29 September 2015

محمد المنسي قنديل: شخصيات حية من الأغاني


محمد المنسي قنديل

شخصيات حية من الأغاني


فضل العبدية
الحب صفقة خاسرة

إذا أردت أن تبيع نفسك، فليكن الثمن غاليًا، كانت «فضل» تحلم، قطرة من العطر باغتتها الشمس فتبددت، رفعت الستر، فرأت الخليفة، وإخوتها الخمسة، وسعيدًا بن حميد، والنخَّاس الذي اشتراها، وعصافير بغداد ميتة على الأرصفة، وكان عليها أن تعقد الصفقة، وأن تدفع الثمن أيضًا، لحظتها قال لها الخليفة:
- أليس لك مطلب آخر؟
أومأت برأسها، واصل السؤال:
- وبعد ذلك؟
ترددت قليلًا، غاصت الكلمات في حلقها كنصل سكين، ثم قالت:
- أُسلِّم لك جسدي وروحي، دون قيد أو شرط.
«فضل العبدية» ما زالت تحلم، والخناجر تسابق حلمها، عندما لم تكن «عبدية»، وكان إخوتها الخمسة يعبرون بها الصحراء، رحيل، واختطاف، وقمر جائع يأكل من الرمل، ونفس ممزقة، تنام الليل في القيد، وتصحو محاصرة بعيونهم العشر، وأظافرهم المتسخة تنغرس في لحمها، كل واحد منهم يشبه الآخر تمام الشبه، وهي لا تشبه أحدًا، كانت أمها تموت في خيمة منزوية، والنجوم تتساقط، وسألتها فضل:
- يا أمي، لماذا يكرهني إخوتي لهذه الدرجة؟!
قالت الأم:
- جئت إلى هنا وأنا جارية غريبة، أعتقني أبوكِ لحظة ولادتك، أما إخوتك هؤلاء من زوجة أخرى، حرة، لم تكف لحظة واحدة عن كراهيتي.
مع كل ذكرى، وكل لحظة، واجهتها هذه الكراهية، كانوا أكبر منها، وأكثر غلظة، وماتت أمها جوعًا فرفضوا أن يدفنوها بجوار زوجها، ورأت الأم الأخرى وسط أولادها الخمسة تهيل الرمل على القبر، وحين رأتها تبكي صاحت في سخرية:
- أترتدين ثوب الحداد وأنت بهذه الجدائل الطويلة؟
وهجم الإخوة الخمسة مثل قطيع من الذئاب، ألقوها على الأرض، جذُّوا جدائلها بخناجرهم، أطلقوا صيحات الانتصار وهم يسلمونها إلى أمهم التي تأملتها قليلًا، ثم ألقتها إلى القبر، وأهالت فوقها الرمال.
كانت في العاشرة من عمرها، بلا صدر، ولا جدائل، قالوا لها:
- سوف ترحلين معنا إلى الشمال.
وسمعت الأم وهي تؤكد عليهم آمرة:
- تخلصوا منها بأي ثمن.
ووقف رجال القبيلة، شهودًا صامتين، يؤكدون بصمتهم المصير الذي ينتظرها، عدا شيخ واحد أصم، دق الأرض بعصاه وهتف بهم:
- إلى أين تذهبون بالصَّبية اليتيمة؟
وارتبك الخمسة، وأسرعت الأم تأخذ الشيخ بعيدًا، تحكي له عن زوج مزعوم في قبيلة أخرى يطلبها للزواج، وظل الرجل يلح في السؤال، ورحل الأشقاء الخمسة والشقيقة الوحيدة، جوعًا وعطشًا، والشمس غصة، وبحار الملح بلا نهاية، كانت تبكي: «يا إخوتي، يا أشقائي»، ولم يجبها سوى الصدى. أنزلوها في أول بئر قابلتهم، وتركوها معلَّقة حتى كفت عن البكاء والتساؤل، وأخرجوها ليواصلوا السير الخشن، وكانت بغداد عالمًا حزينًا برغم ألوانه الزاهية، ساروا بها إلى الكَرْخ حيث يجلس حسنويه النخَّاس، عرضوها أمامه فسألهم بغتة:
- من أين جئتم بها؟
وكالعادة ارتبكوا، نظروا إلى بعضهم كأنما يبحثون عن الأم لترد بدلًا عنهم، ثم قال أكبرهم:
- إنها جاريتنا، مللناها وأردنا التخلص منها.
ونظر حسنويه إليها في تساؤل، لكنها صمتت، لماذا تنكر وتشكو؟ لماذا تعود معهم أصلًا؟ في الصحراء لا ينتظرها سوى الكراهية والملح والخناجر، قال حسنويه:
- عشرة دنانير.
همهموا في طمع:
- عبرنا كل هذه الصحراء من أجل عشرة دنانير!
كانت «فضل» متأكدة أنه لو عرض عليهم أقل من هذا لقبلوا، قال حسنويه:
- خمسة عشر دينارًا، لا تزيد دينارًا واحدًا.
كل واحد منهم أخذ ثلاثة دنانير، وعادوا يبكون إلى قبيلتهم بني القيس وهم يصيحون:
- أختنا أكلتها الذئاب، اختطفها الذئب منا.
وفردوا أمامهم ثوبها الملوث بالدم، الممزق بالأظافر، وصدق الجميع، حتى الشيخ الأصم، تذكروا قصة سيدنا يوسف، ولم يتذكر أحد أنها كانت قصة كاذبة.
نظر حسنويه إليها، اكتشف جمالها الذي لم ينضج، من هذه اللحظة فقدت كل أنسابها، أصبحت «فضل العبدية»، لم تنسَ شيئًا من عذاباتها، أيام الجوع، وليالي الخوف، والطرد، حتى موت أمها كمدًا، كانت تهذي بكل هذا، وتدفع الشعر من ينابيع هذه الآلام، كان حسنويه يشظفها مثل يهودي يعمل بالماس، ومرت السنوات فلم تمحُ جرحًا أو ندبة، تعلمت أكثر مما قدر لها، ورفضت نقاب الجواري، وجلست سافرة وسط شعراء بغداد، تستمع إليهم، وترد عليهم، تحفظ القصيدة من أول مرة، ثم ترتجل في التوِّ قصيدة على نسقها، وفرك حسنويه يديه، وهو يرى قيمتها تزداد كل يوم.
لكن الحب، ذلك الطائر الأبيض مقصوص الجناحين نقر جدار قلبها، ذات ليلة أقبل سعيد بن حميد إلى مجلسها، لفتت نظرها لأول وهلة حمرة الخجل التي علت وجهه عندما طلبوا منه أن يقول شعرًا، ثم قال أشعارًا حزينة عن الوحدة في شوارع بغداد، لا تدري لماذا لم تعارضه، لعل الشعر مس الجرح الذي جاهدت في إخفائه، وانتصف الليل، وأصبح القمر محاقًا، فسمعته يتمتم في صوت خافت: «هذا القمر، يتركنا، ويموت».
التفتت إليه في فزع، علت حمرة الخجل وجهه، بدأت تراقبه باهتمام، لحيته السوداء الصغيرة، وأنفه المفلطح بعض الشيء، هذه الكلمات الحمقاء التي تفوه بها، ماذا تعني؟ أخذت تسخر منه فجأة، تردد الأشعار الموحية، وتترصد له، وانطوى هو على نفسه، وضج المجلس بالضحكات، والجواري يزقزقن من خلف الستر، وحسنويه خلع عمامته، ونسي بخله التقليدي، وانفرطت كؤوس الشراب، وبالغت هي في قسوتها عليه، وظل القمر محاقًا.
لم يأتِ في الليلة الثانية، ولا الثالثة، وبحثت عنه، وأدهشها أنها تبحث، ومال تاجر أغنام على حسنويه يعرض فيها مبلغًا كبيرًا، لكنها رفضت، فرفض هو أيضًا، وتقدم أمير جيوش الخليفة، وكان قادمًا من بلاد الهند والسند بعد أن قتل عددًا لا يُحصى من الناس والأفيال، ورفضته أيضًا، وتطلعت في مرارة إلى المجلس الخالي إلا من أنصاف الرجال، وفي الليلة الرابعة رأته واقفًا وهي تقول شعرًا:
وهل لي نَصيبٌ في فُؤادِكِ ثابتٌ     كما لك عندي في الفُؤادِ نَصيبُ
كان حسنويه نائمًا على ظهره، وأمير الجيوش يلمع سيفه، واقترب ابن حميد منها، كان هناك قمر مشقوق، وسوسنة، وظبي وحيد، و«فضل» تسري في داخلها رعدة غامضة، قالت:
- أين أنت يا ابن حميد؟ لقد افتقدناك.
ثم صمتت، حاول أن يبتسم، ابتسامته الخجلى، قال بعد تردد:
- ربما، لأنني أحبك أكثر.
لحظة وجيزة كخطف البرق، وأفاق السكارى، واعتدل حسنويه وقال:
- هي جاريتي، حتى الحب، له ثمنه المناسب.
انعقد المزاد فجأة على غير توقُّع، التفت إليه ابن حميد، وسأله:
- كم تريد فيها؟
هتف حسنويه:
- عشرة آلاف دينار.
وتمنت «فضل» لو أنه عرض ثمنًا أقل، وقال ابن حميد:
- قد قبلت.
 وأضاف حسنويه:
- أمامك ثلاثة أيام، وإلا سوف يتضاعف المبلغ.
وخيَّم الصمت، ونهضت «فضل»، أغلقت باب حجرتها، كانت مسرورة، اكتشفت في هذه اللحظة ماذا يعني اسمها، «فضل العبدية»، لا نسب، ولا رأي، ولا مصير. وحين أقبل حسنويه صرخت فيه:
- لماذا فعلت ذلك؟!
قال في صفاقة:
- ومن قال إن العشق بلا ثمن؟!
أصبح للنجوم لون الملح، ووقف ابن حميد أمامها فقيرًا، فقر كل شعراء العالم، بسيطًا وصريحًا مثلهم، لكن حسنويه كان على حق، الحب كالأحلام باهظ الثمن، كم مرة تضاعفت هذه الخمسة عشر دينارًا الحقيرة منذ أن أصبحت «فضل» عبدية؟ لم يحضر ابن حميد في الأيام التالية، بغداد ثقب إبرة، كل دينار ينفذ منها يحتاج إلى معجزة، وإلى تلال من القصائد، مدح أمير الجيوش، وشهبندر التجار، والوزراء، وتجار الحروب، ولصوص القوافل، استوهب ثمن عشقه من كل المتخمين، وتحول الشعر إلى أثمال بالية، ونامت «فضل» تحت شمس الصحراء، ومد الإخوة أصابعهم ونزعوا قلبها، القوة في قبر الدم، وهتف حسنويه:
- وهل حسبت أني أبيعك إلى شاعر مفلس؟
لكن هذا العاشق الشاعر المفلس جاء في اليوم الخامس، وضع أمامه عشرة أكياس من الدنانير، وترقب «فضل» كعصفورة، واشرأبت بغداد كلها، وضحك حسنويه في سخرية:
- هذا هو اليوم الخامس، وهذا فقط نصف المبلغ، أمامك ثلاثة أيام أخرى.
وعاد ابن حميد يلهث وحيدًا، وعادت «فضل» إلى حجرتها فاكتشفت أن حسنويه قد وضع حرسًا على كل منافذ البيت، وكانت تحلم بابن حميد، يرشق الزهر في مفرق شعرها، وعلى وجهها وصدرها، يغطي جسدها كله بورق الزهر، حتى إذا نهضت تناثر حولها كالفراشات الملونة، ومدح ابن حميد الوزراء، والقادة، والسماسرة، ولم يعطوه شيئًا، ظلوا يلحون عليه أن يقص عليهم قصة غرامه الأبله، واستمع الخليفة إليه ضاحكًا، طلب منه أن يسمع أشعاره أولًا، فوضع ابن حميد قلبه بين يديه، تلوى مثل شهاب يحترق، وفجَّر في الكلمات كل الأمنيات المرتعدة، وأشار الخليفة إلى صاحب بيت المال أن يهبه عشرة آلاف دينار، ومرة أخرى حمل ابن حميد المال، واصطفت الأكياس تحت أقدام حسنويه، فهتفت به:
- ما أضعف إحساسك بالزمن، لقد تبددت المهلة الثانية كسحب الصيف!
كان الحرس متيقظين، حين حاولت الهرب قبضوا عليها، وضحكت بغداد في خشونة، ونصحه أصدقاؤه، بهذا المال تستطيع شراء جيش من الجواري الروميات والحبشيات، لكنه يريد «فضل» ولا شيء سواها، وكان أبلهَ لدرجة كافية فذهب إلى الخليفة، وقف بين يديه يحكي عن حبه الذي تقتله أطماع حسنويه، فسأله:
- أي شيء تُشبه «فضل»، هذه التي أصابتك؟
قال ابن حميد:
- تشبه حلمًا غامضًا، وتشبه كل لحظات العذاب والشوق، وتشبه قطر الندى.
 ووعد الخليفة وعدًا غامضًا، وفوجئ حسنويه بموكب الخليفة يدق بابه، وشعر بالراحة حين لم يجد ابن حميد في ركابه، وقال الخليفة في لهجة محددة:
- أخرج لنا «فضل» لنرى حاجة ابن حميد.
وأسرع يضع على وجهها اللمسات الأخيرة، وفكر: هذا الخليفة المجنون يريد أن يعطي هذه الدرة لشاعر مفلس؟! وعندما أقبلت «فضل» فوجئ الخليفة بذلك التألق الذي يشع منها، وازدادت تألقًا وهي تقول أشعارها الحزينة، كانت تحاول أن تستميل الخليفة، عله يرفع إصبعه الذي فيه شارة الحكم ويأمر بأن يتوقف هذا اللهاث، لكنه قال:
- أما سعيد بن حميد فسوف يكون عاملي على خراسان، وأما «فضل» فستكون زينة قصري.
وشهقت «فضل»، وقفز حسنويه فرحًا، وغارت الأقمار الملونة، لقد حققت الخمسة عشر دينارًا أقصى استثمار لها.
لا أحد يعرف أين ذهب ابن حميد، قالوا إلى خراسان، وقالوا بل طفت جثته فوق دجلة، وقالوا إنه في زنزانة مفردة في سجن «التنور»، لكن الشيء المؤكد أن «فضل» سيقت إلى قصر الخلافة، ورأت شقائق النعمان تملأ الحديقة كأنها جروح نازفة، وتطلعت إليها الجواري في حسد، كن جميعًا أجسادًا جميلة، وحناجر قوية، وأنوثة لا تقاوم، لكن «فضل» كانت عقلًا فريدًا، شاعرة حقيقية، وعاشقة بلا أمل، هتفوا بها:
- أسمعينا أشعارًا يا «فضل».
زاد شعورها بالغربة، للحرير ملمس الشوك، وللشراب طعم العلقم، ظلت صامتة أمام الخليفة، قادها إلى غرفته فكانت المعركة خاسرة، رفضته، ورفضت عرش الخلافة، ولو شاءت لصعدت وحكمت وأمرت بما تريد، كانت قد خُدعت، استولى عليها بغتة، فليحدث ما يحدث لابن حميد، ليقبل الولاية، أو يشتري جيشًا من الجواري، لكنها لن تُسلِّم نفسها، مهما هددها الخليفة، أو وضع اللآلئ تحت قدميها، مهما ازدادت درجة جنونه وولهه بها سوف تبقى نائية، لعلها تحصل على سلامها الداخلي.
ويئس الخليفة منها فأعطاها للحرس، وقادها الحرس للسجن، وضعها السجان في قبو مظلم، وتداخل الليل والنهار والرطوبة وقرض الفئران ولدغات البراغيث، وألقوها على ظهرها وجذوا جدائلها الطويلة للمرة الثانية، ولم تكن تملك سوى أن تحلم، بسبع شموس ملونة، وبسبع زهرات من شقائق النعمان، وبسبعة آباء وأجداد تنتسب إليهم، ولم تحلم بابن حميد.
وظل الخليفة يتوقع أن تلين قليلًا، وعندما خشي أن تموت داخل السجن أمر غلمانه فأخرجوها وأعادوها إلى القصر دون مطلب محدد، وأشركها في مجالس الشعراء والمغنين لعل شيئًا من مرح العالم يتسلل إليها، وهكذا، قُدِّر لها أن تراهم مرة أخرى.
الإخوة الخمسة، لم تتغير ملامحهم برغم كل هذه السنين، كما تطاردها في الكوابيس، كانوا أمام الخليفة، وأجسادهم العملاقة بدا عليها هزال غريب، ارتعدت، تخيلت أصابعهم وهي تمتد إليها وتعيدها إلى صحراء الكراهية، لتبيعها مرة أخرى، إلى نخاس آخر، وكان أكبرهم يتكلم:
- رحماك يا مولاي، خمس سنوات من الجدب والمجاعة، بلاد اليمامة قفر وكلنا في عوز وحاجة!
هيئتهم مثل كلماتهم رثة، حيوانات زاحفة تبحث عن شيء تلعقه، كانت بغداد كلها مليئة بأفواج القبائل الرثة الجائعة بعد أن لفظتهم الصحراء القاحلة، قال الخليفة:
- إذا كان الغد، تعالوا إلى مجلسي.
قبَّلوا الأرض تحت قدميه وارتدوا، و«فضل» لا تكف عن الارتعاد، نهضت، ثم سارت إلى جناح الخليفة، لقد جاءت لحظتها أخيرًا، وحين توجَّه هو إلى جناحه وجدها في أتم زينة، وعطرها حار كنداء الرغبة، ورق صوتها للمرة الأولى:
- أسعد الله يومك يا مولاي.
تطلع إليها في دهشة، ثم تساءل:
- ماذا حدث للظبية النافرة؟
ضحكت بصوت رائق وقالت:
- فلنقل إنها مَلَّت المطاردة.
قال الخليفة:
- قول غير مقنع!
ساد الصمت، وكل منهما يتحسس الطريق إلى الآخر، فتحت قنينة العطر ونثرت قطرة على وجهها وقطرة على لحيته، ثم قالت:
- وهل يقتنع مولاي إذا قلت إنني أريد أن أعقد صفقة بيننا؟
وصمت الخليفة، تلوى جسدها داخل ثيابها الشفافة، اقتربت بوجهها من وجهه وهمست:
- هؤلاء الخمسة من بلاد اليمامة، هم قُطاع الطرق الذين اختطفوني وباعوني إلى حسنويه، وأنا أطالبك بعقابهم.
ضحك بصوت جاف، ابتعد برأسه لعله يبتعد عن تأثير أنفاسها، قال:
- ذلك أمر مضى، لا دليل عليه ولا بينة.
قالت فضل:
- الدليل هو أنا، والبينة هي كلماتي، والجرح لا يندمل مهما مضى عليه!
تردد الخليفة:
- إنهم رجال من بني القيس، أنسابهم معروفة، وعاملي على اليمامة يعرفهم.
قالت في صوت خافت مبحوح:
- هذه صفقتي يا مولاي، دعهم يأخذون عقابهم في التنور، وانسَ أمرهم قليلًا، أكون لك، دون قيد أو شرط.
همهم الخليفة:
- دون قيد أو شرط؟
ثم هتف وهو ينهض مبتعدًا:
- كلا، ليس دون بينة، أو قاضٍ.
وتركت فراشه صامتة، تركت خلفها العطر والرغبة المحمومة في نفس الخليفة، وجاء المساء وقد غلفها الصمت البارد، ورمقها، فأدرك أنها لن تأبه به مرة أخرى، وفي الصباح جاء إليها غلامه وهو يقول:
- يطلب منك مولاي أن تحضري مجلسه.
توجهت إلى القاعة، رأت الإخوة الخمسة واقفين، كانت سافرة كعادتها، وتأملوها لبرهة ثم أحنوا رؤوسهم، هل تعرفوا عليها؟ سألهم الخليفة في غلظة:
- اذكروا أنسابكم.
أدهشهم السؤال المفاجئ، ثم ذكر كل واحد نسبه، هي الوحيدة التي نزعوا نسبها، وحولوها إلى سلعة رخيصة، وصرخ الخليفة:
- أنساب كاذبة، منتحلة، أنتم حفنة من قُطاع الطرق!
برقت عينا «فضل» في انتصار، دارت عيونهم في فزع، حطت عليها لبرهة وجيزة، هتفوا:
- ولكن يا مولاي، قومنا والجفاف!
وصرخ الخليفة:
- يا حُراس، خذوهم إلى التنور، لا أريد أن أسمع عنهم شيئًا بعد الآن!
وأحاط الحرس بهم، بأسمالهم ومخالبهم وكوابيسهم، نظروا مرة أخرى، لعلهم كانوا يتساءلون عن هذه النظرة المنتشية على وجهها، اقتادوهم وهم يتأوهون كالحيوانات، يحاولون الدفاع عن أنفسهم بكلمات متقطعة، وأصبحت القاعة خالية فجأة، كانت «فضل» ما زالت تحلم، والخناجر تسبق حلمها: «تمت الصفقة يا مولاي، وعليَّ أن أدفع الثمن، والصفقة على أي حال خاسرة، خاسرة حتى الموت!».

No comments:

Post a Comment