08 October 2016

محمد خليل قاسم: الشمندورة



محمد خليل قاسم

الشمندورة

1

كل شيء في هذا الإطار هادئ ساكن، فأشجار النخيل لا تهز أعطافها، والنيل يرقد تحت أقدامنا هامدًا لا يتحرك، والدوامة التي تتوسطه ما بين الشاطئ والجزيرة الخضراء خامدة تغط في نوم عميق.
حتى المراكبية أصواتهم خافتة، تردد أغنيات دافئة عن عذارى وأكواب شاي في الضحى أعددنها على نار هادئة من خشب السنط، فلا تصل إلى أسماعنا إلا غامضة حزينة.. فمراكبهم ما تزال بعيدة، ونقرات أصابعهم على الدف تخنقها غابات النخيل هناك عند المنحنى الذي يفصل شمال قريتنا «قتة» عن «الدر» عاصمة المركز، أو عند المنحنى الذي يفصل جنوب «إبريم» توأم قريتنا عن «الجنينة والشباك».
إننا نتشبث بمواقع أقدامنا على الجرف، لا نريد أن نعترف بالرعدة التي تسري في مفاصلنا خوفًا من النيل والسكون الذي يلفنا، بل نتطلع إلى وجه برعي زعيم أطفال النجع، ننفعل بما ينفعل به!
ونحن، في حقيقة الأمر، لا نفعل شيئًا غير التأمل في النيل وتحديق البصر طويلًا، لأن الباخرة ذات النوافذ والثريات الكهربية ستهل علينا في هذه الأمسية من المنحنى الشمالي، تحمل رسائل وطرودًا من المهاجرين، وتحمل في هذه المرة - كما قال آباؤنا - أفندية بوجوه بيضاء وطرابيش حمراء وملابس عجيبة لم نرها من قبل على جسم بشر!
مضينا نغالب الخوف، وننتقل من قدم إلى أخرى، ونقتل الرعب الذي تملكنا بثرثرة متصلة حتى صاح برعي:
- ها هي!
وقفز قفزته العالية وهو يشير بإصبعه عبر أجمات النخيل، ثم أطلق ضحكة عالية ساخرة حين صاح بكر:
- ستكون لي واحدة مثلها!
- نه.. من أين؟!
- أبي سيشتري لي واحدة!
فضحكنا جميعًا لأول مرة في أمسيتنا، وعيوننا لا تبارح شريط النور الأبيض السابح، ولا العلم الذي مضى يرفرف فوقه.
وتلفت برعي نحو بكر وأسكته بإشارة من يده، ثم تبسم في وقار ليقول:
- أرأيتم الأفندية؟ والطرابيش حمراء مثل القوطة!
وكانت الباخرة تواصل سيرها وتتجاوزنا دون أن تقع عيوننا لا على الطرابيش الحمراء، ولا على الوجوه البيضاء، إلا أن برعي أخذ يؤكد ويصف تلك الوجوه:
- مستديرة تلمع كما تلمع المرايا.
 واسترسل في حديثه حتى يؤكد زعامته، فلم يعترض أحد إلا صالح جلق الذي همس في حياء:
- لا أرى شيئًا! أين؟ خلف النور؟!
واتجه ناحيتي وكأنه يحتج:
- ولكن لماذا لا تربط الباخرة عندنا أبدًا؟!
ولمحت الغضب يرتسم على وجه برعي، فلم أجب بينما بادره برعي:
- نه؟ ولماذا تقف هنا؟! ستربط هناك في إبريم.
ثم تظاهر أنه يعرف ريس الباخرة، فمضى يرحب به ونحن من خلفه بصيحات داوية، إلا أنها ابتعدت دون أن يأبه بنا أحد.
ولبثنا لحظة والغيظ يأكل قلوبنا، ثم نكس برعي رأسه وابتعد عنا في خطى سريعة، فبدأنا نعود حتى تفرقت بنا الدروب.
وأخذت أنا أشق الطريق الطويل الذي يفصل بين صفوف طويلة متراصة من النخل، تشكل غابة كثيفة لا ترى العين من خلالها إلا أنوارًا هامسة تنبعث من بيوتنا، هنالك عند السفح.
كانت أشجار النخيل المثقلة بحبات البلح الحمراء تهتز في بطء شديد، وتتصافح شواشيها ويسري بينها همس أضفى عليه المساء الساكن كثيرًا من الغموض.. كل واحد في قريتنا كان يملك منها خمسين أو ستين، حتى إن صفوفها كانت تمتد من الشاطئ إلى المزارع الضيقة، ثم تترامى بعدها في صفوف أخرى، تنفرج عند السفح عند بيوتنا المتلاصقة لا يفصل بينها إلا أزقة ضيقة غير مرصوفة وإن دكتها أقدام السابلة على مر السنين والأجيال.
ومن داخل هذه البيوت، من فوق أسوارها المسلحة بقطع من الزجاج، كانت هذه الأشجار تطل علينا، سفح الجبل نفسه كانت تعلوه هذه الأشجار، وقد لفت رؤوسها بعصائب خضراء من السعف والجريد والسباطات الصفراء المثقلة بحبات البلح.
وفي الطريق، عند نهاية الأشجار، رأيت أبي بجلبابه الطويل الأبيض، وعمامته المزهرة، ومداسه الأحمر اللامع، الشامخ بأنفه، ومسبحته وعصاه ذات المقبض النحاسي.
كان منهمكًا في حديث طويل مع فضل الماساوي وجعفر وآخرين من رجال النجع.. كانت أياديهم، وعذبات عمائمهم، وعصيهم تلوح نحو الشاطئ، يبدو أنهم كانوا يتحدثون عن الباخرة والأفندية والوجوه البيضاء والطرابيش الحمراء، ويرددون أسماء بعض الباشوات والصحف.
وسمعت الشيخ جعفر يهتف:
- أرض الله واسعة وسيعوضنا أحسن من أراضينا!
فتنحنح عبد الله الجزار وقال:
- ويرزقنا بيوتًا غير بيوتنا!
ويبدو أن فضل الماساوي لم يقنعه كل ما قيل، فانحنى على الأرض فجأة، وأنشب أنامله فيها، ليعود بها تحمل حفنة من التراب أخذ يتشممها ثم تركها تتخلل أصابعه إلى الأرض من جديد، بينما اتجه جعفر بناظريه إلى السفوح وهو يقول في لهجة حزينة:
- مَن يدري.. ربما أراد الله بنا خيرًا.
وفتح أبي فمه ليقول شيئًا، ثم أطبق شفتيه فجأة حين رآني فاستدار ناحيتي وابتسم في حنان وأمسك برأسي حين دنوت منه وهمس:
- لمَ تأخرت هكذا يا ولدي؟
وتابع سؤاله وكأنه لا يتوقع إجابة مني:
- والباخرة.. هل رأيتها أنت والعيال؟
- نعم يا أبتِ.
- والوجوه البيضاء؟
- كلَّا.
- ولا طربوشًا؟
وخشيت أن أقول لا في هذه المرة أيضًا فوجدت نفسي أردد:
- نعم!
وما إن نطقت بها حتى سمعت الشيخ فضل يهمس في حزن:
- إذن فقد جاءوا!
ودارت عيناه في وجوه الآخرين، ثم أضاف:
- مساكين.. نحن مساكين.. لنا رب اسمه الكريم!
وغمغم عبد الله الجزار:
- غدًا يكونون هنا في النجع بأوراقهم وأقلامهم!
الشيخ حسين:
- ومَن يدريك؟ وهل أنت أفندي حتى تعرف؟
وأحس أبي بما يدور على وجهي من أمارات الحيرة، فأشفق عليَّ وربت فوق ظهري ومسح بيده على رأسي، وأدار الحديث مدارًا آخر:
- وماذا حفظت اليوم يا ولدي؟
وصمت لحظة يستحثني حتى قلت:
- الرُّبع الأول من سورة «يس».
فبسملوا جميعًا وكأنما أُخذوا على غرة، ومضى فضل يعبث بخصلة الشعر المجدولة المنسدلة خلف أذني اليسرى وشفتاه تتمتمان:
- بارك الله في ولدك يا أمين.. قريبًا يعود إلينا من الأزهر يلقي علينا دروس الدِّين بدلًا من الأغراب!
وتبسم الشيخ جعفر وقال:
- ولا تنسَ الجبة والقفطان الشاهي اللميع!
فضحك أبي ضحكة مقتضبة وشكر للشيخ فضل أمنيته ودعاه إلى العشاء وهو يقول:
- ولا تنسَ أن تأتي معك بأدوات الحجامة، فالوجع الشديد قد عاود ظهري وكاسات الهوا أفضل علاج!
فبادره الشيخ حسين:
- أوجاع في ظهرك! لا أصدق، فإن لك زوجتين!
وقهقه الجميع، بينما دس أبي يده في سيالته وقدم لي حفنة من التمر، ودفعني في ظهري وهو يأمر:
- عد يا ولدي لئلا ينشغلوا عليك، فالدنيا ليل والظلام يشتد بعد أن يغيب الهلال.
كنت أريد أن أتريث إلى أن يعاودوا حديثهم عن الأفندية والطرابيش الحمراء، ووددت لو فهمت معنى لكل ما يقولون، وما سبب الحيرة المرتسمة على وجوههم، ولماذا يشم الشيخ فضل تراب الأرض، ولماذا هذا الحديث الحزين عن بيوت غير بيوتنا وسماء تعوضنا بدل ما نفقد!
وكنت أعرف أنهم لن يعاودوا حديثهم إلا بعد أن أنصرف، وأن شقيقتيَّ وأمي وجدتي لن يهدأ لهن بال إلا بعد أن أعود.
وعلى ضوء الهلال الباهت أخذت أدب على أرض الطريق الزراعية إلى أن حاذيت شونة البلح، وانحرفت إلى الطريق العام الذي يخترق صفوف البيوت.
كانت أعمدة التلفون والبرق تنتصب على هذا الطريق، نفس الأعمدة التي اعتدنا نحن الصغار أن نلصق آذاننا ونصيخ السمع إلى كركرة جوفها ثم نتصايح: مصر تكلم إبريم! مصر تكلم الدر!
وفي تلك الأمسية، وعلى غير العادة، صاح برعي في زهو وخيلاء:
- مصر تكلم بلدنا!
ومَن يدري؟ فربما كانت مصر تكلم بلدنا بالفعل في تلك الليلة عن الطرابيش الحمراء والوجوه البيضاء.. ربما.
وكان وطواط قد حط على الأسلاك ثم لم ندرِ ما حدث له، فقد سقط صريعًا أمام عيوننا فأسرعنا ندفنه، إلا أن برعي تشبث به ومضى يغمغم بكلمات مبهمة عن تجفيف الوطواط ودقه إلى مسحوق أسمر! وعن شريفة جارته الصغيرة!
وتركناه يحتضن وطواطه وانصرفنا بعد أن تواعدنا على التلاقي بعد صلاة العشاء في الساحة، نلعب الهندوكية (الحجلة) حتى يثقل النوم جفوننا.
كان بيتنا هنالك في بداية الطريق، تتصدره مندرة يفتح عليها الباب العمومي ذو الضبة الخشبية الغليظة، وندلف منها خلال باب آخر صغير، إلى فناء واسع تراصت على جوانبه ثماني غرف مسقوفة بجذوع النخيل والجريد المضفور بحبال الليف.
وفي جانب من هذا الحوش دُقت أوتاد للأغنام والماعز تسعى الدواجن والحمام بين أقدامها تنق وتهدل، بينما «لورد» يرقد على مقربة يحرسها بعين يقظة.
هذا الجانب ينتهي بمطبخ، وفي ركن من هذا المطبخ ثلاث صوامع كبيرة من الطين وصومعتان متوسطتان لشقيقتيَّ وأخرى صغيرة لي أنا.
ومن خلف البيت ترتفع مئذنة الجامع، وعلى يسار الجامع بيت برعي على مسافة يسيرة من بيت داريا سكينة أم شريفة صديقة أطفال النجع.
***
دلفت من الباب العمومي، ووجدت نفسي في المندرة، وتوقفت هنيهة عند الزير الفخاري المنتصب عند الباب، أعب من مائه في صوت مسموع، وأنا أختلس النظر من فوق الكوز إلى بطة، شقيقتي الصغيرة، وهي تطل على وعاء كبير منهمكة في إعداد وجبة العشاء، بينما استدارت جدتي نحوي في هدوء تسأل عن سبب تأخري دون أن تقتنع بما لفقته من أعذار، فمضت تعنفني، تساندها بطة بنظراتها الحادة.
وهنالك في الركن الآخر كانت أمي.
مخلوقة غريبة، تعمل أناملها دائمًا في الأرض، ترسم خطوطًا تدور وتتشابك، ثم تبسط يدها لتمحوها في أناة لتعاود رسمها من جديد!
ولم أدرك طيلة حياتي معنى لتلك الخطوط، ولكنها على كل حال كانت شغلها الشاغل الذي لا تكف عنه في عزلتها الأبدية.
كانت أمي من هذا الركن القصي الذي استقرت فيه منذ أعوام سبعة تنفعل معنا بكل شيء: تبكي إذا ما بكينا، وتبتسم إذا ما ضحكنا، دون أن تتبادل معنا كلمة واحدة، دون أن تشاركنا طعامنا من إناء واحد!
ولكنها رغم ذلك كانت تحبنا جميعًا! أمها وبنتيها وولدها الوحيد، إلا أننا لم نكن نستبين هذا الحب في بادرة أخرى غير نظرة طويلة حانية من عينيها الواسعتين ترسلها نحوي حين تراني أدلف من الباب أو أخرج.
نظراتها الحانية هذه كانت تبدو حين تنتهرني جدتي، أو حين تتعلق بي بطة لتضربني، أو حين يصب أبي غضبه على رأسي.
كانت ترتفع برأسها وتسدد إليهم نظرة قاسية صارمة، ثم ترتد بطرفها نحوي بتلك النظرة العذبة الحانية، فأرتعش أنا بالحب.. إلا أنني رغم ذلك لم أجرؤ في يوم من الأيام أن أقترب منها، ولم تجرؤ هي أن تدنو مني، فإذا ما أرادت أن تهديني شيئًا قدمته لي من بعيد، فقد كان في أعماقها شيء ينأى بها عني، فلقد أخبرتني شقيقتي الكبرى جميلة أن أمنا أصيبت بالصرع قبل مولدي، وأن نوبة إغماء منكرة ألمت بها ذات يوم وهي ترضعني فبركت عليَّ دون أن تعي وكادت تخنقني.
هاج البيت يومذاك وماج، وأبعدوني عنها منذ ذلك الحين.. أما هي فقد أفاقت من غيبوبتها، وأدركت كل شيء، وقررت أن تبتعد عني إلى الأبد! لقد تربى في صدرها خوف رهيب من ملامستي خشية أن تخنقني، وظل هذا الشعور يساورها حتى بعد أن كبرت، فاكتفت طيلة حياتها بتلك النظرة الطويلة الحانية تنفذ إلى قلبي في عذوبة دافقة.
وما كدنا ننتهي من تناول عشائنا حتى تناهى إلى أسماعنا وقع خطى في الشارع الملاصق وأصوات رجال ميزت منها صوت أبي والشيخ فضل ورجل آخر لم أكن قد عرفته بعد.
وفتح الباب العمومي، وفجأة ولأول مرة، ولأمر لا أدريه، أسرعت شقيقتاي ودفعتا بي دفعًا معهما إلى الفناء الداخلي.
كان الرجل الثالث هو شعبان، الذي تزوج شقيقتي الكبرى، وقد جاءوا في تلك الأمسية يتحدثون عن هذه الزيجة ويستعدون لها، ويبدو أن أمي كانت تعرف أمر هذه الزيجة، فقد استمعت إلى كل ما دار هنالك وأقبلت تنحني على جميلة وتطبع قبلة على جبينها!
وتقدمت بطة تعانق شقيقتها، بينما وقفت أنا حائرًا لا أدري ماذا أفعل، وأدركت جميلة ما أنا فيه فانحنت تقبلني وهي تبتسم، ولا أدري لماذا أحسست في تلك اللحظة بالضيق.. لقد أردت أن أسألها عما يدور هناك داخل المندرة، إلا أن أصوات الرجال كانت تعلو ومعها صوت عائشة جدتي.. كانوا يتحدثون عن الطرابيش والباخرة ذات الثريات المتلألئة، فمضينا نصيخ السمع بينما اقتربت الأم من الباب الصغير الذي يفتح على المندرة من الفناء، وتريثتْ حتى قام أبي بتوديع شعبان وفضل وعاد إلى مجلسه، فانطلقتْ إلى المندرة.
ومن خلال الباب الصغير تناهى إلينا، ونحن تحت سماء زرقاء صافية ينيرها هلال فضي باهت، صوتها الواهن الرقيق يتسلل في هدوء وحزم، وأبي يحاورها ويداورها.
ودون أن ندري لماذا ارتفع صوتها واحتد على أبي، كانت تتحدث عن الباخرة ودفاتر التسجيل، حديثًا أنهته في كلمات حازمة:
- أمين.. هذا البيت يُكتب باسم حامد!
وصمت الرجل صمتًا أدركت هي كنهه، فانبرت تقول:
- يمكنك أن تسجل باسمك ذلك البيت الذي تعيش فيه مع الزوجة الأخرى - ضرتي - وكذلك البيت الثالث الذي ورثته عن أبيك مع النخيل التي تملكها هنا وهناك، خذ كل شيء لنفسك إلا هذا البيت، فقد بنيته معك طوبة بعد طوبة، وجذع نخلة بعد آخر، وعشت فيه مع أمي العجوز هذه وأولادي هؤلاء سنة بعد أخرى، ويجب أن يُسجل باسم ابني.. باسم حامد!
ولا أدري ما الذي دفع أمًّا مريضة أن تقول كل ما قالته، إلا أنني عرفت حينذاك أن أمي تملك شيئًا ما غير النظرات الحانية، حبًّا لا حب بعده، أملًا عريضًا تحاول أن تسعدني به.. كانت تملك رغم مرضها قوة مواجهة زوجها! تسجيل بيت باسمي كان شيئًا كبيرًا بالنسبة لي أنا الطفل، كنت لا أفهم له معنى، ولكن كلمات أمي حملت إلى قلبي ما جعلني أوقن أنها تدافع عني، بيد أنني رغم ذلك لم أدرك أية علاقة بين الطرابيش الحمراء وتسجيل بيتنا ذي الغرف الثماني باسمي.
واشتد إلحاح أمي بينما ازداد صمت أبي حتى نفد صبره، فأخذ يقذفها بكلمات جارحة:
- مجنونة! مخبولة! مالك ولهذه الأمور؟! انزوي في ركنك يا...
فأجهشت بالبكاء، وارتفع صوت جدتي تحاول عبثًا أن تهدئ من روعها، وأن تسكت أبي الذي ارتفع صوته يهدر كأمواج النيل.
وفي الفناء كنا نحن الثلاثة نلتصق ببعضنا في صمت لم يقطعه إلا صوت جميلة وهي تبتسم:
- لماذا يا أبي؟! لماذا؟!
ثم بعد صمت قصير:
- دعها وشأنها.. إنها مريضة.. أنت تعرف أنها مريضة!
وهمست الأخرى في صوت دامع:
- كل هذا من تحت رأس العقربة حجوبة!
وقاطعتهما في كلمات مختنقة:
- جميلة.. بطة.. أنا لا أريد بيتًا!
واختنق صوتي بالبكاء بينما صوت أبي ما يزال يهدر، وبدا لجميلة أنني أتململ في موقفي فأمسكت بيدي في عزم، وأفلت أنا منها رغم ذلك فجأة، واندفعت كالسهم إلى المندرة ثم إلى الركن الذي تقبع فيه أمي أحاول أن أحتضنها بيديَّ الصغيرتين، وهي تدفعني بعيدًا عنها في حنو، وتنهاني عن الاقتراب منها في تلك اللحظة المشحونة بالصدام، ولكنني اندفعت إليها أهمس:
- أمي.. أنا لا أريد بيتًا.. لماذا تريدينه لي؟ سأختم القرآن وأسافر إلى الأزهر!
ولم أستطع أن أواصل حديثي، فإن دمعة ساخنة كانت قد سقطت على يدي فألجمت لساني، وهمت هي لتحضنني غير أنها ترددت، ثم اربد وجهها فجأة وغامت عيناها في سحابة من الدموع وبان فيهما بريق غريب اتكأت بعده على الأرض براحة يدها اليمنى، ثم انكفأت على وجهها، وأخذت تحرك ساقيها في تشنجات، ثم هدأت مستكينة بينما يغلي بين شفتيها سائل أبيض مثل رغاوي الصابون!
وتحركت الأقدام من حولنا تروح وتجيء، بينما أصابني الذعر وإحساس بأن روحي تنسل من بدني، وقطرات من الدمع تنسكب على خديَّ.
ثم انكفأت على أمي متغافلًا تحذيرات جدتي وأبي الذي بدا عاجزًا وحائرًا في نفس الوقت.
هذا الرجل - أبي - يعرف متى بادأها هذا المرض الغريب وأين.. هنالك في القاهرة، في حي البغَّالة بالذات، أيام كان يعمل خفيرًا في الكونتننتال في أعوام السُّلطة، وهو ما يزال يذكر أنه لم تجدِ معها أضرحة جميع الأولياء والأطباء، فعاد بها من مصر، كان يحبها، وقد ازداد حبه لها بعد مولدي ولكنه في نفس الوقت لم يحتمل العذاب بجانبها فهرب منها إلى زوجة أخرى، وخليق به اليوم ألا يحتمل الموقف الذي استثاره بعناده، فذرف دمعتين وهو يهتف:
- فاطمة.. فاطمة.. سامحيني.. فلم أقصد شرًّا!
ومضى إلى الباب، وجدتي تستمطر اللعنات على رأسه ورأس أهله.
وحين رأيت الدموع في عينيه وفي عيون الأخريات، أحسست أن أمي ستموت في تلك اللحظة، فارتفع صوتي بالبكاء.
ومع صوت بكائي ارتفع عواء الذئب: «أووو.. أووو».
وبرعي هو الذي أطلق صيحة الذئب، ومن كل الأزقة والبيوت أخذ الأطفال يرددون مثله هذه الصيحة التي اعتاد دعوتنا بها إلى الساحة الواسعة أمام شجرة الجميز لنلعب الهندوكية (الحجلة) في ضوء القمر.
وكان من واجبي، شأنهم جميعًا، إطلاق نفس العواء لأسرع إليهم، ولكنني ألقيت نظرة على وجه أمي فأدركت أن واجبي هو البقاء إلى جانبها ريثما تفيق فألتقط من عينيها نظرتها الطويلة الحانية.
تردد العواء مرة بعد أخرى، واستجاب له أطفال النجع إلا أنا، فقد احتبس هذا العواء في حلقي، وبدلًا منه أمسكت بالمصحف أرتل منه وقد وضعت يدي على رأس أمي التي كانت ما تزال تعاني نوبة إغماء منكرة.
وبينما عادت جدتي من الديواني تحمل زجاجة عطر نفاذ، كانت بطة تهرول إلى الخارج لتستدعي خالتي أمينة بايا، فهي خبيرة بأمي وبنوبات إغمائها.
وفي نفس الوقت كان عواء الذئب يتردد في النجع.

1 comment: