06 October 2015

شريف حتاتة: الشبكة


شريف حتاتة
الشبكة

الجزء الأول

عندما جلستُ في ذلك الصباح أمام مائدة الإفطار كانت الشمس في الخارج ساطعة تضيء الكون، وتنعكس على زجاج النوافذ، وتسقط على المنازل، والأشجار، والشوارع، والناس، لتبدد بقايا النوم المتراكم في أثناء ساعات الليل.. فنجان الشاي بين أصابعي يلسع أطرافها... أرتشف منه ببطء، فيسري السائل الساخن بين شفتي، وفوق لساني، ويهبط بالتدرج خلف ضلوعي ليصل إلى معدتي... أحس به كالإشعاعات تتسلل من بؤرة هلامية تحت الحجاب الحاجز إلى العضلات، والعظام، والأنسجة، لتعيد إليها وجودها، وقدرتها على الحركة.
من أسفل العمارة تصعد أصوات السيارات، وتملأ الجو بضجيجها المعتاد... فمنذ ساعات استيقظت المدينة على يوم رائع، مشرق، من تلك الأيام التي تعرفها القاهرة أحيانًا في فصل الصيف.
الشقة التي أسكن فيها منذ أكثر من سنتين تطل على النيل بجوار كوبري الجامعة... من النوافذ العريضة أرى مياهه الهادئة تنساب بين الضفاف بثبات لا يطرأ عليه تغيير سوى ارتفاع أو انخفاض طفيف عندما تفتح أو تغلق البوابات في أسوان، أو مئات من الأمواج الصغيرة تتسابق فوق سطحه عندما تهب الرياح في موسم «الخماسين»، وتلف المدينة بسُحب من الرمل الأصفر.
فوق النوافذ ستائر طويلة زرقاء عليها طيور وزهور مطرزة بدقة تنطق بالمهارة... أحضرتها معي من كشمير... أتذكر الجبال الشاهقة تغطيها خضرة الربيع، وثمار التفاح تتدلى بالآلاف من فروع الشجر، والسمك كالسهام الفضية اصطدناه من النهر المتدفق بزبده الأبيض، والشرفة العريضة تطل على الشلال، نجلس عليها ونستنشق الهواء النقي، ورائحة الشواء... والهدايا الثمينة التي حملناها معنا، أنا و«المستر هاريسون»، رمزًا للعلاقات الودية التي نشأت بيننا وبين تاجر السجاد، الحاج محمد بكشير.
نظرت إلى معصمي... الساعة قاربت على العاشرة والنصف... دخل الخادم بقدمين صامتتين فوق البساط السميك... إنه موجود، وغير موجود... لا أسمع صوته أبدًا... يتحرك كالظل، وأصابعه حاذقة تلمس الأشياء برقة، وسرعة الساحر الذي يقدم ألعابه على المسرح فتختض الفناجين، والأكواب، والأطباق في لمح البصر... أعود من العمل لأجد كل شيء مرتبًا، نظيفًا، موضوعًا في مكانه... لم يعد يوجد إلا حفنة من هؤلاء النوبيين الذين كانوا في يوم من الأيام عماد الخدمة في المنازل... ولكن النقود قادرة على أن تشتري كل شيء... هكذا خيل إليَّ فترة من الزمن.
- جعفر.. هل استيقظت السيدة «روث»؟
- لست متأكدًا يا فندم.. فهي لم تخرج من حجرتها بعد... ولم تطلب شيئًا حتى الآن.
- حسنًا.. جهز لنا الإفطار، وأبقِ عليه ساخنًا في المطبخ.
سرت إلى حجرتي.. دخلت وأغلقت الباب خلفي... أخرجت حقيبتين للسفر.. فتحت واحدة منهما، ووضعت فيها القمصان، وثياب النوم، والملابس الداخلية، والجوارب، والمناديل، وأشياء أخرى، ثم أغلقتها... فتحت الأخرى ورتبت فيها البزَّات الصيفية، وعددًا من السترات، والسراويل، وأربطة العنق، والجلاليب، ثم أغلقتها بدورها... ارتديت قميصًا بياقة مفتوحة، وسروالًا داكنًا، وسترة رمادية خفيفة.. أدخلت أصابعي في الجيب الداخلي، وتحسست شريطَي التسجيل اللذين وضعتهما فيه بالأمس... ألقيت نظرة سريعة على الحجرة، ثم ضغطت على الجرس، وبعد قليل نقر جعفر على الباب وفتحه... أشرت إلى الحقيبتين وقلت:
- ضعهما في الصالة، من فضلك.
أخذت محفظة النقود، والمفاتيح، وبعض الفكة، ومنديلًا من فوق المنضدة الصغيرة... دسستها في الجيوب... تركت الحجرة مغلقًا الباب خلفي، وعدت إلى جلستي بجوار النافذة... أمسكت بجريدة الصباح وأخذت أقلب صفحاتها... على الصفحة الأولى «مانشيت» عريض: «المدفعية الإسرائيلية تقذف مدينة صيدا جنوب لبنان، وتقتل ستة عشر رجلًا اجتمعوا على مقهى بمناسبة العيد»... أطل من النافذة على السيارات تسرع فوق كوبري الجامعة... لا أريد أن أتأخر... لماذا لم تأتِ «روث» إلى مائدة الإفطار حتى الآن... اليوم أبدأ مرحلة جديدة... قلبي ثقيل، وخفيف في نفس الوقت... أمد يدي إلى إبريق الشاي ثم فجأة أسمع شيئًا كالانفجار المكتوم، يأتي من حجرة النوم الداخلية... أدرك على الفور أن ما حدث هو بالضبط ما كنت أفكر فيه... أنطلق في الممر الطويل... أفتح الباب، وأدخل.
ترقد على السرير... عيناها مفتوحتان تطلان إليَّ من فوق الوسادة... سطح عسلي كالزجاج الجامد... كأنها ذهبت بذهنها بعيدًا... كأنها تنظر إلى الداخل... إلى الأركان المظلمة الغريقة... ذراعها ممدودة، وفي يدها أرى بريقًا أسود، وفوهة صغيرة تتجه ناحية ظهر السرير... أمام الأذن بقعة مستديرة، وفوق الوسادة خيط أحمر يسيل... أشعر بساقَي تميدان تحتي، وبريقي يجف... أضع يدي على معصمها بحركة آلية... أشعر بنبض خفيف فأبلع ريقي مرتين أو ثلاثًا بحركة عصبية.. أضع أصابعي من جديد فوق نفس المكان، فأدرك أن النبض الذي أحسه صادر مني... أستدير كمن يبحث عن مغيث.. في فتحة الباب ألمح جعفر ينظر إليَّ كالشيطان الأسود... يزحف عليَّ... أقول بصوت يرتجف:
- يا جعفر... اتصل ببوليس النجدة فورًا... الست «روث» أطلقت الرصاص على نفسها... بسرعة يا جعفر... أرجوك... واطلب منهم إحضار سيارة إسعاف.
يفحصني في برود متأنٍّ... يتقدم نحو السرير، وينظر إليها... يلقي نظرة سريعة حول السرير، وحولها، وحولي، ثم يدلف من الباب المفتوح ويختفي... أسمع صوته يتردد في الصالة... أجلس على المقعد، وأتطلع إليها... بيضاء كالرخام... ملامح الوجه كالأشلاء المبعثرة... اختفت الخطوط الجميلة... الفم معوج، والغضون تزحف حول العينين، والشفتين، والأنف... أبحث عن آثار المرأة الصبية... تتبخر أمام عيني، ولا يبقى منها سوى الشعر يمتد فوق الوسادة كاللهب الغامض... والبقعة الحمراء تتسع، وتتسع، وتتسع حوله.
***
- أنت تنكر أنك قتلت المدعوة «روث هاريسون»عن عمد، وبسبق إصرار يوم 17 أغسطس سنة 1980 حوالي الساعة الحادية عشرة صباحًا.
أسمع صوت رئيس المحكمة يأتيني من مكان بعيد فوق المنصة العالية... يخرج من أعماقه، ويرن في الصالة بصدى أجوف، دون أن يحرك شفتيه، أو يفتح فمه، ودون أدنى انفعال، كالإنسان الآلي في «حرب الكواكب»... ذهني يقفز إلى الوراء، ثم يعود... حديد القفص رماح مشرعة منذ قديم الزمان... أقف أمام قوى تستعد لسحقي... ولكني طائر يدور في هدوء فوق أحداث الحياة... منذ أن رأيتها راقدة على السرير فاقدة الحياة تملَّكني هذا الإحساس بأني ارتفعت حتى السماء، أطل منها على صغائر الأمور.
- نعم... ما قصصته عليكم هو ما حدث بالضبط.
- أليست هناك تفاصيل أخرى تريد أن تحكيها؟
نعم هناك تفاصيل أخرى كثيرة... ولكن ما الفائدة من الكلام؟ ما جدوى الحديث عن تلك الأيام التي عشتها قبل أن ألتقي بها، وبعدها؟ فهذه المحكمة أقيمت لهدف محدد، هو القضاء عليَّ.
- وإذا حكيت لكم هل ستسمعوني؟
النظرات مصوبة إليَّ من خلف العوينات... إطارها معدني، وأضواء القاعة تنعكس في زجاجها... رعشة تجتاز صفوف الجالسين، وتهز الأرواب السوداء ثم تستكين.
- ينبغي للمحكمة أن تتعرف على كل شيء حتى تصدر حكمها على أسس سليمة... ونريد أن تساعدنا في ذلك.
رأيت هذا الفم من قبل... هل في المعتقل؟ لماذا أنشغل الآن بهذه الأشياء التافهة... ألأني أقترب من النهاية؟ من الموت؟ أسجل آخر الفصول بدقة قبل أن أمضي، وكأني سأحمل كل هذا معي... كل الأشياء يحيط بها صفاء غريب... حتى الماضي البعيد، أصبح واضح القسمات، لا يكتنفه غموض... هذا الفم... لا... لم أره في المعتقل... رأيت أفواهًا كثيرة في حياتي... الشفاه كالعيون، كالأيدي، لها لغتها... تتحدث عن الإنسان... آه... تذكرت الآن.. فم كالمصيدة.. شفتان رفيعتان تختفيان، وعصا مرفوعة تستعد للهبوط على جسمي.. ناظر المدرسة التي قضيت فيها خمس سنوات.. عضو الإرسالية يقود الصلاة كل صباح، ويقرأ في الإنجيل والتوراة... رجل إنجليزي اتضح فيما بعد أنه كان يعمل في المخابرات البريطانية.
يريدون أن يعرفوا كل شيء حتى يحكموا الطوق حول رقبتي.. لا بأس... هل يمكن أن تكون مواهبي وقدراتي هي التي قادت خطواتي إلى هذا القفص؟ أشعر بابتسامة تزحف على شفتي... معرفتي باللغة الإنجليزية مثلًا.. هل يمكن أن تكون هي التي انتهت بي إلى هذا المكان؟ اللغة تفتح أبوابًا كثيرة... ولكن لماذا طرقت باب «روث هاريسون» بالذات؟ أم هي التي طرقت بابي؟ وإن كانت هي التي طرقت بابي، لماذا فتحته هكذا على مصراعيه... لا.. في البداية كنت حذرًا، متحفظًا... جزء مني يقدم، وجزء يقاوم... ولكن في أعماقي كانت هناك أشياء مهدت الأرض لما حدث فيما بعد.
تنبهت إلى الصوت الرتيب الأجوف يسألني:
- كيف التقيت بالسيدة «روث هاريسون»؟
أرى عينيك المفتوحتين تنظران إليَّ من فوق الوسادة... ذهبت يا «روث»، ولن تعودي... أريد أن أتتبعك حيث رحلت لأراك، وأعرف ماذا تفعلين... أحداث هذا اليوم تبعث أمامي من جديد، كما بعثت من قبل مئات المرات، وكأنها جزء لا ينفصل من وجودي... أغلق باب الحجرة في صمت، وأعود إلى جلستي بجوار النافذة... أشعر بنظرات جعفر الباردة تنفذ إليَّ... بؤرة مظلمة تنمو، وتنتشر في جسمي... طلقة رصاص.. طلقة واحدة وألحق بك... لا أحتاج إلى خيال لأتصور ما سيحدث بعد الآن... سيأتون في سياراتهم الرمادية الفاتحة، ويضعون حول يديَّ القيود الحديدية.. قيودًا من الصلب الرفيع، لها أسنان كالمشط، حتى يمكن إحكامها حول معصمي.. قيودًا مستوردة حديثًا، غير تلك القيود الإنجليزية العتيقة التي كنت أستطيع أن أفلت يدي النحيلة منها بسهولة.. نعم أنا أعرف كل التفاصيل، بل أدق التفاصيل التي سأعيشها بعد أن رفع جعفر سماعة التلفون وتحدث إليهم.. أعطيته الرقم الذي كنت قد دونته في المفكرة الزرقاء الصغيرة... كانت هدية منك... وأرقام التلفونات التي كنت أستخدمها قمت أنت بتسجيلها فيها... من الأفضل أن ينتهي كل شيء عند هذا الحد.. رصاصة واحدة ستتيح لي أن ألحق بك.
خطواتي تقودني مرَّة أخرى إلى حيث ترقدين فوق السرير... شعرك الغزير المتمرد يرقد مستسلمًا فوق الوسادة.. والدماء تزحف حمراء فوق المساحات الشاحبة... أصابعي تلمس جلدك الناعم، وتتراجع بحركة لا إرادية سريعة، كأن البرودة المنبعثة منك لسعتها.. أشعر أنني أفيق بالتدريج إلى وجودي.. إلى أنني ما زلت أنا، أو ربما أصبحت أنا من جديد خليل منصور خليل... ينتابني في لحظة شعور غريب، كأنني تحررت منك، وعدت كما كنت خليل منصور خليل الذي كان معروفًا للناس - نعم - ولم يكن رجلًا نكرة... في السنين الأخيرة دفعت ثمن نسياني له، وكان الثمن غاليًا بكل المقاييس.
- المحكمة تنتظر إجابتك.. كيف التقيت بالمدعوة «روث هاريسون»؟
السؤال يتردد في القاعة من جديد، ولكني أكاد لا أسمعه... ففي هذه اللحظة أحس بحنين غامض يتيقظ في صدري... أحاول أن أنحيه جانبًا، ولكنه يلح عليَّ... عندما قابلتك، كان فيك شيء غير عادي، بل أشياء غير عادية تضفي عليك جاذبية طاغية... وكنت تنتفضين بالحياة كالمهرة... قضيتُ الفترة الماضية وحدي في الزنزانة.. حاولت أن أتذكر ما حدث بترتيب منطقي.. بدأت من البداية، بل قبل البداية.. فلكل بداية جذور في الماضي، يصعب معها أن تحدد بالضبط نقطة البداية.. أشياء تمهد لأشياء... وأنا أدرك أن ثمة عوامل مهدت السبيل لما حدث... عوامل معينة شكلت تصرفاتي، وصاغت ردود فعلي... وإذا كان لا بد من تحديد لنقطة البداية فلأحددها بتلك الأمسية التي رن فيها جرس التلفون في بيتنا... أمسية صيف فيها براءة عطر.. البيت المدهون بالجير الأبيض نائم بين الحقول.. لا يفترق في قليل أو كثير عن عشرات البيوت التي أقيمت في ضاحية دار السلام إلا في أن له سطحًا، وضعنا فوقه بعض المقاعد الملونة، وأواني من الفخار تطل منها زهور بنفسجية، وحمراء.
كانت أمينة تسكن في هذا البيت منذ أن استقلت عن أبويها.. تزوجنا بعد خروجي من السجن بمدة لا تتجاوز السنة، واستقرت بنا الحياة في نفس المكان.. وجدنا هذا الحل مناسبًا... الموارد المالية اللازمة لاستئجار منزل آخر، وتأثيثه تعوزنا.. وعملنا نحن الاثنين قريبًا منه في حلوان... فرضينا بالحجرات الثلاث، والحقول، والهدوء، والإيجار المتواضع الذي لم يتعد العشرين جنيهًا.
أمسية صيف أجلس فيها على مكتبي، وأراجع عقد التصنيع مع مؤسسة «لا روشيل» الفرنسية... رن جرس التلفون.. شعرة من الخوف الغامض ترتعش في أعماقي... موجة صغيرة من القلق في الليل الصامت... الأجراس ما زالت قادرة على أن تفزعني.. ربما لأني وحدي... أمينة غائبة في المنيا تزور إحدى صديقاتها.. شعرة رفيعة من الخوف تخترق حاجز الزمن، وتصعد من مكان بعيد في أحشائي.. في السنين الأخيرة أصبحت أخاف أشياء كنت لا أبالي بها كثيرًا.. وأصبحت أقبل أشياء كنت أرفضها في الماضي... وهذا الإحساس يضايقني... أبحث عن مبررات لنفسي... السن، والنضوج، والتجارب.. ولكن هذه المبررات لا ترضيني في كل الأوقات.. ولا تستطيع دائمًا أن تسكت ذلك الصوت الداخلي الخافت الذي يلح عليَّ أحيانًا، والذي يجعل عينَي أمينة تتبعانني وأنا أتحرك في المنزل... فأتيقن مرَّة أخرى من قدرتها الفائقة على التقاط أدق الإشارات النفسية... عندئذ أعرف أنني سأتذكر سعيد أبو كرم.. فلسبب ما هناك ارتباط وثيق في ذهني بينهما... ربما لأني التقيت بهما تقريبًا في نفس الفترة.. أو لأنهما متشابهان في بعض النواحي... وهما أعز شخصين في حياتي.. يمثلان بالنسبة إليَّ صفات أعتقد أنني أفتقدها... ولكن هذه الحقيقة تولد لديَّ أيضًا شعورًا فيه ضيق، خصوصًا عندما يتفقان في الرأي ضدي.. عقلي يقول لي إنهما ربما يكونان على حق... ولكني أحس وكأن أمينة تبتعد عني، وتنال من كبريائي بوقوفها مع سعيد أبو كرم في الرأي.
كانا ماثلين أمامي في تلك الأمسية وأنا أراجع عقد التصنيع للمرَّة العاشرة.. ففي فترات الصراع التي مررت بها منذ أن قادتني خطواتي إلى شركة «طيبة للأدوية» وإلى المنزل الصيفي المنزوي وسط الحقول، كان لكليهما دور له أهميته بالنسبة إليَّ.. دون أن يرتبط هذا الدور دائمًا بتدخل ملموس من جانبهما. فقد أصبحا جزءًا مني، أحملهما في نفسي أينما ذهبت.
لم أكن قد تحدثت إليهما عما دار في الأسبوعين الماضيين، ولا عن الاجتماع الذي تم منذ بضعة أيام مع رئيس مجلس إدارة الشركة... فما زالت المسافة الوظيفية التي تفصل بيني وبين سعيد تلعب دورها في بعض الأحيان.. إننا صديقان، نتعامل على قدم المساواة... ولكن اعتزازه بشخصيته، وثقته الكاملة في قدراته، بينما ما زال لا يشغل سوى وظيفة ملاحظ عمال، كانتا تسببان لي نوعًا من الغيظ... في قرارة نفسي أشعر أنه أفضل مني لأنه يواجه الأمور بحسم.. فأحاول أحيانًا تعويض هذا الشعور بالوقوف على السلم الإداري.. فالسلم الإداري خلق لكي يحقق أغراضًا كثيرة... الظاهر منها توزيع العمل والمسؤولية.. والواقع الذي يخفيه هو التغطية على الفساد وعدم الثقة بالنفس.. وعلى استغلال يمارسه الرؤساء على المرؤوسين.. لم أكن مشاركًا في هذه الأشياء.. ولكني في نفس الوقت كنت أتكئ عليها عندما أحتاج.. أما أمينة فقد كانت غائبة في المنيا.. ولذلك لم أتمكن من إخبارها بما حدث.
طوال الفترة الماضية وأنا أنقب في أعماقي.. كان لا بد أن أعي ما جرى بالضبط، ولماذا... أقضي الساعات الطويلة في الزنزانة مع نفسي.. فقد طبقوا عليَّ نظام الانفراد منذ أول لحظة.. ربما يقال إن عملية الاستكشاف الداخلي هذه لا جدوى منها.. فأنا رجل محكوم عليه بالموت... أو هكذا أدركت بعد مدة قصيرة... ولكن الموت ليس دائمًا هو النهاية، إذا كان لدى الإنسان أشياء يريد أن يتركها للناس.. وأنا لا أقصد الإرث بمعناه المادي، كالعقار، أو الأموال المودعة في البنوك.. فالناس سرعان ما ينسون أسماء أصحاب العمارات حتى وإن كانت فاخرة... والناس سرعان ما ينسون أسماء من ملكوا السندات والأسهم، أو شركات المشروبات الغازية، ولكن هناك أحداثًا، وأشخاصًا لا ينسون أبدًا.. وأنا لست ممن يطمعون في أن يخلدوا.. ولكني عندما قضيت الساعات الطويلة مع نفسي، أحسست أن لديَّ ما أريد أن أقوله.. أن تجربتي ربما تهم الآخرين.. وقد تبدو ولأول وهلة ذات طابع فريد، وإنها تفتقد لذلك مدلولًا عامًّا.. ولكنها في الواقع ليست كذلك... وكلما فكرت في الأمر يزداد شعوري بأن كل ما حدث لي يجسد الحياة التي أحاطت بنا في المرحلة الأخيرة بالذات.
أنا أؤمن بالصدف لأنها الوجه الآخر لقانون الاحتمالات... ولكني أعتقد أن كثيرًا من الأشياء التي تبدو وكأنها تقع بالصدفة هي في الواقع نتاج طبيعي لسلسلة من التطورات... هذا ما وصلت إليه بعد تفكير... وقصتي مع «روث هاريسون» في رأيي دليل على ذلك.. فقد أدركت أن لقائي معها، وما تبعه فيما بعد من أحداث، لم يكن سوى تطور يضرب بأصوله وجذوره عدة سنوات إلى الوراء.
لقد حاولت أن أفهم نفسي.. أن أشرحها.. أن أستعيد تلك التجربة التي عشتها بكل بغضها، وحرارتها، ومرارتها.. وليس من السهل أن يصل الإنسان إلى فهم نفسه... ولكني أحاول.. وربما يكون التفكير في مثل هذه المسائل هو الذي حماني من الجنون حتى الآن... فقد كنت مشغولًا في عملية استكشاف صعبة ودقيقة طوال الشهور الماضية... وما أصعب البحث عن حقيقة النفس وتعقيداتها.. فالعلماء قادرون على كشف النقاب عن ظواهر، وقوانين كثيرة... ولكنهم ما زالوا يتعثرون أمام العمليات التي تحرك عقل الإنسان ووجدانه.. فرجال الفن يشرحونها، ويجسدونها أحيانًا، وكذلك رجال العلم.. ولكننا في حاجة إلى علماء فنانين، أو فنانين علماء لإدراك وفهم كل أبعادها، والتفاعلات التي تقوم بينها وبين ما يحيط بها.
هكذا يبدو لي وأنا أجلس هنا في القفص أسترجع ما فات... وأعود إلى تلك الأمسية التي لا أنساها أبدًا، والتي رن فيها جرس التلفون رنينًا متصلًا، فقطع عليَّ تأملاتي وأنا منهمك في قراءة بنود العقد... مصباح المكتب يلقي مساحة دائرية من الضوء حول المكان الذي أجلس فيه تاركًا باقي الحجرة في الظلام.. فنجان القهوة أمامي يشع برائحة البن، والمستكة... لم يطلب لي الرجل فنجانًا من القهوة كما كان يعمل في كل المرَّات... أشياء صغيرة تدل على صغر الشخصية... أجلس في حجرته، وأدور بعينيَّ حول الجدران... صور رأيتها عشرات المرات، فسئمت رؤيتها.. رئيس مجلس الإدارة يصافح بعض الضيوف الأجانب.. رئيس مجلس الإدارة يتحدث مع الوزير في افتتاح المصنع الجديد.. رئيس مجلس الإدارة يلقي خطبة على العاملين في الشركة بمناسبة ثورة التصحيح.. المكتب الذي يفصل بيننا يبدو أكثر ضخامة من المعتاد... ومائدة الاجتماعات منزوية، مهملة في الطرف الآخر للحجرة.. حجرة بلا ملامح محددة.. فهي ليست مستديرة، أو بيضوية، وهي ليست مربعة، أو مستطيلة، إنما تكاد تجمع بين كل هذه الأشكال.. ولا يغلب على أثاثها طابع مميز يمكن وصفه بالأناقة أو الإهمال، النظام أو الفوضى، الإشراق أو القتامة.. مجرد مساحة صفت فيها المقاعد، والرفوف، والدواليب، والموائد، وآلة لتصوير المستندات، وأكوام من الملفات، والنشرات.
رئيس مجلس الإدارة رجل يتميز بأن صوته يمكن أن يهز زجاج النوافذ، وبأن قوامه طويل للغاية.. الصوت القوي مخصص للمرؤوسين، والقامة الطويلة مركزة في الجزء الأسفل من الجسم بحيث يبدو قصيرًا عندما يجلس خلف المكتب.. أنتظر حتى يفرغ من الأوراق التي يفحصها باستغراق، كأنه لم يلاحظ وجودي.. العينان صغيرتان، عصبيتان، وحركة اليدين والشفتين تنم عن قلق مكتوم يفرِج عنه في انفجارات من الغضب أو الضحك لأسباب كثيرًا ما يصعب فهمها.. الرأس صغير مضغوط فوق وجه مستطيل، والأسنان تظهر كبيرة صفراء عندما يضحك... يتراءى لي بعض الليالي في حلم غريب.. حصان يجلس خلف مكتب ضخم... يميل إلى الوراء، ويضرب بحوافره على السطح الممتد أمامه، وأنا أتطلع مشدوهًا إلى فتحتي الأنف، والعينين المحتقنتين.
يرفع رأسه عن الأوراق ويقول:
- هذا التقرير عن اتفاقية التصنيع مع مؤسسة «لا روشيل»، أريد منك أن تعدل فيه.
- لماذا؟
- سيضر بمصالح الشركة إن وافقنا عليه... فالمستحضرات التي ستنتج بمقتضاه يمكن أن تجلب لنا ربحًا وفيرًا.
عيناه لا تتوقفان عن الدوران حول الحجرة... كالفئران عندما تحس بالحصار... أورثه أبوه خمس أجزخانات في الغربية أضاف هو إليها مصنعًا في القاهرة ومكتب استيراد... دخل القطاع العام ليعشش فيه، ويحمي مصالحه إلى أن تمر العاصفة التي أطلقتها التأميمات في سنة 1961. واكتشف مع الكثيرين من طبقته أن عبد الناصر تغافل عن حقيقة مهمة... القطاع العام إذا لم يسيطر عليه تحالف الطبقات الشعبية يتحول إلى تربة صالحة، بل وأداة لخدمة الرأسمالية ونموها.
- لست معترضًا على أن تربح الشركة، ولا على تصنيع المستحضرات التي لم يسبق لنا إنتاجها لأنها تحتاج إلى خبرة، أو دراية خاصة... اعتراضي مُنصبٌّ على التوسع في الاتفاق بحيث يشمل كثيرًا من المستحضرات التي نستطيع أن ننتجها دون مساعدة من أحد... فهذا التكرار سيكون على حساب إنتاجنا، وأرباحنا، وعلى حساب صناعة الدواء عمومًا.
دعوه في الشهر الماضي إلى فرنسا لزيارة مصانعهم.. عاد متورد الوجنتين، يضع حول معصمه ساعة «رولكس» جديدة، ويشد بأصابعه المتوترة على رباط عنق لونه بنفسجي يختبئ في ثناياه مستطيل صغير من الحرير الأبيض طبعت عليه شارة «جاك فات»... وبدلًا من الاستطراد في «غنج نساء المنصورة» و«فوائد الحسيس، والصلاة» أصبح يتحدث بلغة العارفين عن شوارع باريس، ومطاعمها، ونبيذها القرمزي ذي النكهات المختلفة، وعن بنات الليل اللاتي يمارسن الجنس على الطريقة الفرنسية.
هكذا وضع قدميه على عتبة الانفتاح نحو عوالم تشترى فيها الذمم السهلة بالعملات الصعبة، وتختلط فيها الحوافز الفردية بكؤوس الخمر، وسيقان النساء الشقراوات... انتقل إلى مرحلة جديدة في الحياة تضاف إلى مراحل سابقة، نقلته من زراعة الفدادين على بعد عشرة كيلومترات من شبين الكوم، إلى تجارة الأدوية في طنطا، ثم من صفوف أغنياء التجار في الغربية إلى زمرة المستوردين، وأصحاب المصانع في القاهرة، حتى قرر عبد الناصر تأميم الاستيراد ومعامل الأدوية.
رجل فيه ذلك النوع من الذكاء الذي يجعله يسبح مع التيار، ويستفيد منه إلى أقصى حد... ظل محتفظًا بقدر من الشهامة والطيبة التي تميز بعض الذين نشأوا في الريف، ولكنه تعلم في المدينة كيف يخضع هذه الصفات إلى منطق المصلحة أساسًا، وإن كان يعود إلى تلقائيته في بعض الأحيان.
كان كل منا ينتمي إلى عالم مختلف بحكم تربيته، وظروفه.. نقترب بعض لحظات الصفاء، ولكن العلاقات بيننا رسمية في أغلب الأوقات.
قطع عليَّ حبل تأملاتي:
- هل معنى ذلك أنك ترفض تعديله؟
- لقد عبرت عن رأيي في مسألة تتعلق بصالح الشركة، ولا أرى مبررًا لتغييره.. وفي النهاية لست أنا الذي يملك القرار، بل أنت.. فإن كنت ترى الموافقة على العقد كما هو، فهذا شأنك... ولكنك لا تستطيع أن تجبرني على قول ما لا يتفق مع رأيي.
أضغط على نفسي حتى أتحدث بهدوء... والهدوء لا يضعف موقفي... ولكني أشعر أن وراءه تختبئ الرغبة في استرضائه... فما الفائدة من الوقوف ضد الموجة الجارفة التي بدلت، وغيرت كثيرًا من الأشياء؟ ولكن الذي أخشاه بالضبط: فقدان الوظيفة احتمال بعيد، وإن حدث، فعلى الأقل سأتخلص من ذلك الشعور بالصغر والعجز الذي ينتابني في كثير من الأحيان... سأضطر للبحث عن عمل آخر غالب الظن أنه لن يختلف في شيء عما أنا فيه... والاهتداء إلى عمل آخر لشخص مثلي لن يكون من السهل.. مع ذلك فإن أمان الوظيفة وهم، وقيد يشل الإرادة، والقدرة على الاقتحام... ربما إن استغنيت عنه سيبتلعني السعي وراء لقمة العيش، وهذا ما أكرهه.. أليس هناك سبيل للإفلات من هذه الدوائر المغلقة؟ لست أنا الذي يجب أن يخاف بل هو... أتأرجح بين الأفكار... عيناه تتفرسان في وجهي ثم تهربان إلى ركن بعيد.. ضغط على الجرس، فدخل الفرَّاش، ووقف ينتظر أوامره.
- أريد فنجانًا من القهوة، وعلبة سجائر «كنت».
لم يطلب لي فنجانًا من القهوة هذه المرَّة.. الدماء تصعد إلى رأسي.. ترددت لحظة... مسألة بسيطة لا تستحق الاهتمام... ولكن فجأة أحسست أنها أهم من كل ما حدث حتى الآن، من كل المعركة الدائرة بيننا... إنه يقول لي من طرف خفي... أنت لست سوى موظف مرؤوس لي... أنت لا شيء... قلت:
- يا علي... أحضر لي أيضًا فنجانًا من القهوة، سكر قليل.
أسمع أصابعه تنقر على المكتب في عصبية... توقف الفرَّاش لحظة عند الباب، كأنه أحس بما يجري، ثم فتحه وخرج.. أعرف من احتقان العينين أنه غاضب يدرك أنني أتحداه... يمتلكني إحساس بالانتصار... أطل من فوق مرتفع وتبدو كل الأشياء تحتي صغيرة، تافهة، لا صلة لها بي.
- إذا كنت لا تستهدف سوى مصلحة الشركة لماذا كتبت عن الموضوع في صحيفة «الجماهير»؟
وصلنا الآن إلى بيت القصيد... طالما أن المسائل تتم في الحُجرات المغلقة، فلا داعي لأن يقلق... ولكن العلانية تكشف... المعرفة هي الخطوة الأولى في كل تحرك... أظل صامتًا، فيستطرد:
- لماذا لا تنتبه إلى حالك، وتترك هذه المسائل؟ اسمع نصيحتي، ولا داعي للبحث عن المتاعب... ربما لا تعلم أن الوزير يفكر في إحالتك إلى التحقيق... هذا سرٌّ ما كان لي أن أبوح به... ولكني أريد أن أحميك كموظف تعمل معنا في الشركة.
الآن يستخدم النصائح الأخوية كستار للتهديد.. تُرى هل صحيح ما قاله عن التحقيق؟ حلقي يجف.. أمد يدي إلى كوب من الماء وضع فوق المكتب، وأرتشف منه قليلًا... عيناه تفحصانني بدقة.. نفس النصائح الأخوية، ونفس النظرات الفاحصة من العيون الصغيرة تطاردني منذ أن كنت شابًّا في مدرجات الجامعة.. رجل يرتدي بزة سوداء، وعلى كتفيه قطع من النحاس تلمع... يرفع سماعة التلفون ويقول:
- أطلقوا سراحه هذه المرَّة... وبعد ذلك، سنرى.
ليست لي رغبة للتحدث مع أحد، ولكن رنين التلفون يأبى أن يتوقف، كأن شخصًا ما يعرف أنني موجود في المنزل... قمت من مقعدي ورفعت السماعة.. أسمع صوت امرأة تقول:
- هالو.
قلت:
- آلو.
تتحدث بلغة عربية تتخللها لكنة أجنبية واضحة.
- هل هذا منزل الأستاذ خليل منصور خليل؟
- نعم.. مَن حضرتك؟
- أنا اسمي «روث هاريسون».
عضو اليمين يذكرني بالنحاس باشا... لا ينقصه سوى الطربوش... والوجه الطيب، والحول، والفم العريض يعلوه شارب كفرشاة الأسنان.. عين واحدة بالذات تتفرس فيَّ باهتمام... يميل إلى الأمام ليلتقط كلامي... يهز رأسه هزات خفيفة أستشف منها القبول، فيعوضني عن حياد رئيس المحكمة البارد، الملول... ظلال النهار تتبدل فوق الملامح المطلة عليَّ من أعلى، كالتماثيل... كمعبد «رمسيس»... النهر العريض، والقلوع بيضاء في ضوء الأصيل... أعود من هناك... أعود من بعيد.
لماذا لا يتركون لي فرصة التعبير؟! رئيس المحكمة يقول إن ما أسرده عليهم منذ يومين ليس إلا من قبيل التفاصيل... القضية مبنية على التفاصيل... لا بد إذن أن يسمعوني حتى النهاية... أن يتتبعوا التراكم التدريجي الذي أدى إلى الخطة الحاسمة... أو فليصدروا الحكم منذ الآن ويتفرغوا لأعمالهم الأخرى... هكذا سيضمنون أن تظل الحقيقة مدفونة مع «روث هاريسون».

1 comment:

  1. Titanium Art by TITanium Art by Titanium Art
    Find Titanium t fal titanium art, artwork and titanium belly button rings other iron titanium artwork trekz titanium pairing online at the titanium white wheels tithmicart.com website.

    ReplyDelete