24 October 2016

محمود عبد الشكور: كنت صبيًّا في السبعينيات



محمود عبد الشكور

كنت صبيًّا في السبعينيات
سيرة ثقافية واجتماعية

1

ذلك المساء في شقتنا بشبرا، الذاكرة الضبابية تبددها أشعة شمس حزينة، وأصوات صرخات، ووداع حزين، وألم مكبوت.

دَبت في البيت حركة غير عادية، ترحيبًا بخالي محمود - طويل القامة، واسع العينين، ويرتدي زي الشرطة. استقبله أبي في سعادة. أجلسُ قليلًا معهم في حجرة الاستقبال. بعد الترحيب والسلام والسؤال، تخرج أمي إلى المطبخ لتصنع الشاي. أتبعها كظلها. في الخامسة من عمري، طفل أقرب إلى الانطواء، يفرز الغرباء بنظرات متشككة، يطلق صيحات فزع واحتجاج عندما يشاهد الأظافر الطويلة لزائرات أمه، يختلس نظرات حذرة بعد أن يصعد مقعدًا يوصله إلى حافة بلكونة تطل على شارع «عبد اللطيف الفحام» من الطابق الخامس، يصفق في سعادة عندما يصل الحاوي وزوجته. ينام الرجل عاري الظهر على مسامير مثبتة في لوح خشبي، يطلب من المارة أن يقيدوه، ثم يفك نفسه في سهولة ويُسر، وتبخ المرأة الغاز من فمها، فتزيد النيران اشتعالًا. يصفق المارة الذين تحلقوا حول العرض المتجول، يجمع الساحر وزوجته قروشًا قليلة، أمي تمنحني قرشًا، نضعه في السَّبَت المصنوع من البوص، ننزله إلى نجوم العرض. تصفيق حار.

نجتاز معًا الصالة، أنا وأمي. أختي الصغرى نائمة في حجرة واسعة. أخي الأكبر وسط خالي وأبي. في الصالة مائدة سفرة ضخمة، ثقيلة، تحيطها المقاعد العالية، أمامها بوفيه واجهته من الزجاج، داخله أطقم الفناجين والأكواب. على أطباق صغيرة صور لشخصيات صينية، كنت أتخيلها تخرج في الظلام، تتحرك وتغني وترقص، كلها من البدناء، ثيابها الفضفاضة ملونة ومزركشة. كنت أحب اللعب أسفل المائدة، أتمدد وكأنني أسفل سيارة، تحتضن جسدي الصغير سجادة سميكة دافئة. ما زلت أعشق أن أجلس فوق سجادة، أكتب أحيانًا مستعيدًا حرية تريح الجسد، وتطلق الخيال.

لا بد أن أمي تشعر بالامتنان العميق لمن اخترع البوتاجاز، تستفيد من كل إمكانياته، شعلتيه وفرنه الصغير. مطبخها مملكتها، ولكني كنت أتبعها من دون استئذان، وكانت تخشى حماقة طفل لا يتوقف عن الاكتشاف، إلى أن اهتدت أخيرًا إلى حل: تشغلني بمساعدتها في حدود الإمكانيات، تجلب كيس الشاي من النملية ذات اللون اللبني - ارتبط عندي هذا اللون حتى اليوم بالطعام. كان الشاي في أكياس قادمة مباشرة من بقال التموين، أتذكر شاي «مبروكة»، تلك الفلاحة ذات الملابس الملونة المرسومة فوق الكيس الورقي - لا تستخدم أمي الكيس مباشرة، تعطيه لي لكي أسلمه لها بيدي الصغيرة. تسعدني الفكرة. تصنع الشاي بمزاج، وعلى نار هادئة. لا نعرف الشاي الكشري، لا بد أن تطبخ الشاي والسُّكر في الكنكة. تفتح النملية، تعطيني مكعبًا من السكر المكنة قبل أن تضيف وتقلب بالملعقة. من بعيد كانت تصلنا أصوات ضحكات خالي وأبي، ثم ساد صمت طويل. فجأة انطلقت صرخة هائلة قادمة من منور الشقة، صوت أنثوي رفيع. لحظات ثم تحولت الصرخة إلى نحيب متواصل. سمعت صوت لطمات متتالية - فتاة تلطم وجهها على الأرجح. اهتزت الكنكة من يد أمي، وجهها الأحمر تحول إلى الأصفر ثم الأبيض. حتى في لحظات الارتباك لا تنسى أمي النظام: أول ما فعلته هو إطفاء شعلة البوتاجاز. هرولتْ مذعورة لتفتح شباك المطبخ المطل على المنور، أمسكتُ كالغريق بالروب البرتقالي الذي ترتديه، انتزعتْ نفسها من أصابعي الصغيرة، فتحَت الشباك بعصبية، حاولتْ أن تنظر عبر الأسياخ الحديدية، لم تجد شيئًا، رجحتُ أن المنور كان مظلمًا.

تمالكت أمي نفسها سريعًا، التفتتْ إليَّ فوجدتني مذعورًا، ربتت على ظهري. خفت الصراخ واللطم، وحل محلهما بكاء مكتوم بعيد، صوت أقرب إلى النهنهة، يعلو ويخفت. أعادت أمي إشعال البوتاجاز، قالت في صوت مبحوح:
- لازم فيه حد مات في العمارة.
- م ا ت؟!

كررتُها مستفهمًا، لم أكن أعرف معنى كلمة «مات»، مجرد كلمة سيئة تستدعي سيدات يرتدين اللون الأسود، يبكين فأبكي. ذات جنازة أخذتُ أتأملهن واحدة واحدة، اندهشن لدهشتي، كن يغالبن أنفسهن حتى لا يبتسمن أو يضحكن، لم أعد أنظر إلى الوجوه المتشابهة، كنت أنتقل من فستان أسود إلى فستان آخر، من جورب شيفون أسود إلى جورب آخر. تشابهت أمامي سيدات الأحزان. لم أجد أمي وسطهن، فتوقفت عند خالتي، فابتسمَتْ. «م ا ت؟!». ذات مرة تسلقتُ مقعد البلكونة لأشاهد جنازة، أمسكَت بي أمي وقد اغرورقت عيناها بالدموع، على الرغم من أنها لا تعرف أحدًا من أهل الميت. وصلت سيارة سوداء تشبه العربات الملكية التي تجرها الخيول، في مقدمتها صليب، أدخلوا إليها تابوتًا أسود اللون ولامعًا. قبل أن يتحرك الموكب، كان أطفال الملجأ قد حضروا، يرتدون زيًّا موحدًا يشبه فرقة حسب الله، يحملون طبولهم وآلاتهم النحاسية، وأخذوا يعزفون مارشًا جنائزيًّا اقشعر له بدني، أسمعه الآن بوضوح. كيف احتفظت الذاكرة المثقوبة بهذا الصوت، وهي التي تتساقط منها مواعيد الأمس واليوم؟ «مات»، أي غاب فأحزنهم وجعلهم يرتدون الأسود. «مات»، أي شيء كريه ومخيف. «مات»، أي موسيقى ليست كالموسيقى. «مات»، أي صرخة قادمة من المنور ليلًا. «مات»، أي خبر يحمله أخي الأكبر:
- ماما.. ماما.. عبد الناصر مات!
هذه المرَّة كادت أمي تُسقط صينية الشاي، وهي تسمع أخي يردد كلماته مندفعًا إلى المطبخ. انفجرَت في انفعال صاخب وكأنه انفجار قاومته طويلًا:
- إوعى تقول كده! مين اللي قال الكلام الفارغ ده؟
أمسكته من ذراعه في قسوة لم نألفها، رد أخي وكأنه يُلقي بمسؤولية الجريمة على غيره:
- الراديو.. الراديو بيقول عبد الناصر مات!

لا أعرف عبد الناصر، أسمع اسمه بصورة عابرة، ربما رأيت صورته في جريدة «الأهرام» التي يشتريها أخي من أم شعبان، يسلمها إلى أبي فيقرأ وهو يشرب الشاي. أم شعبان امرأة في منتصف العمر تبيع الجرائد على ناصية الشارع، تبيع أيضًا في الصيف مشروبات غازية، «كوكا كولا» و«سيكو». هل يسكن هذا الرجل الذي بعث هذا الصراخ في العمارة؟ هل هو زوج جارتنا الست أم فايزة، العجوز التي سقطت أسنانها الأمامية ولكنها لا تتوقف أبدًا عن الكلام؟ عاد لون وجه أمي إلى البياض، دماؤها تهرب منها، ولكنها تتماسك من جديد، تحمل الصينية وهي تترنح. قبل أن نصل إلى منتصف الصالة، يستقبلنا خالي وقد ارتدى الكاب، يستأذن متعجلًا. أبي خلفه، بالبيجامة، يبدو كما لو كان تقدَّم به العمر عشر سنوات، مذهولًا لا يجد كلامًا. أسمع من بعيد صوت القرآن في الراديو، أمي تطلب من خالي أن يشرب الشاي بسرعة. يقول خالي وكأنه ذاهب إلى يوم الحشر:
- لازم أنزل، الدنيا زمانها مقلوبة!

أصوات صراخ جماعية بعيدة قادمة من الشارع. يفتح خالي الباب بنفسه. تذهب أمي لتطمئن على أختي الصغرى. يجلس أبي على مقعد، يتناول سيجارة ويُدخن. لو تجسدت المصيبة على وجه إنسان لكان هذا هو وجه أبي. ليته بكى لحظتها، ليته بكى مع جلال معوض وهو يصف الجنازة. جلس أبي صامتًا بجوار الراديو، جلسنا جميعًا حوله، أكاد أختنق، أخشى أن أبكي، أخشى أن أتنفس. ليته بكى، فربما ما كانت آلام القولون لتلازمه حتى اليوم الأخير من حياته.

بعد أسبوع واحد من الجنازة الرسمية، سقط أبي مريضًا. لم يكن ناصريًّا. قال لي بعد سنوات طويلة:
- تحطمت كل أحلامنا مع هذا الرجل! خذلنا جميعًا!

لم يكن أبي من دراويش عبد الناصر، ولكنه كان مؤمنًا بأنه زعيم استثنائي، موته مأساة، وموته والبلد مهزومة، بالذات، مصيبة المصائب.

منقوشة على صفحة الذاكرة المسموعة عدودة المصريين على جمال، لا أتذكر أين سمعتها:
الوداااع يا جمال
يا حبيب الملايين
رددها الملايين في جنازته، عرفت فيما بعد أن صاحب لحنها هو الفنان عبد الرحمن عرنوس، الأستاذ بأكاديمية الفنون. من كتاب أخي للقراءة سمعته يردد قصيدة: «اسمه في فمي.. لا تقولوا الوداع». منقوشة على صفحة الذاكرة تلك الجنازات الشعبية الرمزية التي تكررت في شارعنا: يحملون تابوتًا من الخشب، ويسيرون خلفه فارغًا في جنازة مهيبة، ويهتفون بحياة جمال. عرفت أن تلك الجنازات انتشرت في كل قرية وشارع في مصر، من الشمال إلى الجنوب. أمي أخرجت فستانها الأسود، كل نساء العمارة ارتدين السواد حتى بعد أسابيع من الوفاة. حزن حقيقي استدعى أحزانًا أعمق، حزن على وطن، وكأنهم استدعوا أحزان الأجداد على كل الراحلين، وكأن البكاء سيوقف اللحظة، سيُحنِّطها، ويلفلفها في ثوب من الأسود الشفيف. لو لم أكن شاهدًا ما صدَّقت، لو لم أكن هناك ما كتبت، لم أشهد قَطُّ حزنًا جماعيًّا كهذا الحزن.

ذلك المساء، بكل تفاصيله، أصبح عندي مبتدأ الذاكرة، على الرغم من أنني ولدت قبل هذه الليلة بسنوات خمس، ولكني لا أتذكر مما قبلها سوى ومضات متباعدة: «غارة، غارة، طفُّوا النور»، لمبة خمسة بضوئها الخافت بجوار السرير، ساحر المسامير والنار، زمارة بائع الدندرمة، بلحة يابسة منحها لي صاحب محل بقالة في أثناء التسوق مع أمي، ديك رومي عملاق أفزعني، تهت من أمي فوجدَتني في زحمة السوق، جورنال وحاجة ساقعة، رمال اكتسحت البلكونة ذات خماسين، ذلك الحائط الطوبي الذي لم أعرف وظيفته في مدخل البيت، عم ملاك البواب وزوجته البدينة أم بيسة، عم صابر الحلاق يأتي ليحلق لنا في البيت، والصينيون فوق أطباق الشاي الصغيرة يتقافزون على السجادة الدافئة وسط الظلام.

وفاة عبد الناصر ليست فقط مفتتح ذاكرتي وحكايتي، ولكنها نهاية عصر وبداية زمن آخر. لم أُدرك ذلك وقتها، لا أتذكره لا منتصرًا ولا منهزمًا، لم أشاهده إلا مرَّة واحدة لم تتكرر في تلفزيون السبعينيات بالأبيض والأسود - لا أدري كيف أفلتت تلك الثواني القليلة في عز زمن السادات - ولكن تلك الليلة من أيام سبتمبر عام 1970 كانت فارقة. عندما كبرت وقرأت وكتبت، انتقدت كثيرًا كوارث الحقبة الناصرية التي انتهت إلى هزيمة عسكرية مروعة وغير مسبوقة، والتي ساهمت في تكريس الدولة البوليسية، ولكنني أعطيت الرجل حقه، وصفت ما شاهدت من دون مبالغة، ولم أجادل قَطُّ في عدة أمور، يعد الجدل فيها إهانة للعقل وللتاريخ وللحقيقة:
1- عبد الناصر حاكم وطني.
2- هو الحاكم الوحيد الذي كان حقًّا وصدقًا ظهرًا للغلابة من بين كل رؤساء مصر من دون أن نستثني حاكمًا بعد 1952.
3- انحيازه للفقراء لم يكن ادعاءً بل كان حقيقيًّا، كان انحيازًا واتساقًا مع تاريخه الشخصي كرجل كان والده يعمل ساعيًا للبريد. عبد الناصر دخل الكلية الحربية من دون واسطة، لأنه ببساطة لم يكن يملكها.
4- كان عبد الناصر طاهر اليد والذمة، لم يتربح قَطُّ من منصبه، على الرغم من أنه كان يمتلك سلطات فرعون.
5- لم يحكم عبد الناصر قَطُّ من دون تأييد شعبي جارف، بل إن شعبيته كانت تمتد من المحيط إلى الخليج، وقد اندهشتُ، في مقال كتبته منذ سنوات، أن تكون له هذه الشعبية ثم يرفض التحول إلى نظام تعددي ديمقراطي. حتمًا كان سيكتسح أي منافس في أي انتخابات.

حزن عليه المصريون كما لم يحزنوا على أحد، وهم كانوا قد أعادوه إلى منصبه: في يونيو 1967، ألقى عبد الناصر خطابًا اعترف فيه بهزيمة عسكرية فادحة دمرت الجيش تقريبًا، وجعلت سيناء تحت الاحتلال، قال إنه قرر التنحي عن السلطة، فخرج آلاف المصريين يطالبون ببقائه في منصبه.

سألت كثيرين ممن عاشوا تلك الفترة، بمن فيهم أبي، كلهم أجمعوا على أن أحدًا لم يحرك الناس في الشوارع وفي كل المحافظات تقريبًا. ما هذا الشعب العجيب الذي يستبقي حاكمًا مهزومًا؟! عندما عدت إلى التاريخ وجدت تفسيرًا معقولًا جدًّا: كان المصراوية يردون الجميل، لم ينسوا قَطُّ أنه جبر بخاطرهم وأحبهم، فقرروا ألا ينكسر أبدًا أمامهم، قرروا أن يساندوه بلا تحفظ، كما فعلوا عام 1956، اعتبروا انكساره انكسارًا للوطن كله، جعلوا الرجل رمزًا، حملهم على أكتافه فحملوه. التاسع والعاشر من يونيو 1967 لم تكن مظاهرات غير مفهومة لإعادة الفرعون، ولكنها ذكرى وفاء المصراوية العظيم، الذين لا يتركون أبدًا حاكمًا أحبهم وأراد أن يخدمهم، والذين لا ينسون أبدًا حاكمًا أساء لهم ولم يخدمهم. لو أحب الحاكم المصراوية وعمل لصالح الغلابة، سيفعل الشعب من أجله المستحيل، يوم وفاة عبد الناصر وجنازته أمثولة رمزية.

الذاكرة الضبابية
تبددها أشعة شمس حزينة
أصوات صرخات
وألم مكبوت
ذلك المساء
في شقتنا بشارع شبرا
هو مفتتح الحكاية الطويلة.

2 comments:

  1. Assalam Walekum My name is Irshad Ali Qureshi aka Bablu Qureshi. I am a resident of India and I am your friend. Please help me. I have two children in Ramadan. My elder brother is very ill. Help me, i don't have any money My children are fasting

    ReplyDelete
  2. Assalam Walekum My name is Irshad Ali Qureshi aka Bablu Qureshi. I am a resident of India and I am your friend. Please help me. I have two children in Ramadan. My elder brother is very ill. Help me, i don't have any money My children are fasting

    ReplyDelete