18 January 2016

رشا زيدان: روح



رشا زيدان

روح


مرت الأيام تلو الأيام ولم تتصل روح... لم ترد رشا أن تكون هي من يتصل... فقد كان تبادل أرقام الهواتف شبه مشروط بالاتصال للدعوة لحضور الحفلات سوياً... وفيما يبدو إنه لم تكن هناك أي حفلات في الأيام الماضية... كيف تقحم نفسها على شخصية هي لا تعرفها حتى إن كانت منجذبة لها كل هذا الانجذاب؟

ولكن أخيراً رن هاتفها المحمول وظهر اسم روح على الشاشة... التقطت الهاتف سريعاً وردت على المكالمة التي طال انتظارها...

روح: رشا إزيك أنا روح.
رشا: أهلًا روح إزيك إنتي.
روح: أنا حلوة الحمد لله... وحشتيني.
رشا: إنتي كمان وحشتيني أوي.
روح: طب ماكلمتنيش ليه لما أنا وحشتك؟
تفاجأت رشا بالرد وصمتت برهه... ثم قالت: عندك حق... بس أنا قلت يمكن إنتي مشغولة ولا حاجة...
روح: وحتى لو مشغولة يا ستي أفضالك... هو مش الاصحاب ليهم حق على بعض؟
تفاجأت ثإنيةً بردها وحدثت نفسها: "أصحاب"؟ إيه الجمال ده؟ أصحاب من ساعتين قعدنا فيهم جنب بعض وما اتكلمناش كمان؟
رشا: طبعاً أصحاب.
روح: قوليلي إنتي فاضية دلوقتي نشرب قهوة مع بعض؟
تفاجأت ثالثاً... ولكنها ردت سريعاً: طبعاً. فين؟

أنهت المكالمة وأسرعت ترتدي ملابسها متلهفة لرؤية روح...

وصلت رشا لذلك المقهى المطل على النيل بالزمالك فوجدت روح قد وصلت قبلها وتجلس في تلك البقعة البعيدة والشمس مسلطة عليها وكأنها كشافات مسرح تلقي بإضاءتها القوية على نجوم العرض لتبرز حضورهم وتشد انتباه الحاضرين لهم... وقفت لحظة تتأملها قبل أن تلحظ روح وصولها... كانت تشعر أن السماء تعلن أن هذه الروح ليست من العامة... إنها شيء مختلف... مضت رشا إليها ومدت يدها مصافحة روح فقابلتها روح بأذرع مفتوحة وابتسامة رقيقة وضمتها إليها وكأنها تريد أن تقول لها أن السلام بالأيدي للأرواح الغريبة التي لم تلتقي من قبل ونحن لسنا غرباء... ربما ليس في هذا الزمن ولكننا تقابلنا سوياً واجتمعنا من قبل...

جلستا سوياً تحت أشعة الشمس التي تسلطت عليهما معاً وعكست إحساس كل منهما تجاه الآخر وكأن كل منهما تحمل مرآة توجهها باتجاه أشعة الشمس لتعكس ذلك الاتصال الروحي القوي بينهما في صورة نور معلناً عن وجود شيء مختلف في هذه البقعة من الأرض في هذا الوقت بالذات... لافتاً انتباه الناظر إليه بقوة... ليعلم الملأ أن هاتين الروحين تربطهما علاقة قوية ببعضهما البعض.

روح: إيه ده؟ أخيراً شفتك... أنا من يوم التنورة بدور على يوم رايق علشان أشوفك ونقعد ونتكلم بس ربنا ما أذنش غير النهارده...
رشا مستغربة هذا الفيض من المشاعر ومبتسمة: الحمد لله... أنا كمان كان نفسي أشوفك أوي.
روح: كل حاجة بميعاد، مش كده؟ اللقا نصيب... وإحنا نصيبنا نتقابل يوم التنورة لكن نقعد ونتكلم النهارده...
رشا: الله... كلامك حلو قوي يا روح... فيه شبه منك...
روح مبتسمة: شبه مني إزاي؟
رشا: مش عارفة بس إنتي كلك على بعضك مختلفة... في الأول كنت فاكرة إن شكلك ولبسك وحتى اسمك بس هما إللي مختلفين بس دلوقتي اكتشفت إنك كلك على بعضك مختلفة.
روح: أنا ماكنتش كده خالص... إنتي لو كنتي شفتيني من خمس سنين بس كنتي ماتصدقيش أن أنا نفس الشخص.
رشا: معقول للدرجة دي؟
روح: واكتر... أنا اتغيرت تماماً... مش من بره بس، لأ أنا كل حاجة فيه اتغيرت وبقيت مخلوق تاني... لما بفكر أنا كنت إزاي وبقيت إزاي بقول: يا سلااااااام، قد كده إنت بتحبني يا رب؟ أصل ربنا ده جميل أوي... حتى أكتر مما عقولنا ممكن تتصور ولا تحط لجماله حدود أو خط... ده هو إللي خلق الورد والقمر والبحر أبو شط... وهو إللي ملون ريش الطاووس بألوان مالهاش وصف ولا حد... يبقى جماله هو شكله إيه؟ أكيد لا بيتقاس ولا بيتعد...
رشا: إيه ده يا روح إنتي إزاي بتتكلمي كده من غير ما تقري من ورقة؟ ماشاء الله عليكي... كلامك طالع كله جميل وموزون كأنه شعر.
روح مبتسمة: ده مش كلامي... مش بقولك جماله لا بيتقاس ولا بيتعد؟
رشا: بجد أنا أول مرة أشوف حد بيرتجل وهو قاعد كده عادي... إنتي فنانة مش كده؟
روح مبتسمة: فنانة إزاي؟
رشا: فنانة زي براء... بتغني يعني؟
روح: لا خالص.
رشا: يبقى أكيد كنتي عايشة بره مصر أو فيكي نص خواجاتي... ما هو أصل التركيبة دي ماتجيش غير من كده.
روح ضاحكة: أبداً... أنا مصرية مية في المية وعمري ما عشت بره مصر خالص وأهلي مصريين حتى النخاع... مش بس كده... أنا كمان متعلمة في مدارس عربي واتخرجت من جامعة القاهرة... يعني مافيش أي شبهة خواجاتي في الموضوع خالص.
رشا: طب يا تلحقيني يا ماتلحقينيش لأن أنا الفضول بياكل فيَّ حالياً وهاموت وأعرف إيه إللي حصل لك وغيَّرك كده زي ما بتقولي؟
روح: كل حاجة بوقتها يا رشا... هاعرفك حكايتي وإيه إللي غيرني بس دي قصة طويلة ومحتاجة تحضيرات كتير قبلها.
تحضيرات إيه! وإذا لم تكن روح ترغب بالبوح لها بقصتها فلماذا إذاً أخبرتها أن هناك قصة من الأصل؟ أنبت رشا نفسها على اقتحامها خصوصية روح وسؤالها عن قصة تغيرها... لا عجب أن روح لم تخبرها بتفاصيل القصة... فمن يريد أن يحكي عن حياته لشخص متطفل يقحم نفسه في أول لقاء على حياة الآخرين ويسأل أسئلة عن حياتهم الخاصة بدون وجه حق؟ هي نفسها قد تتراجع ولا تفصح عن تفاصيل حياتها الخاصة لشخص بهذه المواصفات حتى وإن كانت تشعر تجاهه بالارتياح الذي شعرت به تجاه روح.
حاولت رشا تدارك الموقف: إنتي بتشتغلي إيه يا روح؟
روح: أنا بشتغل عند نفسي حاجات كتير أوي... تقدري تقولي مصورة فوتوغرافية شوية... رسامة أوقات... شاعرة لو أمكن... ولسه الله أعلم في إيه تإني.
رشا: أصدق طبعاً... مش قلتلك فنانة؟ بس كل الحاجات دي بتشتغليها مع بعض؟ إزاي؟
روح: دي بقى أحلى حاجة في الموضوع... أنا قعدت سنين أشتغل مصممة في شركات دعاية كتير بس ما قدرتش أكمل... حكاية إني كل يوم الصبح أروح أقعد على مكتب وأصمم حاجات مطلوبة مني كان إحساس بيخنقني... وكل ما أتخنق أمشي واسيب الشركة وأروح أتعلَّم حاجة جديدة... مرة أتعلمت تصوير فوتوغرافي ... ومرة درست تاريخ إسلامي... ومرة طقت في راسي أتعلم لغة عربية... ما هو إزاي أبقى مسلمة وما أعرفش لغة عربية مظبوط... كل مرة كنت بدرس فيها حاجة كنت بحس إني طايرة فوق في السما جنب العصافير واليمام... وكل ما أحس إني بعلى لفوق كنت أرفرف أكتر بجناحاتي يمكن أعلى زيادة وألمس السحاب في يوم من الأيام... إنتي عارفة السحاب ده عامل زي إيه؟ عامل زي غزل البنات... في حد ما يحبش غزل البنات؟
رشا: يا سيدي!
روح: آه والنبي زي ما بوصف لك بالظبط... هو ده إللي كان بيحصل معايا... لغاية ما قعدت مع نفسي مرة وقلت: طب يعني هو إنتي غاوية خنقة؟ ما تعملي إللي بيبسطك وعيشي مبسوطة على طول... بلا شركات بلا وظيفة بلا وجع قلب... اعملي إللي إنتي بتحبيه وبس... وأديني أهوه بعمل كده... أرسم أي حاجة تعجبني... أخد بعضي وأطلع أسوان ولا سيوة ولا أتمشى في شارع المعز أصور الوشوش والشوارع والجوامع القديمة أو أي حاجة تعجب عيني... ينور في دماغي كلمتين أكتبهم، ألاقيهم في الآخر عملوا بيتين شعر حلوين أتبسط بيهم... في أحلى من كده عيشة؟
رشا: معقول بالبساطة دي؟
روح: هي أصلاً بسيطة واحنا إللي بنعقدها.
رشا: أيوة بس الشغل في الشركات بيعمل نوع من الأمان المعنوي والاستقرار النفسي... ده غير الأمان المادي طبعاً.
روح: بالنسبة لي ماكنش بيعملي أي استقرار نفسي. بالعكس كان بيتعبني زيادة وكان عامل زي الحمل إللي طابق على صدري... لكن الأمان المادي كان الحاجة الوحيدة إللي عطلت قراري وأخرت اعتزالي الوظيفة... كل ما كنت أتخنق أقول لروحي: طب هاتعيشي إزاي يا روح؟ هاتصرفي منين؟ بالذات إن في مجالنا التجربة والبعد بتبقى مغامرة... المصممين لما بيبعدوا عن المجال بتاعهم حتى لو شوية صغيرين ده بيدي فرصة للولاد المصممين الجداد يدخلوا ويثبتوا نفسهم لأنهم طبعاً بيبقوا زي العيش الصابح... أحلى وأطعم... كلهم طاقة وأفكار جديدة وإبداع...
رشا: فعلاً مشكلة... طب اتغلبتي عليها إزاي؟
روح: ما اتغلبتش... في وسط حكايتي إللي هاحكيهالك في يوم من الأيام... وبعد ما إبتدت حاجات كتير تتغير فيَّ واحدة واحدة من غير ما أحس... لقيتني بقول لروحي: إيه ده؟ هو إنتي وحشة أوي كده يا روح من جوه؟ فيها إيه لما الولاد الجداد يطلعوا وياخدوا فرصتهم وياخدوا مكانك كمان؟ هو أصلاً مكانك؟ هو مش مكان حد... هو مكان فاضي بييجي حد يشغله شوية. ياخد منه ويدي له وبعدين يمشي وييجي غيره... عايزة تفضلي ماسكة في حاجة مش بتاعتك من الأصل؟ لا وكمان مش حاباها ولا مبسوطة فيها... لقيت نفسي بسيب الشغل وأنا مرتاحة على الآخر... لا وكمان نفسي أدور على كل المصممين المتخرجين جداد وأساعدهم يلاقوا شغل وأرشحهم لأصحاب الشركات إللي أعرفها...
رشا: الله يا روح... إنتي بجد زي ما بيتقال حلوة من بره وجوه... مافيش ناس كتير ممكن تفكر بالطريقة دي... إزاي عرفتي توصلي للإحساس ده؟ إحنا كلنا في الدنيا بنبقى ماسكين ومكلبشين في حاجات وهي زي ما إنتي بتقولي كده مش بتاعتنا... لكن بنفضل ماسكين ومتبتين كمان علشان شوية أسباب معلقانا بيها... بس أقولك حاجة؟ متهيئ لي إنتي يمكن كان عندك دخل تاني خلاكي تحسي بنوع من الاستقرار المادي فشجعك على قرارك...
روح مبتسمة: خالص... ولا دخل تاني ولا أي نوع من الاستقرار المادي... مش بقولك دي كانت من أكتر المعوقات إللي واقفة في وشي... بس وحياتك ربك لما يريد الصعب بيتهون على رأي منير...
رشا: إنتي بتحبي محمد منير زيي؟ ده أنا بموت فيه.
روح: أنا عارفة إنك بتحبيه... أنا بحبه زيك بالظبط.
استغربت رشا رد روح. عارفة منين؟ ولكن تعطشها لإكمال الحديث لم يجعلها تتوقف كثيراً عند هذا السؤال فقالت: قصدي إنك ما كنش عندك دخل تاني تعيشي منه.
روح: كل إللي كان معايا قرشين في البنك كانوا فاضلين من شغلي مايكفونيش ست شهور على بعض بأسلوب حياتي إللي أنا كنت عايشاه.
رشا: طب عملتي إيه؟ ده إنتي جريئة أوي إنك تغامري بنفسك كده!
روح: بالعكس أنا ما غامرتش خالص... أنا سلمت روحي للي خالقها... تعيش زي ما هو خالقها مش زي ما الناس عايزاها تعيش... مش هو إللي خالقها؟ يبقى لازم هايهديها ويوريها طريقها فين ومنين...
رشا: سبحان الله
روح: أول ما ابتديت أفكر بالشكل ده لقيت حاجات كتير فيَّ بتتغير، الحاجات دي فرقت في ميزانية مصاريفي بنسبة مش قليلة... لقيت نفسي ببطل سجاير ومن غير أي معاناة... بقيت متضايقة من اللبس بتاعي وحاسة إني عايزة ألبس حاجة تريحني أكتر ما تكون ماركة وغالية وتعجب الناس... حتى الأكل... مابقتش نفسي تهفني على حاجة خالص... وأشبع من أي حاجة والسلام... ومش بس كده لأ ومبسوطة كمان... فعرفت إن ربي عايزني كده... بصيت لنفسي لقيته حررني من كل الشهوات دي في وقت قصير أوي ومن غير ما أطلب منه حتى... حررني من غير ما أتعب ولا أحس ولا حتى أعرف إني بتحرر منها... في قديسين ورهبان بيهجروا حياة المدن وبيروحوا يعيشوا في الصحرا علشان يحرروا روحهم من شهوات الدنيا دي كلها، وبيتعبوا وبيعانوا وبيطلبوا العون من الله... منهم إللي بيقدر ومنهم إللي مابيقدرش... أنا بقى قدرت من غير ما أبعد ولا أعاني ولا حتى أطلب منه المساعدة... هو لوحده وهبهالي الوهاب... حرر روحي من غير ما أعرف أنها كانت مسجونة... ولما خرجت بره سجني قلت: مش ممكن أدخله تإني! اتنفست بجد مش علشان أخد أوكسجين أعيش بيه... اتنفست علشان أشم ريحة هوا ربي في الكون... اتنفست وشميت بجد ريحة الحرية... ما أهو أصل الحرية لها ريحة بجد مش بس كلام... هواها يدخل جواكي تحسي في صدرك وكأنك بالعة عُشرُميت باكو نعناع... حاجة كده بتفتح كل الحاجات المقفلة بالترابيس والبيبان... تفتحها وتسيبها مفتوحة زي بلكونة بحري على الكورنيش ساعة العصاري في اسكندرية في عز الصيف.

صمتت رشا منبهرة... نعم صمت منبهر جمالاً ومُخترق حِساً... وجدت دموعها تسيل وهي مبتسمة... كلام روح لم يكن كلام عادي... لم يكن دائماً شعر موزون بقافية أو حتى بلغة عربية فصحى طوال الوقت ولكنه كان مؤثرا... كان يشبهها كثيراً. مزيج من العامية الجميلة مع الفصحى البسيطة مغلف بمسحة روحانية واضحة... لم تعرف توصيفه في دنيا الشعراء والكتاب... إذا كان زجل أو نثر أو سجع أو أي مسمى آخر... ولكنه كلام يدخل القلوب دون استئذان... نعم إنها لغة القلوب... تصدر من قلب وتتوجه لقلب... لا تمر على محطة العقول ولا تخضع لتقييم... التقييم الوحيد لها هو الدموع التي تسيل معلنة عن لمس المعنى لآخر بقعة في القلب... ومع تمام اللمس للقلب كله تخرج الدموع حباً وإعجاباً وتأثراً... تأثرت رشا بكل كلمة قالتها روح... إنها قاعدة حياتية للتحرر من قيود مجتمعية واهية... تقيد البشر في أماكن وفترات زمنية طويلة... تعساء... حزانى... ملهيين... لا يشغلهم سوى كيفية الإبقاء على تلك الأماكن أطول وقت ممكن حتى وان كانت ليست مصدر سعادة لهم... لماذا؟ لأنهم لم يتغلبوا على شهوات الدنيا الزائلة... شهوات الملبس والمأكل والسلطة والمال... شهوات مزيفة باهظة الثمن تلهيهم عن أن لكل منها بديل أقل ثمناً ولكنه أكثر إسعادًا.

شربت رشا قهوتها التي امتزجت بطعم جديد في هذا اليوم... طعم مختلف للحب... حب لا يربط بين رجل وامرأة كما تعود المجتمع في قصر كلمة حب على العلاقات بين الذكر والأنثى فقط... ولكنه حب ربط رشا بروح... أو بمعنى آخر حب ربط روح بروح.   

No comments:

Post a Comment