05 October 2016

نتاليا جينزبورج: أصوات المساء



نتاليا جينزبورج

أصوات المساء

ترجمتها عن الإيطالية
أماني فوزي حبشي




نتقابل أنا و«تومازينو» كل يوم أربعاء في المدينة.
ينتظرني أمام مكتبة «سيليكتا». يقف هناك بمعطفه القديم، الرث بعض الشيء، ويداه في جيبيه، مستندًا إلى الحائط.
يحيِّيني، وهو يرفع يده على جبهته ويبعدها، بأناقة خاملة.
نلتقي فقط في المدينة. في البلدة نتحاشى أن نتقابل؛ هو يريد ذلك.
منذ شهور عديدة نتقابل بهذه الطريقة، يوم الأربعاء، وأحيانًا كثيرة أيضًا يوم السبت، في ناصية الشارع تلك، ونفعل دائمًا الأشياء نفسها: نبدِّل الكتب في مكتبة «سيليكتا»، ونبتاع بسكوت الشوفان، ونبتاع لأمي خمسة عشر سنتيمترًا من شريط الحرير المضلَّع الأسود.
ونذهب إلى حجرة، يستأجرها هو، في شارع «جوريتسيا»، في الطابق الأخير.
الحجرة بها مائدة مستديرة في وسطها، تغطيها قطعة بساط، وعلى المائدة جرس زجاجي، في داخله فروع من المرجان. يوجد أيضًا فرن صغير خلف ستارة ليمكننا أن نُعد القهوة، إذا أردنا ذلك.
يقول لي هو أحيانًا:
- لتعلمي أنني لن أتزوجك.
وأضحك أنا وأقول:
- أعرف هذا.
يقول:
- أنا لا أرغب في أن أتزوج، ولكن إذا انتويت الزواج، قد أتزوجك أنت.
ويقول:
- هل يكفيكِ هذا؟
أقول:
- سأجعله كافيًا.
تلك هي عبارة خادمتنا «أنطونيا»، عندما تسألها أمي إذا كان لديها ما يكفي من الجبن.
أقول له:
- والبرمجة الخطية؟
يقول:
- بخير، شكرًا.
يستلقي ويداه معقودتان أسفل رأسه، بوجهه النحيف، الدقيق، وفمه الجاد.
يسألني أحيانًا:
- وأنتِ؟
- أنا، ماذا؟
- وأنتِ؟ و«صغيرات بوتيليا»؟
نعود إلى البلدة في آخر حافلة، التي ترحل في العاشرة مساءً.
يجلس بعيدًا عني، في نهاية الحافلة، وياقة معطفة مرفوعة، وهو ينظر من النافذة.
ننزل في الميدان، أمام فندق «كونكورديا»، ويحييني بطريقته المعتادة. ويذهب كل منا في اتجاه، هو تجاه الممر الحاد المؤدي إلى «كازا توندا»، وأنا إلى المدق المحاذي لغابة الجنرال «سارتوريو».
أتناول بعض العشاء في المطبخ، وتنظر إليَّ أمي.
تقول:
- اليوم كنت على ما يرام طوال اليوم، ولكن في المساء شعرت بفراغ بارد في معدتي، وكان لا بد أن آكل بسكوتة.
تقول:
- هل أحضرتِ لي بسكوت الشوفان؟
***
عندما تحصي أمي في ذهنها رجال البلدة الذين يمكن أن أتزوج واحدًا منهم، لا يخطر «تومازينو» لها أبدًا.
ربما تجده غنيًّا جدًّا، شيئًا لا يمكن الوصول إليه، ثم إنها تراه شخصًا غريبًا، يدور في البلدة بملابس تشبه ملابس الفقراء، شاحب الوجه، ولا بد أن صحته سيئة.
وتقول إن كل أبناء «بالوتا»، لسبب أو لآخَر، الأحياء منهم والأموات، يشوبهم دائمًا نوع من الغرابة، أفكار غير عادية، وهم من الباحثين عن التعاسة.
وعندما تبدأ أمي في النظر إليَّ، بينما أتناول عشائي في المطبخ مساء الأربعاء، ما أبعد فكرة أننا، أنا و«تومازينو»، كنا معًا منذ بضع ساعات في الطابق الأخير من شارع «جوريتسيا»، عن مخيلتها!
لا تعرف أمي حتى إن شارعًا يُدعى «جوريتسيا»، فهي نادرًا ما تذهب إلى المدينة.
تقول لها الخالة «أوتافيا»:
- لماذا لا نذهب أحيانًا إلى المدينة؟
تقول أمي:
- لأي غرض؟
***
أحيانًا يكون «تومازينو» سيئ المزاج، ولا يتحدث.
عندئذ أقترح عليه أن نتجول قليلًا، ونبدأ في مسيرة لا تنتهي، في صمت، في الحديقة وبجوار النهر.
نجلس على إحدى الأرائك. خلفنا، في وسط الحديقة، توجد القلعة، بأبراجها الحمراء، والسلالم الدائرية، والجسر المتحرك، وعلى أحد الجانبين توجد شرفة المطعم ذات النوافذ الزجاجية، المهجورة في تلك الساعة، ولكن يقف فيها نادلان بين الموائد، وهما يمسكان بفوطة الطعام أسفل ذراعيهما.
نجلس والنهر أمامنا، صامت، بصفحته الخضراء، والقوارب الشراعية مربوطة على الشاطئ، وكوخ الإبحار مُقام على الركائز، والسلالم الخشبية تلطمها الأمواج.
يربت هو على وجهي. يقول لي:
- مسكينة «إلسا»!
أقول:
- لماذا مسكينة؟ لماذا أبدو لك مسكينة؟
- لأنكِ وقعتِ معي، وأنا إنسان بائس.
أقول له:
- ولكن ما زال لديك البرمجة الخطية.
يقول:
- آه تلك، معي في كل الأوقات.
ويضحك.
نمشي طويلًا على شاطئ النهر. ينظر حوله ويقول:
- ولكن المنطقة هنا ريفية بالفعل. نحن نأتي إلى المدينة، ولكننا مع ذلك نذهب بحثًا عن الريف، أليس كذلك؟
أقول له:
- لماذا نتظاهر بأننا لا يعرف كلانا الآخر في البلدة؟
يقول:
- لأننا غريبا الطباع.
يقول:
- من أجل سُمعتك. لا بد أن لا أتسبب لك في أي إساءة، لأنني لن أتزوجك.
أضحك وأقول:
- أنا لا أهتم ولو ذرةً واحدةً بسمعتي.
يلف شعره حول أصابعه، يتوقف وهلة ليفكر، ويقول:
- في البلدة لا أشعر أنني حر. كل شيء ثقيل على قلبي.
- ما الذي يثقل عليك هناك؟
يقول:
- كل شيء يثقل عليَّ: «البوريللو»، المصنع، «جيمينا»، حتى الأموات.
   يضايقني حتى من ماتوا، أتفهمين؟
   في مرة من المرات، سأترك كل شيء وسأذهب بعيدًا.
وأنا أقول له:
- هل ستأخذني معك؟
يقول:
- أعتقد لا.
نسير قليلًا في صمت.
يقول لي:
- يجب أن تعثري على شخص يتزوجك. ليس على الفور، ربما بعد فترة.
يقول:
- لستِ في حاجة إلى أن تتزوجي على الفور، لِمَ العجلة؟
يقول:
- فأنتِ معي هكذا، على ما يرام.
أقول:
- معك، هكذا، أيام الأربعاء والسبت؟
يقول:
- نعم، أليس كذلك؟
أقول:
- علينا الآن أن نعود؛ سرعان ما سيحين ميعاد الحافلة.
في طريق العودة نعبر الحديقة من جديد، ونسير بجوار سور القلعة، ونعبر الجسر الذي يتذبذب أسفل عجلات الترام.
يقول:
- لا أقول إن الوضع الحالي، هكذا، وضع مثالي بالنسبة إليك.
أقول له:
- وبالنسبة إليك؟ ما الوضع المثالي بالنسبة إليك؟
يقول:
- أنا، أنا شخص بلا مثاليات.
أضحك وأقول له:
- مسكين «تومازينو».
يقول:
- لماذا مسكين، وأنا أمتلك كل تلك الأموال؟
***
كان الصباح، وكنت قد استيقظت للتو، وأقف في الشرفة؛ ورأيت السيدة «بوتيليا»، التي كانت ممسكة بشوكة التقليم وتعزق حوض الزهور.
قالت لي:
- هاي، أهلًا.
السيدة «بوتيليا» طويلة ونحيفة؛ لها وجه قمحي اللون، تغطيه التجاعيد، ونظارة ضخمة مستديرة بإطار من صدفة السلحفاة، وفك مربع.
كانت ترتدي قبعة من القش، ومريلة، وتضع قدميها العاريتين في خُفَّين.
قالت:
- ماذا قال الطبيب لأمك؟
قلت:
- ضغط مرتفع.
- ماذا؟
- ضغط مرتفع.
قالت أمي وهي تخرج لها:
- مرتفع مرتفع، مرتفع جدًّا.
قالت السيدة «بوتيليا»:
- إذن لا لحوم بعد الآن.
دعتها أمي إلى الدخول وتناول بعض القهوة.
قالت أمي:
- أمس كنت أشعر كأن في حلقي بندقة تكاد تخنقني. هذا الصباح يبدو كل شيء على ما يرام.
جلست الاثنتان في المطبخ، وكانت أمي تصب القهوة من إبريق صنع القهوة، المغطى بقلنسوة من التريكو.
قالت السيدة «بوتيليا»:
- ولكن مع الضغط المرتفع يجب عدم تناول القهوة. لا بد من التوقف عن أكل اللحم وشرب القهوة.
أمي تحب القهوة.
- وماذا يمكنني أن أشرب إذن في الصباح؟ في الصباح عندما أستيقظ تكون معدتي باردة مثل الثلج.
وقالت:
- وأنتِ كيف تستطيعين البقاء من دون جوارب.
رفعت السيدة «بوتيليا» إحدى قدميها، وأخذت تنظر إلى ساقها قمحية اللون، وفي الجزء الخلفي منها عِرْق بارز، لونه أزرق.
قالت أمي:
- ومصابة بالدوالي أيضًا. لا بد وأنكِ مجنونة لتسيري هكذا في الصباح، في هذا البرد!
قالت السيدة «بوتيليا»، وهي تضغط بإصبعها على العِرْق:
- لا أعتقد أنها الدوالي، فهي لا تؤلمني على الإطلاق.
قالت أمي:
- وإذا لم تكُن الدوالي، فماذا تكون إذن؟
قلت:
- وأين «جوليانا»؟
قالت السيدة «بوتيليا»:
- «جوليانا» استيقظت مبكرًا، وأتى «جيجي سارتوريو» ليأخذها، وذهبا إلى ملعب التنس.
قالت أمي:
- التنس؟ وكيف هذا؟ ألم تكن إحدى ذراعَي «جيجي سارتوريو» في الجبس!
- لا يلعبان، فقط يشاهدان، فهناك مباريات.
قالت أمي:
- آه، يشاهدان! ولماذا لا تذهبين أنتِ أيضًا يا «إلسا»، لتشاهدي المباريات؟
قلت:
- لا بد أن ألحق بالحافلة في منتصف النهار.
قالت أمي:
- آه بالفعل، اليوم السبت.
وشرحت للسيدة «بوتيليا»:
- في البداية كانت تذهب إلى المدينة يوم الأربعاء فقط، أما الآن فأصبحت تذهب أيضًا يوم السبت، لتبدل الكتب لـ«أوتافيا» التي تقرأ كثيرًا.
قالت السيدة «بوتيليا»:
- اشتري لي كيسًا صغيرًا من خميرة البيرة. غدًا أريد أن أعد تورتة «باراديزا»، سيأتي «البوريللو» لتناول الغداء معنا.
اندهشت أمي، وقالت:
- «البوريللو» بمفرده!
- نعم، لأن «رافايلَّا» ذهبت إلى البحر مع «بيبي». كان لديه ألم شديد في حلقه، تَسبَّب له ذلك في ورم شديد في لوزتيه.
قالت أمي وهي تتحسس رقبتها:
- ولكن «بيبي» ذلك يُصاب بشيء دائمًا. شيء غريب، إذا ضغطت بقوة تؤلمني. ربما هما اللوزتان إذن.
قالت أمي:
- وبعد الانتهاء من المشتريات، تذهب «إلسا» لتقضي الظهيرة مع أصدقائها، عائلة «كامبانا».
كنت قد تعرفت على عائلة «كامبانا» في وقت الجامعة.
قالت أمي:
- لديهم منزل جميل في شارع «نوفارا»، وهم أيضًا شديدو الثراء.
قالت السيدة «بوتيليا»:
- عائلة «كامبانا»؟
- عائلة «كامبانا».
قالت السيدة «بوتيليا»:
- «الصغيرات» أيضًا يعرفونهم. ولكنه أصيب بأزمة قلبية، وهو الآن في المستشفى.
قالت أمي:
- أصيب بأزمة قلبية؟
ثم قالت لي:
- وكيف لم تقولي لي شيئًا؟
  ولكن متى أُصيب بتلك الأزمة القلبية؟
قالت السيدة «بوتيليا»:
- الشهر الماضي.
- أزمة قلبية! «كونسالفو كامبانا»!
- «كونسالفو كامبانا».
وعندما انصرفت السيدة «بوتيليا»، بقبعتها الضخمة، لتعزق الحديقة، قالت لي أمي:
- ولكن كيف لم تخبريني بشيء في ما يتعلق بتلك الأزمة القلبية؟
قلت:
- كانت صغيرة.
- صغيرة؟ أزمة قلبية صغيرة؟
ثم عادت تقول بعد وهلة:
- صغيرة أو كبيرة، لقد نقلوه إلى المستشفى. كيف لم تخبريني بأي شيء؟ كنت سأكتب خطابًا، أو أرسل بعض الزهور. إن عائلة «كامبانا» عائلة لطيفة جدًّا معك.
قلت:
- أرسلت أنا إليهم الزهور.
- آه، أرسلتِها أنتِ؟ أي نوع من الزهور؟
- الورد.
- أي لون؟
- الأبيض.
قالت أمي:
- ولكن الورود البيضاء نرسلها إلى العرائس أو إلى مَن أنجبن، كان من الأفضل إرسال القرنفل للرجل.
   وأين عثرتِ على الورود في هذا الموسم؟ لا بد وأنكِ دفعتِ ثروة إذن.
بينما أرتدي ملابسي في حجرتي، دخلت «جوليانا بوتيليا».
قالت:
- هل أزعجك؟
كانت ترتدي تنورة بيضاء ذات ثَنْيات، وبلوزة بيضاء، وتضع على كتفيها منديلًا، طُبعت عليه خريطة لندن.
قلت:
- لندن؟
- نعم، لندن. أحضره لي «جيجي سارتوريو»، عندما ذهب إلى هناك آخر مرة.
- لماذا يذهب «جيجي سارتوريو» إلى لندن؟
- أعمال تجارية.
- وفيمَ يعمل؟
- لا أعرف.
- هل يتودَّد إليكِ «جيجي سارتوريو»؟
- لا، إنه مجرد صديق.
- هل كانت المباريات جيدة؟
- نعم، كانت جيدة، فاز فريق «تشينيانو». انهزم «تيرنزي».
- ينهزم دائمًا.
- ليس دائمًا، ولكن اليوم انهزم.
كانت قد جلست وبدأت تصنع التموجات في شعرها بالمشط.
قالت:
- لم أعد صديقتك، أليس كذلك؟
قلت:
- فلتكُفِّي عن هذا!
- لقد كنا صديقتين من قبل، لم يكن بيننا أي أسرار.
قالت:
- إذن فهو حبيبك، أليس كذلك؟
كنت قد انحنيت لأبحث عن فردتَي الحذاء أسفل الفراش.
قلت:
- لا بد أن أذهب الآن، لألحق بالحافلة.
- إنه حبيبك، أعرف هذا.
كنا في تلك اللحظة نسير على الممر. كنت أضع في الشبكة الكتب الخاصة بمكتبة «سيليكتا»، والمغلفة بغلاف أزرق.
قالت:
- لو كنت أشعر بأنكِ سعيدة، لما سألتكِ شيئًا، ولكنكِ لا تبدين سعيدة على الإطلاق.
   في بعض المرات أراكِ تعبرين وأنا واقفة عند مدخل المنزل. تسيرين بطريقة يُفهم منها أنكِ لستِ سعيدة.
   تُلقِين بشعركِ إلى الوراء، وتسيرين بخطوات سريعة متسعة، تتظاهرين بالثقة، ولكن في الوقت نفسه، تبدو عليكِ التعاسة.
قلت:
- هل حقًّا يتعاطى «جيجي سارتوريو» المورفين؟
- لا يتعاطي أي مورفين، يأخذ فقط مسكنًا للألم حاليًّا، لأن ذراعه تؤلمه.
***
قال «تومازينو»:
- أنتظركِ منذ أكثر من ساعة.
- لم ألحق بحافلة الظهيرة؛ اضطررت إلى انتظار التالية.
- وكيف لم تلحقي بالحافلة؟
- كنت مع «جوليانا بوتيليا»، التي أرادت أن تصحبني، وكانت تتكلم، هكذا تأخرت.
- ولماذا تضيعين الوقت مع تلك الغبية؟
قلت:
- إنها تعرف عنِّي وعنك.
- تعرف؟ وكيف عرفت؟
- لأن أختها «ماريا» رأتنا في أحد البارات وكان معها «ماريا موسو».
- وماذا تقول عنا كل أولئك «الماريات»؟
قلت:
- لا أعرف. «جوليانا» ترى أنني لست سعيدة.
- إنها غبية.
- لماذا؟ هل أبدو سعيدة؟
قال:
- أنا لا أعرف كيف تبدين.
- ألا تعتقد أنه شيء سيِّئ أنك لا تعرف هذا؟
- لا يبدو لي سيئًا ولا جيدًا. لا أطرح على نفسي السؤال.
قلت:
- شكرًا.
- شكرًا على ماذا؟
- شكرًا، بلا سبب.
قلت:
- كيف تستطيع أن تكون كريهًا بهذا الشكل؟ كم يمكنك أن تكون شخصًا كريهًا!
كنا في شارع «جوريتسيا»، وقلت:
- لا أشعر بالرغبة في الصعود اليوم.
- لماذا إذن أتينا حتى هنا؟
أخذت أسير وهو يتبعني. كنت أسير بلا هدف، وأنا أهز الشبكة التي تحتوي على الكتب.
قال:
- أعطيني الشبكة، سأحملها أنا عنكِ. على الأقل كان يمكننا تركها لدى البواب في شارع «جوريتسيا»، تلك الشبكة اللعينة. ألا تكتفي جدتكِ من قراءة تلك الروايات؟
قلت:
- ليست جدتي، بل خالتي.
قال:
- خالة أو جدة، لا فارق.
قلت:
- إنك تعرف جيدًا أنها خالتي. إنك دقيق كموظف السجلات، وذاكرتك جهنمية. لقد قلتَ هذا لتضايقني.
قال:
- هذا حقيقي.
وابتسم.
- أعرف أنها ليست جدتكِ، بل خالتكِ. قلت هذا من غضبي، لأنني انتظرت كثيرًا، وأنا لا أحب الانتظار.
قال:
- لقد كرهت باب مكتبة «سيليكتا»، وأنا أقف هناك في انتظارك.
قال:
- تَملَّكنِي الخوف من أن يكون قد أصابكِ مكروه، أن تكوني مريضة، أو أن تكون الحافلة انقلبت.
قال:
- إذن صغيرة «بوتيليا» ترى أنكِ لستِ سعيدة؟
قال:
- لماذا لستِ سعيدة؟
قال:
- عندما أكون هناك في منزلي، في «كازا توندا»، أنظر حيث يوجد منزلك، أنظر وأفكر: تُرى ماذا تفعل الآن؟ تُرى هل هي حزينة أم سعيدة؟
  هل يعجبكِ أن أفكر هكذا وأنا هناك وحيدًا؟
قال:
- هل يبدو لكِ ما أعطيه قليلًا؟ حب قليل؟
قلت:
- نعم، يبدو لي حبًّا قليلًا.
قال:
- لكن هذا كل ما يمكنني منحه. لا أستطيع منحكِ أكثر من هذا، فأنا لست عاطفيًّا، أنا شخص ذو طابع انطوائي، أعيش وحدي، ليس لي أصدقاء، ولا أبحث عن أحد.
قال:
- تسعد النساء مع الرجال ذوي المشاعر الجياشة والرومانسيين.
   ولكنني كنت يائسًا، عندما كنت أنتظرك منذ قليل على ناصية الطريق. كنت أقول لنفسي: ماذا سأفعل إذا لم تأتِ؟ إذا ماتت؟
   كنت أقول لنفسي: كيف سأعيش إذا ماتت؟
كنا قد وصلنا في ذلك الوقت إلى الحديقة، وكنا نسير بين الأشجار العارية، ونحن نطأ العشب الذي حرقه الصقيع.
قال هو:
- تلك الغرفة في شارع «جوريتسيا» كئيبة. يمكننا أن نستأجر غرفة أخرى، في شارع أجمل. يمكننا أيضًا أن نستأجر منزلًا بأكمله. هل سيمنعنا أحد؟
قال:
- أتريدين أن نبحث عن منزل جميل ومريح، به مطبخ، حيث يمكننا أن نطهي بعض الطعام؟
قلت:
- هل تستحق تلك الساعات القليلة كل هذا العناء؟ إنهما أمسيتان فقط في الأسبوع، يومَا الأربعاء والسبت.
- كيف لا يستحق الأمر العناء؟ ألا يستحق الأمر أن نرتاح، ولو ساعات قليلة؟
قال:
- هل ترغبين في أن نذهب الآن إلى شارع «جوريتسيا» لبعض الوقت؟
***

No comments:

Post a Comment