07 October 2016

محمد سليمان عبد المالك: أخوة الدم


محمد سليمان عبد المالك

أخوة الدم


توطئة

الاسم: نسرين الجبالي.. ابنة الدكتور فاروق الجبالي، جراح المخ والأعصاب الشهير.
السن: ٢١ عامًا.
المهنة: طالبة في كلية الإعلام، قسم صحافة.. وصحفية تحت التمرين في جريدة «الأربعاء» الأسبوعية.
الحالة الاجتماعية: مخطوبة للرائد هشام القاضي، بالمباحث الجنائية.
الهوايات: البحث عن المتاعب، ودس أنفي فيما لا يعنيني ومضايقة خطيبي الغيور جدًّا.
صفات خاصة: التعلق الزائد بالأب، وإثارة المشاكل، والجنون!


1

وحدي كالمعتاد.
جالسة في الشرفة أراقب الشمس المائلة عند حافة الغروب البعيدة، ليس معي إلا قدح النسكافيه الخالد، وألبوم الصور القديمة، ونبرات «عبد الحليم» الحزينة الحالمة:
في يوم.. في شهر.. في سنة      تِهدا الجِراح وتنام
يحلو لي من حين لحين أن أتسلى بالتقليب في الذكريات التي لم أعشها، أو التي لا أذكرها.. ولا أجد لذلك وسيلة أفضل من الصور الرمادية القابعة في ثنايا الألبوم العتيق، ذي الغلاف الأخضر الصلب.
صورتي في يوم مولدي الشقي، كائن ضئيل غض وأحمق، لا يدري من أمر نفسه شيئًا، ولا يدرك ما تخبِّئ له الدنيا في الغد.. لقد جاء ليملأ الكون صراخًا وحركة، هذه رسالته في الحياة إن كان يدرك وقتها شيئًا كهذا.
وعُمر جَرحي أنا         أطول مِن الأيام
صور أبي القديمة، وسيم هذا الرجل منذ نعومة أظفاره.. طفل أنيق ونظيف ينسدل شعره ناعمًا فوق مفرقه، ثم شاب يشع بالحيوية والمرح بين أقرانه لابسي المعاطف البيضاء في أروقة «قصر العيني»، حيث تبرز فورمة «البوجودي» موضة الستينيات الشهيرة بوضوح على الهامات الممشوقة، ثم طبيب يبتسم في وقفته بجوار سرير أحد المرضى بوقار تسبغه المهنة الجليلة على كل مَن يمتهنها، ثم الصعود المستمر بخطى ثابتة نحو شهادة «الدكتوراه» التي خلدت الكاميرا لحظة تسلمه إياها بقسمات يملؤها الفرح الواثق، ثم رحلاته حول العالم في مؤتمراته الطبية العصية على الحصر؛ مع تطور الموضة في السبعينيات إلى السوالف الطويلة والعريضة جدًّا، وياقات القمصان المدببة، وسراويل «الشارلستون» الضيقة من أعلى والواسعة من أسفل (يا للفظاعة!)، ثم انخراطه في سلك العمل وصوره مع زملائه وزميلاته و...
وداع يا دُنيا الهَنا         وداع يا حُب يا أحلام
وأمي.. صورة زفافها لأبي، وصور رحلة شهر العسل التي قضياها في الإسكندرية، وصورتها بعد أن ولدتني، تحملني ذراعها وهي تبتسم بغبطة في حين لا أكف أنا عن الصراخ، ثم...
لا شيء.
لقد انقطعت بعدها أسباب اتصالها بهذه الحياة.
جاءت بي وذهبت.. هكذا بكل بساطة!
لماذا كلما تذكرت هذه الحقيقة، أجد الدموع تحتشد في نهايات قنواتي الدمعية وأوشك على الإجهاش بالبكاء؟!
لماذا بعد كل هذه السنين؟!
بل، لماذا وكل ما يربطني بهذه الإنسانة هو هذه الصور الرمادية المتوسطة الجودة، إذ لست أذكر قَطُّ أنني رأيت وجهها خارجها؟!
هل هي مشاعر الحرمان من حنانها وعطفها ووجودها الضروري في حياتي برغم كل السنين التي تكيفت فيها مع الوضع برغم أنفي؟!
هل هو الشعور الفطري بأنها أمي التي حرمها الموت مني كما حرمني منها برغم كل شيء؟!
لن أعرف أبدًا، وسأظل كلما مرت ذكرى «سعاد» بي أوشك على الإجهاش بالبكاء.
نعم.. كان هذا هو اسمها.. سعاد خورشيد.
حبيبي شايفك وانت بعيد وأنا ف طريق السُّهد وحيد
كل ما أعرفه عنها - عن طريق أبي والدادة رئيفة رحمها الله - أنها كانت من جذور أرستقراطية إقطاعية قديمة، كانت زميلة لأبي في الحقل الطبي - كصيدلانية - وهكذا نشأ بينهما التعارف تحت سقف إحدى المستشفيات.. ظروف زواجهما أجهلها، لكنه تم بدليل وجودي! كذلك أجهل كل شيء عن الظروف التي واكبت مفارقتها للحياة.. كنت حتى الأمس تلك الطفلة الصغيرة التي لا يجب أن تفشي أمامها أسرار الكبار، واستمر الحال حتى الآن بنظرية القصور الذاتي، فلم أسأل ولم يُرد أحد بالتالي أن يصدع رأسه بما لا طائل من ورائه.
لكني أحيانًا أندهش: لماذا لا أعرف أحدًا من ناحيتها.. جد أو خال أو قريب بعيد أو حتى صديقة مقربة؟!
وأكف عن الاندهاش قبل أن يشرع ذهني المتحمس في وضع سيناريوهات، لن تجلب لي إلا المزيد من التساؤلات التي لن يجيب عنها أحد.
لأتمعن في وجه أمي أكثر.. لم أحمل الكثير من ملامحها، إذ تولى أبي مشكورًا توريثي جيناته السائدة، لكن هناك ما يسمونه «الدم الواحد».. ذلك الرابط الخفي الذي يجعلك تقول واثقًا إن «فلانًا» هو ابن «فلان» دون أن تكون هناك أدنى علاقة تشابه في ملامحهما!
نعم.. هي أمي.. لم يجداني إذن عند عتبة الشقة ليدعيا بعدها أنني ابنتهما!
وكُل خطوة ف بُعدك ليل          وشوق وذكرى وجَرح جديد
لأكتف بهذا القدر من الذكريات اليوم.. ورائي كم رهيب من الدروس التي تنتظر مَن يذاكرها.. أسابيع قليلة وتبدأ امتحانات السنة النهائية الحاسمة.. سأغلق الألبوم وأعد فنجانًا آخر من النسكافيه (لزوم سهر الليالي في طلب العلا) وأصحب حليم معي إلى غرفتي.. سأبدأ اليوم في مذاكرة مادة «الـ.....».
معذرة.. جرس الهاتف يرن.
لقد نسيت رفع السماعة كما أفعل دومًا قبل بدء الاستذكار.. جل مَن لا يسهو.
أستطيع بالطبع أن أتجاهل الرنين حتى ينقطع، لكن هذه الرنة الطويلة المتصلة غير قابلة للتجاهل، فهي تعني أن المكالمة واردة من خارج القاهرة، وربما من خارج مصر كلها.
أمري لله.. لن تصنع بضع دقائق - وربما أقل - من التأخير فارقًا!
- ألو.
- نسرين.. كيف حالك أيتها المشاكسة؟
- عمي ممدوح!
صحت بها في غبطة، إنه عمي - شقيق والدي الأصغر - المقيم في الإسماعيلية.
- ما أخبارك؟! وكيف حال القاهرة العامرة؟
- بخير أنا وهي.. حدثني أنت عن أخبار المانجو والفراولة والسمك الشبار.
ضحك عمي ثم قال:
- تنتظرك بلهفة الصب المشتاق.. ألا تنوين المجيء قريبًا؟
هززت كتفي بخيبة أمل - كأنه سيراني - وأجبته:
- أتمنى ولكن.. الامتحانات اقتربت كما تعلم.
- كان الله في عونك.. وكيف حال أخي العزيز؟
أجبته بخيبة أمل أشد:
- في المستشفى.
- أما زال في دوامة العمل كعهده؟
- ومن يمكنه أن ينتزعه منها؟!
- صدقت.. بعض الناس قد ولدوا ليعملوا فقط!
يروي لي أبي دومًا عن كسل شقيقه الأصغر وانكماش طموحه، «درعمي» هو، عاش حياته بالطول والعرض حتى وجد عملًا في الإسماعيلية فاستقر وتزوج وأنجب وطلق زوجته هناك.
- يمكنك أن تتصل به على هاتف المستشفى.. ستجده هناك حتمًا إن كنت تريده في شيء مهم.
بينما يروي هو عن أبي أنه كان راهبًا في محراب الطب منذ صغره، يعشق مهنته حتى التداعي، يداوي كل أفراد العائلة منذ كان في السنة الثالثة، وهو ما جعله الابن المفضَّل لدى أبويه - جدي وجدتي - عنه وعن عمي الثالث؛ الذي هاجر إلى أمريكا وأصبح أمريكيًّا منذ سنين طويلة حتى إنني نسيته!
- في الحقيقة أنا لا أريده هو.. أريدك أنت يا نسرين.
غريبة.. ليس هناك أي شيء يمكن أن يريدني عمي بشأنه!
- مُرني يا عماه.
- في الحقيقة.. أريد أن أطلب منك خدمة صغيرة.
وهو لم يطلب مني أي شيء من قبل أيضًا!
- اطلب ما بدا لك.
هكذا تتصرف الفتيات المهذبات!
- حمادة!
سألته مندهشة:
- ماذا عنه؟!
قال:
- لديَّ عدة مشاوير مهمة في القاهرة غدًا.. أنت تعلمين كم سيكون صعبًا اصطحاب طفل لم يكد يبلغ الخامسة من عمره بين المكاتب والمصالح الحكومية طوال النهار، لذا كنت...
حمادة لمن لم يستنتج بعد هو الابن الوحيد لعمي من زوجته السابقة التي تزوجت غيره وسافرت مع زوجها إلى.. إحم.. عفوًا.. إنها أسرار عائلية.. يكفي أن أقول إنهما قد انفصلا منذ سنوات أربع تقريبًا!
- كنت سأطلب منك أن تعتني به حتى المساء.
قالها وقد فاح الحرج من صوته لتصلني رائحته عبر السماعة، ولم أملك أنا إلا أن أقول:
- على الرحب والسعة بالطبع.
شممت المزيد من الحرج في نبراته إذ قال:
- إن كان هذا سيعطلك عن المحاضرات أو المذاكرة فـ...
أسرعت أقول بحماسة لم أدرِ مصدرها:
- كلا.. كلا.. غدًا لا توجد محاضرات في الكلية.. وبالنسبة إلى المذاكرة فلا تقلق.. أستطيع تدبر أمري جيدًا في وجود حمادة!
لم أقل الحقيقة، جدول الغد زاخر بما لذ وطاب من المحاضرات والسكاشن، لكني لم أتعود رفض خدمة طلبها مني أحد مهما كانت مسببات الرفض قوية.. بالإضافة إلى أني تصورت أن المذاكرة في وجود طفل هادئ مثل حمادة لهي أمر يسير جدًّا.
- أشكرك بشدة يا ابنة أخي البارة.
- لا شكر على واجب يا عمي العزيز.
أنا أعرف هؤلاء الأطفال الذين فقدوا أمهاتهم صغارًا لسبب أو لآخر، واسألوني أنا.
- خذي.. إنه يريد أن يحادثك.
إنهم حساسون جدًّا.. منطوون جدًّا.. هادئون جدًّا.. وحيدون جدًّا جدًّا...
وسلم عمي ممدوح السماعة له، وسمعته من بعيد يلقنه:
- قل لها: كيف حالك يا تانت نسرين.
مثلي أنا.. آه أنا.. وحيدة
وأتاني صوته عبر السماعة:
- كيف حالك يا تانت نسرين؟
- بخير يا حمادة.. كيف حالك أنت؟
واحتشدت الدموع في نهايات قنواتي الدمعية، وكدت أجهش بالبكاء!


2

- حمادة.. أنت يا ولد!
صاح بها عمي ممدوح في ابنه الذي اندفع كالصاروخ إلى الداخل فور أن انفتح باب شقتنا أمامه، حتى إنني عجزت عن رؤيته!
وقفت مذهولة لوهلة أمام عمي، وقد زاد الاستيقاظ المبكر بعد ليلة من السهر الطويل مظهري ذهولًا، كانت الثامنة والنصف صباحًا، ولم أكن قد نمت عندما ارتفع أذان الفجر من المسجد المجاور.
ولكن.. كل شيء يهون فداء للواجب، حتى الاستيقاظ المبكر!
تلاشى ذهولي بسرعة فحاولت الابتسام؛ كنت كمصَّاص دماء يبتسم، لكن حرج عمي لم يتلاشَ وهو يمد يده اليمنى مصافحًا إياي، بينما اليسرى تحمل حقيبة صغيرة.
قال في شيء من الارتباك:
- نسرين.. كيف حالك؟! عذرًا، فحمادة شقي بعض الشيء!
- لا تهتم، كيف حالك أنت يا عمي؟! إنه وقت طويل حقًّا.
لم يتغير عمي كثيرًا، كان في المرَّة الأخيرة التي رأيته فيها أكثر امتلاءً، ولم يكن في رأسه شعيرات بيضاء كهذه، لكنها سنون لا أذكر عددها بالضبط.. بالتأكيد تزيد عن الخمس إذ هي المرَّة الأولى التي أراه فيها بعد مولد حمادة؛ السيد المبجل الذي لم أتشرف برؤيته حتى اللحظة.
كدت أدعوه للدخول، وبدأت في التنحي عن موقفي أمام الباب لأقول: تفضل، عندما ارتفع صوت شيء زجاجي يتحطم من جهة المطبخ!
فزعت وندت عني شهقة، بينما اندفع عمي داخلًا على الفور وقد استنتج كنه المصيبة، أو على الأقل المتسبب فيها، وتجاوزت فزعي لأندفع خلفه تاركة الباب مفتوحًا في وجه أي قط ضال أو متسلل فضولي!
كان حمادة في أول لقاء لي معه يقف باسمًا في بلاهة أمام زجاج الكوب المكسور الذي كان يستكين بوداعة بجوار الحوض، وسط صف من الأكواب التي غسلتها بالأمس وتركتها ها هنا لتجف، وفي يده قرطاس من الآيس كريم نجح في أن يلوث به أغلب أثاث المطبخ، ناهيك عن وجهه وملابسه.
احمر وجه عمي ممدوح خجلًا وغضبًا، وعند دخولي رأيته يقترب من حمادة في بطء كأنه سيقتله، لكنه لم يفعل أكثر من أن رفع يده الصغيرة الحرة وانهال على ظهرها بالضرب الخفيف الهين مع سيل من التوبيخ الأبوي الصارم:
- هكذا يا حمادة؟! أهذه تصرفات الصبية المؤدبين التي اتفقنا عليها؟!
وكان حمادة يبتسم.
ومع كل ضربة وعبارة يتلقاها كانت ابتسامته تتسع، حتى تحولت في النهاية إلى ضحكة منتشية، كأنه يمارس لعبة مسلية.
وعرفت على أي جحيم طفولي مقبلة أنا!
- اتركه يا عمي، لم يكن كوبًا من الكريستال الثمين على أية حال.
تركه عمي - كأنه كان ينتظر قولي هذا - وقال:
- إنها مسألة مبدأ، عليه أن يتصرف بقليل من اللياقة.
قلت مهونة وأنا أبتسم، متحاشية النظر إلى الكوب المكسور حتى لا يظهر الأسى على وجهي:
- إنه ما زال طفلًا، لا تظلمه وتطلق عليه أحكام الكبار.
- مَن هذه؟!
قالها حمادة وهو يشير نحوي بإصبعه الغارقة في الآيس كريم، بأسلوب جعله أشبه بأطفال الشوارع، فالتفت إليه عمي وقال مربتًا على رأسه حتى يصمت:
- هذه تانت نسرين، ابنة عمك التي حادثتها في الهاتف بالأمس.
اقتربت منه، وجثوت على ركبتي، وقلت محدقة في وجهه الأسمر وشعره الأكرت وملامحه التي ورثها بالتأكيد من جهة أمه:
- كيف حالك يا حمادة؟ اقترب مني حتى أقبِّلك.
واندفع نحوي ضاحكًا، فاتسخت ملابسي بالآيس كريم الذي انحشر في المسافة الضيقة بيني وبينه، وقبَّلته وقد اعتراني اشمئزاز بلا حدود.
بداية رائعة ليوم حافل!
- كان من المفترض أن أتركه لدى الجيران، إنني أفعل ذلك يوميًّا عندما أذهب إلى العمل في الصباح، لكنهم بكل أسف مسافرون لظروف ما.
قالها عمي، وكنا نتجه نحو باب الشقة بعد أن تمت السيطرة جزئيًّا على الموقف.
نظفت ما تيسر من ملابسي والمطبخ، وبدَّل حمادة ملابسه التي أحضرها عمي في الحقيبة؛ كأنه كان يتوقع الغدر من هذا الطفل الهادئ جدًّا (تبًّا لسذاجتي!)، وشرب عمي كوبًا من الشاي في الصالون مطوقًا بذراعيه حمادة في قوة، بينما الأخير يحاول التملص جاهدًا، ليستمتع بممارسة شقاوته التخريبية الواضحة، واكتشفت وقتها أنني تركت الباب مفتوحًا (خطأ لا يجب أن أكرره بالذات وأنا وحدي).
لا بد أن الرجل كان يحاول تبرير فعلته، ولا أقول جريمته.
- لا مشكلة يا عمي، أليس حمادة أخًا أصغر لي؟
المشكلة أن التهذيب يجبرنا دائمًا على إظهار عكس ما نبطن.
- بوركت يا ابنتي، لكنك يجب أن تأخذي الحذر.
وتوقف عند عتبة الباب، ثم استدار ليواجهني متابعًا:
- إنه شقي للغاية، منذ تركته أمه وأنا أعاني معه الأمرَّين.
شعرت نحوه بإشفاق شديد عندما نطق الجزء الأخير من العبارة في ألم، كأن السنين لم تداوِ جرحه بعد، وازداد شعوري أضعافًا عندما تنهد بحرارة، ثم نفض رأسه كأنه يطرد منه أشباح الذكرى البعيدة.
لكني طبعًا لم أظهر أيًّا من مشاعري هذه حتى لا أزيد من آلامه، وقلت مبتسمة:
- هكذا الأطفال دائمًا يا عمي، خصوصًا من تبتعد عنهم أمهاتهم في هذه...
وانتبهت إلى أنني أزيد من آلامه بالفعل عن طريق غبائي المعهود!
- السن!
لاح على شفتيه شبح ابتسامة مُرة، سرعان ما تلاشى وهو يقول:
- ومتى سيعود الدكتور؟
أبي، كنت قد أخبرته في جلستنا بالصالون أنه بات طوال ليلة الأمس في المستشفى، كأنني زوجة تشكو لأقربائها إهمال زوجها المتعمد.
- لا مواعيد له، من الممكن ألا يعود إلا في الغد، هذا إن تذكر!
قلتها في أسى وأنا أنظر إلى قدميَّ. لو يدرك هذا الرجل كم أفتقده، لو!
شعرت براحة عمي وهي تمتد لتربت على كتفي، وبقوله في عاطفة تشبه ما شعرت به نحوه منذ لحظات:
- كان الله في عونه، أخبرتك أنه يعشق عمله حتى الثمالة، وما لنا في هذا حيلة.
أردت التفوه بعبارة حسرة، لكنه سبقني مردفًا ومغيرًا دفة الحديث:
- لكن، أتعلمين شيئًا...
ورفع براحته ذقني لأراه يحدق في عيني بحنان أُبوي أفتقده، متابعًا:
- لقد أصبحت أكثر جمالًا من قبل، بكثير جدًّا!
 ابتسمت في خفر، بل وتضرج وجهي بحمرة وردية، وهمست عائدة للنظر إلى الأرض:
- شكرًا.
- حمادة الملعون أنساني أن أسلم عليك مثل كل مرَّة، هل تذكرين؟
قالها فاردًا ذراعيه، ولما كنت أذكر فقد ارتميت في حضنه، كما كنت أفعل بمجرد رؤيتي له في العهد البائد.
عندها وقع حادث قدري بسيط: لقد ظهر الرائد هشام القاضي - خطيبي الغيور جدًّا - مرتديًا زيه الرسمي الأبيض وقبعته ذات النسر عند نهاية الدرج.
وللعلم فقط: هشام يعلم جيدًا أن لي عمًّا اسمه ممدوح الجبالي، لكنه لم يره من قبل قَطُّ، وأظنكم تفهمون جيدًا ما أعنيه.
تركت حضن عمي، ورآني الأخير أنظر جهة هشام المتسمر بلا حراك، الناقل بصره المشتعل بيني وبينه، وكان لا بد من حل لهذا الموقف السخيف على الفور، حتى لا يتطور إلى مهزلة.. ولحُسن الحظ، الحل بسيط جدًّا:
- صباح الخير يا هشام.
قلتها في اعتداد، ثم أردفت على الفور مشيرة إلى عمي:
- هذا عمي ممدوح الجبالي الذي حدثتك عنه مرارًا.
لم تتغير ملامح هشام، واستمر ينظر إلى عمي نظرات متسائلة (كأني أكذب!)، بينما تهللت أسارير عمي ومد يده إليه هاتفًا في حبور:
- أنت هشام بك القاضي، خطيب نسرين، أليس كذلك؟
أجبت أنا:
- بلى.
وصافح هشام الرجل الودود محاولًا أن يذيب الثلوج المتراكمة فوق وجهه، ثم قال خالعًا قبعته:
- تشرفت بلقياك يا سيدي.
محاولة بائسة، لكنها أفضل من لا شيء قطعًا.
وبعد عبارات مجاملة كثيرة من التي يجيدها عمي إلى حد الاحتراف، استأذن قائلًا:
- معذرة، كان بودي أن أجلس معكِ فترة أطول، لكنها المشاغل اللعينة التي لا تنتهي.
- كان الله في عونك يا سيدي.
قالها هشام وقد بدأ في تجاوز الصدمة، حتى إنه أردف في شهامة:
- سيارتي معي بالأسفل، دعني أوصلك لأي مكان تريده.
رفض عمي بشدة، وبعد فاصل آخر من عبارات العرض والرفض أنهى عمي حديثه وهو يهبط الدرجات بالفعل:
- لا تقلق عليَّ، أنا أعرف طريقي جيدًا.. إلى اللقاء.
واختفى...
طال الصمت بيننا، هشام عادت الثلوج تتراكم فوق وجهه الطفولي ذي الشارب، وأنا احتضنت جانب الباب المفتوح، لأقول في النهاية حتى لا يمتد بنا الصمت إلى نهاية العالم:
- والآن؟
أجابني بسؤال:
- ماذا؟
قلت متظاهرة بالذكاء:
- لا بد أن لديك ما يقال، خصوصًا مع مجيئك في هذا الوقت المبكر دون موعد مسبق ودون حتى اتصال هاتفي.
- بالفعل، إن هاتف المنزل معطل، والمحمول ليس به رصيد، وفكرت أن هناك ما يستحق أن تعرفيه بلا تأخير!
سألته أنا هذه المرَّة:
- ماذا؟!
هز كتفيه وقال ببساطة:
- كنت قادم لأبلغك بسفري.
ارتفع حاجباي بحركة تلقائية، وسألته مجددًا:
- حقًّا؟! إلى أين؟
أجاب واضعًا قبعته فوق رأسه بدون سبب، ربما حركة تلقائية أيضًا:
- إلى المنيا.. مأمورية عمل تستغرق ثلاثة أيام.
- ومتى ستسافر؟
- الآن، فكرت أن أراك قبل الرحيل لأني...
وابتلع ريقه، ثم استجمع مشاعره ليقولها ناظرًا إليَّ بكل الحب:
- سأفتقدك!
كم يكون وديعًا ورومانسيًّا حين ينظر إليَّ هذه النظرات!
- وأنا أيضًا.
وقرأ في عيني ما هو أكثر منها، قبل أن أردف:
- اهتم بنفسك جيدًا.
ابتسم قائلًا وهو يتناول يدي في يده:
 سأفعل.
وطبع قبلة حانية فوق يدي، ثم قال:
 لا إله إلا الله.
أعطاني النصف، وسأعطيه النصف الخاص بي، ثم يجتمع النصفان عند التلاقي من جديد، هذا تقليد معروف بين العشاق.
- محمد رسول الله.
وترك يدي وذهب ناحية الدرج، وبدأت رحلة إغلاق الباب عندما فوجئت به يعود:
- بالمناسبة...
قالها بصوت عالٍ، وتجمدت يدي القابضة على حافة الباب.
- لا اعتراض لديَّ مطلقًا على أن يقبِّلك عمك، ولكن.. لا تدعي هذا يتم مرَّة أخرى أمام الباب، فلا أعتقد أن جميع سكان البناية يعرفون أن هذا الرجل عم لك، خصوصًا أنه لا يظهر كثيرًا!
قالها وقد حدق في عيني، ثم تركني واقفة أمضغ ذهولي وانزلق فوق الدرجات بسرعة، ولم أنتبه إلا وقد بلغ آخر الدرج بالفعل.
سيبقى هشام - كما عهدته دومًا - طفلًا كبيرًا.. لا بد أن أعتاد على هذا.
وقبل أن أغلق الباب هذه المرَّة أيضًا، رأيت شخصًا يصعد الدرج، لم يكن هشام وإنما شخص آخر أعرفه.
إنه صلاح، الفتى الذي يسكن بمفرده في الشقة العلوية، بينما يجمع ذووه الأموال في إحدى الدول على ضفاف الخليج.
- صباح الخير يا صلاح.
لم يرد، ربما لم يسمعني من الأصل.
أخاف أن أتهم بالنميمة أو ترويج الإشاعات، ولكن.. هذا الفتى ذو الجسم الرياضي بعضلاته المفتولة ورأسه الحليق وملابسه التي لا تزيد عن تيشيرت ضيق جدًّا وبنطال واسع جدًّا مليء بالجيوب، لا يمكن إلا أن يكون...
كلا يا نسرين، إن بعض الظن إثم.
ليس معنى مشيته البطيئة المترنحة، وعينيه الحمراوين الناعستين، وعدم اهتمامه أو سماعه لتحيتك، وخروجه من المنزل كل مساء وعودته في هذا الموعد كل صباح، بالإضافة لتلك الرائحة التي تفوح منه، أنه بالضرورة «مدمن».
إنه ما زال في الثانوية العامة، ولو كان كذلك فهي كارثة له ولأهله الواثقين فيه.
ها هو ذا يصعد في طريقه إلى شقته، لتتناسي أمره مؤقتًا، ولتنحي فكرة إبلاغ أهله بما يريبك جانبًا كما تفعلين في كل مرَّة، فأمامك الآن رحلة صعبة تمتد لساعات طويلة في صحبة شيطان منزلي صغير.
أغلقت الباب، ولم يسترح قلبي للهدوء المخيم.
- حمادة.
ولم يجبني أحد.
معنى هذا الصمت لا يريحني أبدًا، فالأطفال من عينة هذا الحمادة لا يعني صمتهم إلا كارثة، ربما يفوق حجمها حجم الضجيج الذي يصدرونه في المعتاد.


No comments:

Post a Comment