنات الحياة السعيدة، أو من شروط الرضا بالحياة، فهل هذه هي الصفات نفسها التي تؤهل المرء لتقبُّل الموت بصدر رحب وبلا خوف؟

No comments:

Post a Comment