24 October 2016

محمود عبد الشكور: كنت صبيًّا في السبعينيات



محمود عبد الشكور

كنت صبيًّا في السبعينيات
سيرة ثقافية واجتماعية

1

ذلك المساء في شقتنا بشبرا، الذاكرة الضبابية تبددها أشعة شمس حزينة، وأصوات صرخات، ووداع حزين، وألم مكبوت.

دَبت في البيت حركة غير عادية، ترحيبًا بخالي محمود - طويل القامة، واسع العينين، ويرتدي زي الشرطة. استقبله أبي في سعادة. أجلسُ قليلًا معهم في حجرة الاستقبال. بعد الترحيب والسلام والسؤال، تخرج أمي إلى المطبخ لتصنع الشاي. أتبعها كظلها. في الخامسة من عمري، طفل أقرب إلى الانطواء، يفرز الغرباء بنظرات متشككة، يطلق صيحات فزع واحتجاج عندما يشاهد الأظافر الطويلة لزائرات أمه، يختلس نظرات حذرة بعد أن يصعد مقعدًا يوصله إلى حافة بلكونة تطل على شارع «عبد اللطيف الفحام» من الطابق الخامس، يصفق في سعادة عندما يصل الحاوي وزوجته. ينام الرجل عاري الظهر على مسامير مثبتة في لوح خشبي، يطلب من المارة أن يقيدوه، ثم يفك نفسه في سهولة ويُسر، وتبخ المرأة الغاز من فمها، فتزيد النيران اشتعالًا. يصفق المارة الذين تحلقوا حول العرض المتجول، يجمع الساحر وزوجته قروشًا قليلة، أمي تمنحني قرشًا، نضعه في السَّبَت المصنوع من البوص، ننزله إلى نجوم العرض. تصفيق حار.

نجتاز معًا الصالة، أنا وأمي. أختي الصغرى نائمة في حجرة واسعة. أخي الأكبر وسط خالي وأبي. في الصالة مائدة سفرة ضخمة، ثقيلة، تحيطها المقاعد العالية، أمامها بوفيه واجهته من الزجاج، داخله أطقم الفناجين والأكواب. على أطباق صغيرة صور لشخصيات صينية، كنت أتخيلها تخرج في الظلام، تتحرك وتغني وترقص، كلها من البدناء، ثيابها الفضفاضة ملونة ومزركشة. كنت أحب اللعب أسفل المائدة، أتمدد وكأنني أسفل سيارة، تحتضن جسدي الصغير سجادة سميكة دافئة. ما زلت أعشق أن أجلس فوق سجادة، أكتب أحيانًا مستعيدًا حرية تريح الجسد، وتطلق الخيال.

لا بد أن أمي تشعر بالامتنان العميق لمن اخترع البوتاجاز، تستفيد من كل إمكانياته، شعلتيه وفرنه الصغير. مطبخها مملكتها، ولكني كنت أتبعها من دون استئذان، وكانت تخشى حماقة طفل لا يتوقف عن الاكتشاف، إلى أن اهتدت أخيرًا إلى حل: تشغلني بمساعدتها في حدود الإمكانيات، تجلب كيس الشاي من النملية ذات اللون اللبني - ارتبط عندي هذا اللون حتى اليوم بالطعام. كان الشاي في أكياس قادمة مباشرة من بقال التموين، أتذكر شاي «مبروكة»، تلك الفلاحة ذات الملابس الملونة المرسومة فوق الكيس الورقي - لا تستخدم أمي الكيس مباشرة، تعطيه لي لكي أسلمه لها بيدي الصغيرة. تسعدني الفكرة. تصنع الشاي بمزاج، وعلى نار هادئة. لا نعرف الشاي الكشري، لا بد أن تطبخ الشاي والسُّكر في الكنكة. تفتح النملية، تعطيني مكعبًا من السكر المكنة قبل أن تضيف وتقلب بالملعقة. من بعيد كانت تصلنا أصوات ضحكات خالي وأبي، ثم ساد صمت طويل. فجأة انطلقت صرخة هائلة قادمة من منور الشقة، صوت أنثوي رفيع. لحظات ثم تحولت الصرخة إلى نحيب متواصل. سمعت صوت لطمات متتالية - فتاة تلطم وجهها على الأرجح. اهتزت الكنكة من يد أمي، وجهها الأحمر تحول إلى الأصفر ثم الأبيض. حتى في لحظات الارتباك لا تنسى أمي النظام: أول ما فعلته هو إطفاء شعلة البوتاجاز. هرولتْ مذعورة لتفتح شباك المطبخ المطل على المنور، أمسكتُ كالغريق بالروب البرتقالي الذي ترتديه، انتزعتْ نفسها من أصابعي الصغيرة، فتحَت الشباك بعصبية، حاولتْ أن تنظر عبر الأسياخ الحديدية، لم تجد شيئًا، رجحتُ أن المنور كان مظلمًا.

تمالكت أمي نفسها سريعًا، التفتتْ إليَّ فوجدتني مذعورًا، ربتت على ظهري. خفت الصراخ واللطم، وحل محلهما بكاء مكتوم بعيد، صوت أقرب إلى النهنهة، يعلو ويخفت. أعادت أمي إشعال البوتاجاز، قالت في صوت مبحوح:
- لازم فيه حد مات في العمارة.
- م ا ت؟!

كررتُها مستفهمًا، لم أكن أعرف معنى كلمة «مات»، مجرد كلمة سيئة تستدعي سيدات يرتدين اللون الأسود، يبكين فأبكي. ذات جنازة أخذتُ أتأملهن واحدة واحدة، اندهشن لدهشتي، كن يغالبن أنفسهن حتى لا يبتسمن أو يضحكن، لم أعد أنظر إلى الوجوه المتشابهة، كنت أنتقل من فستان أسود إلى فستان آخر، من جورب شيفون أسود إلى جورب آخر. تشابهت أمامي سيدات الأحزان. لم أجد أمي وسطهن، فتوقفت عند خالتي، فابتسمَتْ. «م ا ت؟!». ذات مرة تسلقتُ مقعد البلكونة لأشاهد جنازة، أمسكَت بي أمي وقد اغرورقت عيناها بالدموع، على الرغم من أنها لا تعرف أحدًا من أهل الميت. وصلت سيارة سوداء تشبه العربات الملكية التي تجرها الخيول، في مقدمتها صليب، أدخلوا إليها تابوتًا أسود اللون ولامعًا. قبل أن يتحرك الموكب، كان أطفال الملجأ قد حضروا، يرتدون زيًّا موحدًا يشبه فرقة حسب الله، يحملون طبولهم وآلاتهم النحاسية، وأخذوا يعزفون مارشًا جنائزيًّا اقشعر له بدني، أسمعه الآن بوضوح. كيف احتفظت الذاكرة المثقوبة بهذا الصوت، وهي التي تتساقط منها مواعيد الأمس واليوم؟ «مات»، أي غاب فأحزنهم وجعلهم يرتدون الأسود. «مات»، أي شيء كريه ومخيف. «مات»، أي موسيقى ليست كالموسيقى. «مات»، أي صرخة قادمة من المنور ليلًا. «مات»، أي خبر يحمله أخي الأكبر:
- ماما.. ماما.. عبد الناصر مات!
هذه المرَّة كادت أمي تُسقط صينية الشاي، وهي تسمع أخي يردد كلماته مندفعًا إلى المطبخ. انفجرَت في انفعال صاخب وكأنه انفجار قاومته طويلًا:
- إوعى تقول كده! مين اللي قال الكلام الفارغ ده؟
أمسكته من ذراعه في قسوة لم نألفها، رد أخي وكأنه يُلقي بمسؤولية الجريمة على غيره:
- الراديو.. الراديو بيقول عبد الناصر مات!

لا أعرف عبد الناصر، أسمع اسمه بصورة عابرة، ربما رأيت صورته في جريدة «الأهرام» التي يشتريها أخي من أم شعبان، يسلمها إلى أبي فيقرأ وهو يشرب الشاي. أم شعبان امرأة في منتصف العمر تبيع الجرائد على ناصية الشارع، تبيع أيضًا في الصيف مشروبات غازية، «كوكا كولا» و«سيكو». هل يسكن هذا الرجل الذي بعث هذا الصراخ في العمارة؟ هل هو زوج جارتنا الست أم فايزة، العجوز التي سقطت أسنانها الأمامية ولكنها لا تتوقف أبدًا عن الكلام؟ عاد لون وجه أمي إلى البياض، دماؤها تهرب منها، ولكنها تتماسك من جديد، تحمل الصينية وهي تترنح. قبل أن نصل إلى منتصف الصالة، يستقبلنا خالي وقد ارتدى الكاب، يستأذن متعجلًا. أبي خلفه، بالبيجامة، يبدو كما لو كان تقدَّم به العمر عشر سنوات، مذهولًا لا يجد كلامًا. أسمع من بعيد صوت القرآن في الراديو، أمي تطلب من خالي أن يشرب الشاي بسرعة. يقول خالي وكأنه ذاهب إلى يوم الحشر:
- لازم أنزل، الدنيا زمانها مقلوبة!

أصوات صراخ جماعية بعيدة قادمة من الشارع. يفتح خالي الباب بنفسه. تذهب أمي لتطمئن على أختي الصغرى. يجلس أبي على مقعد، يتناول سيجارة ويُدخن. لو تجسدت المصيبة على وجه إنسان لكان هذا هو وجه أبي. ليته بكى لحظتها، ليته بكى مع جلال معوض وهو يصف الجنازة. جلس أبي صامتًا بجوار الراديو، جلسنا جميعًا حوله، أكاد أختنق، أخشى أن أبكي، أخشى أن أتنفس. ليته بكى، فربما ما كانت آلام القولون لتلازمه حتى اليوم الأخير من حياته.

بعد أسبوع واحد من الجنازة الرسمية، سقط أبي مريضًا. لم يكن ناصريًّا. قال لي بعد سنوات طويلة:
- تحطمت كل أحلامنا مع هذا الرجل! خذلنا جميعًا!

لم يكن أبي من دراويش عبد الناصر، ولكنه كان مؤمنًا بأنه زعيم استثنائي، موته مأساة، وموته والبلد مهزومة، بالذات، مصيبة المصائب.

منقوشة على صفحة الذاكرة المسموعة عدودة المصريين على جمال، لا أتذكر أين سمعتها:
الوداااع يا جمال
يا حبيب الملايين
رددها الملايين في جنازته، عرفت فيما بعد أن صاحب لحنها هو الفنان عبد الرحمن عرنوس، الأستاذ بأكاديمية الفنون. من كتاب أخي للقراءة سمعته يردد قصيدة: «اسمه في فمي.. لا تقولوا الوداع». منقوشة على صفحة الذاكرة تلك الجنازات الشعبية الرمزية التي تكررت في شارعنا: يحملون تابوتًا من الخشب، ويسيرون خلفه فارغًا في جنازة مهيبة، ويهتفون بحياة جمال. عرفت أن تلك الجنازات انتشرت في كل قرية وشارع في مصر، من الشمال إلى الجنوب. أمي أخرجت فستانها الأسود، كل نساء العمارة ارتدين السواد حتى بعد أسابيع من الوفاة. حزن حقيقي استدعى أحزانًا أعمق، حزن على وطن، وكأنهم استدعوا أحزان الأجداد على كل الراحلين، وكأن البكاء سيوقف اللحظة، سيُحنِّطها، ويلفلفها في ثوب من الأسود الشفيف. لو لم أكن شاهدًا ما صدَّقت، لو لم أكن هناك ما كتبت، لم أشهد قَطُّ حزنًا جماعيًّا كهذا الحزن.

ذلك المساء، بكل تفاصيله، أصبح عندي مبتدأ الذاكرة، على الرغم من أنني ولدت قبل هذه الليلة بسنوات خمس، ولكني لا أتذكر مما قبلها سوى ومضات متباعدة: «غارة، غارة، طفُّوا النور»، لمبة خمسة بضوئها الخافت بجوار السرير، ساحر المسامير والنار، زمارة بائع الدندرمة، بلحة يابسة منحها لي صاحب محل بقالة في أثناء التسوق مع أمي، ديك رومي عملاق أفزعني، تهت من أمي فوجدَتني في زحمة السوق، جورنال وحاجة ساقعة، رمال اكتسحت البلكونة ذات خماسين، ذلك الحائط الطوبي الذي لم أعرف وظيفته في مدخل البيت، عم ملاك البواب وزوجته البدينة أم بيسة، عم صابر الحلاق يأتي ليحلق لنا في البيت، والصينيون فوق أطباق الشاي الصغيرة يتقافزون على السجادة الدافئة وسط الظلام.

وفاة عبد الناصر ليست فقط مفتتح ذاكرتي وحكايتي، ولكنها نهاية عصر وبداية زمن آخر. لم أُدرك ذلك وقتها، لا أتذكره لا منتصرًا ولا منهزمًا، لم أشاهده إلا مرَّة واحدة لم تتكرر في تلفزيون السبعينيات بالأبيض والأسود - لا أدري كيف أفلتت تلك الثواني القليلة في عز زمن السادات - ولكن تلك الليلة من أيام سبتمبر عام 1970 كانت فارقة. عندما كبرت وقرأت وكتبت، انتقدت كثيرًا كوارث الحقبة الناصرية التي انتهت إلى هزيمة عسكرية مروعة وغير مسبوقة، والتي ساهمت في تكريس الدولة البوليسية، ولكنني أعطيت الرجل حقه، وصفت ما شاهدت من دون مبالغة، ولم أجادل قَطُّ في عدة أمور، يعد الجدل فيها إهانة للعقل وللتاريخ وللحقيقة:
1- عبد الناصر حاكم وطني.
2- هو الحاكم الوحيد الذي كان حقًّا وصدقًا ظهرًا للغلابة من بين كل رؤساء مصر من دون أن نستثني حاكمًا بعد 1952.
3- انحيازه للفقراء لم يكن ادعاءً بل كان حقيقيًّا، كان انحيازًا واتساقًا مع تاريخه الشخصي كرجل كان والده يعمل ساعيًا للبريد. عبد الناصر دخل الكلية الحربية من دون واسطة، لأنه ببساطة لم يكن يملكها.
4- كان عبد الناصر طاهر اليد والذمة، لم يتربح قَطُّ من منصبه، على الرغم من أنه كان يمتلك سلطات فرعون.
5- لم يحكم عبد الناصر قَطُّ من دون تأييد شعبي جارف، بل إن شعبيته كانت تمتد من المحيط إلى الخليج، وقد اندهشتُ، في مقال كتبته منذ سنوات، أن تكون له هذه الشعبية ثم يرفض التحول إلى نظام تعددي ديمقراطي. حتمًا كان سيكتسح أي منافس في أي انتخابات.

حزن عليه المصريون كما لم يحزنوا على أحد، وهم كانوا قد أعادوه إلى منصبه: في يونيو 1967، ألقى عبد الناصر خطابًا اعترف فيه بهزيمة عسكرية فادحة دمرت الجيش تقريبًا، وجعلت سيناء تحت الاحتلال، قال إنه قرر التنحي عن السلطة، فخرج آلاف المصريين يطالبون ببقائه في منصبه.

سألت كثيرين ممن عاشوا تلك الفترة، بمن فيهم أبي، كلهم أجمعوا على أن أحدًا لم يحرك الناس في الشوارع وفي كل المحافظات تقريبًا. ما هذا الشعب العجيب الذي يستبقي حاكمًا مهزومًا؟! عندما عدت إلى التاريخ وجدت تفسيرًا معقولًا جدًّا: كان المصراوية يردون الجميل، لم ينسوا قَطُّ أنه جبر بخاطرهم وأحبهم، فقرروا ألا ينكسر أبدًا أمامهم، قرروا أن يساندوه بلا تحفظ، كما فعلوا عام 1956، اعتبروا انكساره انكسارًا للوطن كله، جعلوا الرجل رمزًا، حملهم على أكتافه فحملوه. التاسع والعاشر من يونيو 1967 لم تكن مظاهرات غير مفهومة لإعادة الفرعون، ولكنها ذكرى وفاء المصراوية العظيم، الذين لا يتركون أبدًا حاكمًا أحبهم وأراد أن يخدمهم، والذين لا ينسون أبدًا حاكمًا أساء لهم ولم يخدمهم. لو أحب الحاكم المصراوية وعمل لصالح الغلابة، سيفعل الشعب من أجله المستحيل، يوم وفاة عبد الناصر وجنازته أمثولة رمزية.

الذاكرة الضبابية
تبددها أشعة شمس حزينة
أصوات صرخات
وألم مكبوت
ذلك المساء
في شقتنا بشارع شبرا
هو مفتتح الحكاية الطويلة.

16 October 2016

لودميلا أوليتسكايا: صونيتشكا



لودميلا أوليتسكايا

صونيتشكا

ترجمها عن الروسية
عياد عيد



منذ الطفولة المبكرة، وما إن تخطت «صونيتشكا» أعوامها الأولى، حتى غرقت في القراءة، وكان متندرُ المنزل - شقيقها الأكبر «إيفريم» - يُردد باستمرار الدعابة نفسها التي بدت قديمة الطراز مذ أطلقها:
- لقد اكتسبت مؤخرة «صونيتشكا» شكل الكرسي بسبب قراءتها التي لا تنتهي، واكتسب أنفها شكل الإجاصة.
لم يكن - يا للأسف - ثمة أي مبالغة في دعابته، فأنفها فعلًا مُبهم الخطوط وأشبه بالإجاصة، أما «صونيتشكا» نفسها فكانت طويلة القامة نحيلتها، وعريضة المنكبين، وذات ساقين جافتين ومؤخرة ضامرة لكثرة الجلوس، ولم يكن لديها من المفاتن سوى نهديها الكبيرين كنهود القرويات، واللذين نموَا مبكرًا، وعلى نحو لا يتناسب مع جسدها النحيف. انحنى كتفاها واحدودب ظهرها، وكانت ترتدي أثوابًا طويلة فضفاضة لخجلها من الثروة التي لا طائل منها في الأمام، والتسطُّح المقيت في الخلف.
شقيقتها الكبرى المتعاطفة معها، والمتزوجة منذ زمن طويل، تحدثت بشهامة عن شيء من الجمال في عينيها، لكن عينيها كانتا عاديتين، وغير كبيرتين، وعسليتين. صحيح أن رموشها الكثيفة كثافة نادرة قد نمت في ثلاثة صفوف، جاذبة إلى الأسفل حافة جفنها المتورِّم قليلًا، لكن لم يكن ثمة جمال خاص في هذا أيضًا، لا بل كان في الغالب مُزعجًا، لأن «صونيتشكا» حسيرة النظر، وتضع نظارات على عينيها منذ الصغر.
ظلت «صونيتشكا» تقرأ بلا انقطاع عشرين عامًا بالتمام والكمال، منذ السابعة من عمرها حتى صارت في السابعة والعشرين. وكانت تغرق في القراءة كمن تصاب بغيبوبة فلا تستفيق منها إلا مع آخر صفحة من الكتاب.
امتلكت موهبة عجيبة في القراءة، أو ربما عبقرية من نوع خاص، وكان ولعها بالكلمة المطبوعة عظيمًا إلى حد أن الأبطال المتخيلين كانوا عندها في صف واحد مع مقربيها الأحياء، فكانت في نظرها عذاباتُ «نتاشا روستوفا» النقية قُرب سرير الأمير المحتضر «أندريه» مساوية بصدقها للمصيبة الأليمة التي لحقت بشقيقتها حين فقدت ابنتها ذات الأعوام الأربعة بسبب إهمالها الغبي، حيث راحت تُثرثر مع جارتها ولم تلحظ كيف سقطت طفلتها السمينة الخرقاء ذات العينين الناعستين في البئر.
ما هذا؟ - أهو عدم فهم تام للعبة التي يبنى عليها أي عمل فني، وسرعة تصديق مذهلة من طفلة لم يكتمل نموها بعد، وانعدام مخيلة يؤدي إلى تحطيم الحدود بين الوهمي والواقعي؟ أم أنه - على العكس من ذلك - ابتعاد منكر للذات إلى منطقة المتخيل، يجعل كل ما هو واقع خارج حدوده بلا معنى وبلا محتوى؟
لم تكن قراءة «صونيتشكا»، التي تحوَّلت إلى شكل خفيف من أشكال الجنون، تفارقها حتى في أثناء نومها، فكانت بطريقة ما تقرأ مناماتها أيضًا. راودتها في أحلامها روايات تاريخية مشوقة، وكانت تُخمن من طبيعة أحداثها نوع خط الكتاب، وتشعر على نحو غريب بالفقرات والفواصل. أخذت هذه العزلة الداخلية المرتبطة بولعها المَرَضي تتعمق في منامها، فصارت تبرز هناك كبطلة مُطلقة، أو بطل مُطلق، على الحافة الضيقة بين إرادة الكاتب التي تعرفها سلفًا وسعيها الذاتي إلى الحركة والفعل والسلوك...
كانت «السياسة الاقتصادية الجديدة» تلفظ أنفاسها الأخيرة، فاضطر الأب، سليل الحداد المحلي من بيلاروسيا، والميكانيكيُّ بالفطرة والذي لا تنقصه المهارة العملية أيضًا، إلى أن يُغلق ورشة الساعات ويتغلب على نفوره العدواني المتأصِّل فيه من صناعة أي شيء في خطوط الإنتاج، والتحق بمصنع الساعات، على أن يروِّح عن نفسه في الأماسي بإصلاح الآليات الفريدة التي ابتكرها مَن سبقوه، ومن شتى الأمم، بأياديهم المفكرة.
أمها، التي تضع على رأسها شعرًا مُستعارًا تحت منديل نظيف أخرق ومزركش بدوائر كالبازلاء، ظلت حتى مماتها تخيط لجاراتها سرًّا، على آلة «السينجر»، الملابس القطنية البسيطة التي تتماشى مع زمن الفقر والضجيج ذاك، والذي انحصرت مخاوفه كلها لديها في اسم المفتش المالي المرعب.
أما «صونيتشكا»، وبعد أن تنهي دروسها كيفما اتفق، فكانت تتملَّص كل يوم وكل دقيقة من ضرورة العيش في أعوام الثلاثينيات المضطربة والصاخبة، لترعى روحها في رحاب الأدب الروسي العظيم، فتسقط تارة في الهاويات المقلقة لدى «دوستويفسكي» المريب، وتخرج تارة إلى ممرات «تورغينيف» الظليلة، وإلى البيوت الريفية المدفأة بالحب السخي واللامبدئي لدى «ليسكوف»، الكاتب من الصنف الثاني لسبب لا يعلمه أحد.
أنهت المعهد المتوسط في إدارة المكتبات، وصارت تعمل في مستودع الكتب في قبو المكتبة القديمة، وكانت واحدة من السُّعداء النادرين الذين يغادرون في نهاية يوم العمل القبو المغبر والخانق بألم خفيف ناجم عن انقطاع المتعة: فلم يكن يتسنى لها أن تشبع خلال اليوم لا من صفوف بطاقات الفهارس، ولا من ورقات الطلبات البيض التي كانت تأتي من صالة القراءة في الأعلى، ولا من الثقل الحي للمجلدات المتدلية من يديها النحيلتين.
ظلت أعوامًا كثيرة ترى في مهنة الكتابة نفسها عملًا مُقدَّسًا، وكان في نظرها الكاتب من الدرجة الثانية «بافلوف» بمعنى من المعاني في المستوى نفسه من الجدارة مع «بوسانياس» و«بالاماس» - على أساس أنهم شغلوا الصفحة نفسها في المعجم الموسوعي. لكنها تعلَّمت على مر السنين أن تميز بنفسها، في محيط الكتب الهائل، بين الأمواج الضخمة والأمواج الضحلة، وبين الضحلة وزبد الشاطئ الذي يملأ خزانات قسم الأدب المعاصر الزاهدة عن آخرها.
بعد أن عملت «صونيتشكا» عدة سنوات في مستودع الكتب مثل ناسكة مُنقطعة عن الدنيا، استسلمت لإلحاح رئيستها الشغوفة بالقراءة مثلها، وقررت الانتساب إلى الجامعة في قسم فقه اللغة الروسية. بدأت تتحضَّر على أساس برنامج كبير وأخرق، وكادت أن تتقدم للامتحانات، لكن كل شيء انهار وتبدَّل في غمضة عين، فقد بدأت الحرب.
ربما كان هذا هو الحدث الأول الذي أجبرها، خلال فترة شبابها كلها، على الخروج من ضباب القراءة المستمرة الذي كانت غارقة فيه. فقد أُجليت إلى مدينة «سفيردلوفسك» مع أبيها الذي كان يعمل في تلك السنين في ورشة لصناعة الأدوات، وسرعان ما وجدت نفسها هناك في المكان الأمين الوحيد - في قبو المكتبة...
لم يكن واضحًا إن كان هذا تقليدًا معششًا منذ قديم الزمان في موطننا - أن تحجَب لزامًا ثمار الروح الثمينة في الأقبية الباردة مثل ثمار الأرض - أم أنه لقاح وقائي للعقد اللاحق من حياة «صونيتشكا»، الذي عليها أن تقضيه مع الرجل الخارج تحديدًا من أقبية الحياة السرية، زوجها المستقبلي الذي ظهر لها في هذا العام الأول المظلم والصعب من نزوحها.
جاء «روبرت فيكتوروفيتش» إلى المكتبة في ذلك اليوم الذي حلَّت فيه «صونيتشكا» محل المديرة المريضة في تسليم الكتب. كان قصير القامة، ونحيلًا جدًّا، وأشيب الشعر، وما كان ليلفت انتباه «صونيا» لولا أنه سألها عن مكان فهرس الكتب باللغة الفرنسية. الكتب الفرنسية موجودة لكن فهرسها ضاع منذ زمن لعدم الحاجة إليه. وإذ لم يكن ثمة أحد من الزوَّار في تلك الساعة من المساء التي تسبق إغلاق المكتبة، فقد قادت «صونيتشكا» هذا القارئ غير العادي إلى القبو، إلى الركن الأوروبي الغربي البعيد.
وقف مصعوقًا مدة طويلة أمام الخزانة، حانيًا رأسه جانبًا، وبوجهٍ كوجه طفل مندهش لرؤية طبق من الفطائر، ووقفت «صونيتشكا» خلف ظهره، أطول منه بمقدار نصف الرأس، وقد تسمَّرت هي نفسها بسبب الاضطراب الذي انتقل إليها.
التفت نحوها، ولثم فجأة يدها النحيلة، وقال بصوت خفيض ومُرتجف كارتجاف نور مصباح أزرق من الطفولة المحمومة:
- يا للروعة... يا للفخامة... «مونتين»... «باسكال»...
ثم أضاف مُتنهدًا وهو لا يزال مُمسكًا بيدها:
- وبطبعات «الإلزيفيريين»...
تباهت «صونيا» المُتأثِّرة والمُتمكِّنة جيدًا من إدارة المكتبة:
- لدينا هنا تسعة من إصدارات «الإلزيفيريين».
نظر إليها نظرة غريبة من الأسفل إلى الأعلى، كما لو كان ينظر من الأعلى إلى الأسفل، وابتسم بشفتيه الدقيقتين مبينًا عن فمه الخالي من بعض الأسنان. تمهَّل وكأنه همَّ بقول أمر مُهم لكنه تراجع وقال شيئًا آخر:
- أعطني من فضلك بطاقة قارئ، أو كيف تُسمونها؟
سحبت «صونيا» يدها المنسية بين راحتيه الجافتين، وصعدا إلى الأعلى على السلم البارد جدًّا الذي يسلب الدفء الشحيح من كل قدم تلامسه... راحت هنا، في الصالة الضيقة من البناء الثري القديم، تخط أول مرَّة بيدها لقبه، الذي لم تسمع به من قبل قَطُّ، والذي سيصير لقبها بعد أسبوعين بالتمام والكمال. وفيما كانت تكتب الحروف الخرقاء بقلم الحبر الخشبي الذي أخذ يفتل ببطء في قفازها الصوفي المرتق، راح ينظر إلى جبينها النظيف، ويبتسم في قرارة نفسه من شبهها العجيب بجَمل فتي وصبور ولطيف، ويفكر: «حتى لونها أسمر وعنبري حزين ووردي دافئ...».
انتهت من الكتابة، ورفعت بسبابتها نظارتها المنزلقة، ونظرت بود وترقُّب خالٍ من الاهتمام: فهو لم يُملِ عليها عنوانه.
إحساسه بفعلة القدر، الذي خامره بقوة، وانهال عليه كالمطر الشديد من أعالي سماء صافية وساكنة، جعله يرتبك ارتباكًا شديدًا: لقد أدرك أن مَن تقف أمامه هي زوجته.

عن المؤلفة
ولدت «لودميلا أوليتسكايا» عام 1943. وهي أكثر كُتاب روسيا المعاصرة ترجمةً إلى اللغات الأخرى، وباعت أعمالها أكثر من أربعة ملايين نسخة في جميع أنحاء العالم. هي كذلك صاحبة الرقم القياسي في تاريخ الترشيحات لجائزة البوكر الروسية، فقد وصلت خمسة من أعمالها إلى القائمة القصيرة، منها «صونيتشكا» عام 1993. كما نالت «صونيتشكا» جائزة «مديسيس» الفرنسية للرواية الأجنبية عام 1996 وجائزة «جيوزيبيه أتشربي» الأدبية في إيطاليا عام 1998.

15 October 2016

بيدرو مايرال: سالباتييرا


بيدرو مايرال

سالباتييرَّا

ترجمها عن الإسبانية
مارك جمال


1
اللوحة (نسخة منها) معروضة بمتحف «رويل»، بطول رواق ضخم ملتوٍ واقع تحت الأرض يصل بين البناية القديمة والجناح الجديد. عند نزول الدرج، تخال نفسك قد وصلت إلى معرض للأحياء المائية. على الجدار الداخلي كاملًا، الذي يكاد يبلغ طوله ثلاثين مترًا، تنساب اللوحة كنهر. بمحاذاة الجدار المقابل، ثمَّة أريكة يجلس الناس فوقها طلبًا للراحة ويتطلعون إلى اللوحة تنساب ببطء. تستغرق يومًا لإكمال دورتها. ما يقرب من أربعة كيلومترات من الصور تتحرك ببطء من اليمين إلى اليسار.
لو قلت إن أبي قد استغرق ستين عامًا في رسمها، لبدا وكأنه فرض على نفسه مهمة إنجاز عمل عملاق. لذا فالقول بأنه قد رسمها على مدار ستين عامًا أكثر إنصافًا.

2
يعود أصل هذه الأسطورة التي تُنسج حول شخصية «سالباتييرَّا» إلى صمته. أو بعبارة أخرى، إلى خرسه، إلى حياته المجهولة، إلى الوجود السري طويل الأجل والاختفاء شبه التام لعمله. إن نجاة قطعة واحدة من القماش فحسب تجعل قيمة تلك القطعة الفريدة ترتفع ارتفاعًا هائلًا. وكون «سالباتييرَّا» لم يجرِ أي لقاءات صحفية أو يترك أي كتابات عن لوحته أو يشارك في الحياة الثقافية أو يُقِم معارض فنية قطُّ، يسمح لمنظمي المعارض والنقاد بملء ذلك الصمت بأكثر الآراء والنظريات تنوعًا.
قرأت أن أحد النقاد قد وصف عمله بـ«الفن الخام»، فن مصنوع بسذاجة وذاتية تعليم مطلقتين، بلا أغراض فنية. في حين تحدَّث ناقد آخر عن التأثير الواضح لفناني المدرسة الإضائية الإسبان («اللومينيستاس») من مايوركا في عمل «سالباتييرَّا». وبهذا تكون الطريق التي تعين على ذلك التأثير أن يقطعها طويلة، وإن لم تكُن مستحيلة: فمن فناني المدرسة الإضائية الإسبان إلى «برنالدو دي كيروس»، ومن «كيروس» إلى صديقه وتلميذه «هيربرت هولت»، ومن «هولت» وصولًا إلى «سالباتييرَّا». كما أشار آخرُ إلى أوجه شبه بـ«الإيماكيمونو»، تلك الرسوم الطويلة الملفوفة التي يتميز بها كل من الفنَّين الصيني والياباني. صحيح أن «سالباتييرَّا» قد اطلع على أحد تلك الرسوم، ولكنْ صحيح أيضًا أنه كان قد طور تقنية الاستمرارية الخاصة به بالفعل قبل الاطلاع عليها.
هذه التوضيحات بلا أهمية. لو أخذت أكذِّب الأخطاء الواردة فيما يُقال ويُكتب عن أبي، لما حظيت بوقت لعمل شيء آخر. عليَّ أن أعتاد كون عمل «سالباتييرَّا» لم يعُد خاصًّا بنا (أقصد بأسرتي)، وأنه في الوقت الحالي، يراه آخرون، يتطلع إليه آخرون، يفسرونه، يسيئون تفسيره، ينتقدونه، وعلى نحوٍ ما، يتملكونه. هكذا ينبغي أن تكون الحال.
كما أتفهم أن غياب صاحب العمل من شأنه تحسين العمل. ليس بسبب وفاته فحسب، بل أيضًا بسبب الصمت الذي أشرت إليه فيما سبق. إن كون صاحب العمل غير حاضر، لا يقحم نفسه بين المُشاهد والعمل، يتيح للمشاهد الاستمتاع به بقدر أكبر من الحرية. وفي هذا السياق، يمثل «سالباتييرَّا» حالة قصوى إلى حد كبير. فعلى سبيل المثال، اللوحة من أولها إلى آخرها لا تشتمل على بورتريه ذاتي واحد؛ إذ لا يظهر «سالباتييرَّا» في اللوحة الخاصة به. في ذلك اللون من ألوان اليوميات الشخصية المصورة، لا يظهر بنفسه. كمن يكتب سيرته الذاتية من دون أن يكون هو نفسه فيها. والأمر المثير للفضول أن اللوحة بلا توقيع. مع أنه قد لا يكون أمرًا على هذا القدر من الغرابة. ففي نهاية المطاف، أين يضع توقيعه على عمل بهذا الحجم؟
ومن بين الأكاذيب التي تزامن ظهورها مع الشعبية التي تبعت وفاة أبي، يعد ظهور الأصدقاء والمعارف المزعومين أشقها على الاحتمال عندي. ولا سيما مع الأخذ في الاعتبار أنه لم يكن في «بارَّانكاليس» تقريبًا من يعرف بأن «سالباتييرَّا» يرسم، والقلائل الذين كانوا على علم بذلك لم يُبدوا اهتمامًا. منذ أسبوعين شاهدت فيلمًا وثائقيًّا، مصحوبًا بترجمة إلى اللغة الفرنسية، يتحدث خلاله عدد من مجهولي «بارَّانكاليس» ذوي الشأن إلى الكاميرات، يقصُّون نوادره، ويحكون عن شخصيته وأسلوبه في العمل. كما يظهر في الفيلم الوثائقي كلٌّ من عماتي اللاتي كنَّ يزدرينه، وسكرتير أنشطة ثقافية بالمقاطعة حقَّر من شأن العمل لسنوات، بل وحتى أرملة دكتور «دابيلا»، التي أبت أن تفتح لي الباب حين ذهبت لزيارتها. ظهروا جميعًا بتصفيفات شعر أنيقة، بمظهر جدير بالاحترام، يقصُّون نوادر زائفة أو حقيقية عن أبي. لو كانوا على الأقل قد استضافوا «خوردان» أو «ألدو»، لكان الأمر أكثر نزاهة.

3
في التاسعة من عمره تعرض «سالباتييرَّا» لحادث بينما كان يتنزه مع أبناء عمه على ظهر الخيل في بستان نخيل على مقربة من النهر. كان «سالباتييرَّا» يمتطي حصانًا أرقش ذا عُرف عاصف. هكذا رسمه دائمًا. كتهديد يعاود الظهور من حين إلى آخر على مدار لوحته، حصان يختلط عُرفه بالسماء الرمادية الكثيفة. جفل الحيوان وهو في أوج عدوه، وفي أثناء وثباته سقط «سالباتييرَّا» عن ظهره، إلا أنه ظل عالقًا برِكاب السرج، معلقًا بين حوافر الحصان الأرقش الذي فر هاربًا بين الأشجار. هشم الحصان جمجمته وفكه، كما خلع فخذه، ركلًا ودهسًا.
وجده أبناء عمه بعد نصف ساعة في الجبل، وهو لا يزال معلقًا في الحصان الذي أخذ يرعى خلف شجيرة شوكية بهدوء. كان عمي يحكي أنهم حملوه عائدين ببطء وهم يبكون، ظنًّا منهم أنه قد لقي حتفه.
أنقذت حياته الطاهية، عجوز عوراء غطته ونظفت جروحه بخلطة من أوراق الشجر، ضمدته بثياب نظيفة ووضعته في السرير، فيما تهمس له في أذنه. عندما عاد جدي وجدتي من البلدة ورأياه على تلك الحال، سقطت جدتي مغشيًّا عليها.
في اليوم التالي مباشرة، حضر على ظهر عربة خيل طبيب مخمور، لم يمس «سالباتييرَّا» لحسن الحظ، لم يقُل أكثر من: «لا بد من الانتظار»، وواظب على الحضور كل ثلاثة أيام، لتناول نبيذ الغداء أكثر منه لعيادة المريض. لم أتمكن من اكتشاف اسم ذلك الطبيب قط، ولكنه صاحب دور جوهري في حياة أبي، لم يقتصر على تركه يتماثل للشفاء من دون إخضاعه لفصد الدماء وحمامات المياه المثلجة وفقًا لما كان ينصح به طب ذلك العصر، بل وتجاوز ذلك حين لمس تحسن حالته فأهداه ألوانًا مائية إنجليزية كانت تصل على ظهر المراكب القادمة من باراجواي.
بعد الحادث، لم يعد «سالباتييرَّا» للكلام. كان قادرًا على السمع ولكنْ عاجز عن الكلام. لم نعرف قط إذا كان خرسه لعلة جسدية أو نفسية، أو لمزيج من كلتيهما. كانت محاولات علاجه بيتية نوعًا ما. فعلى سبيل المثال، كانوا يضعون له كوبًا من الماء في موضع يراه ولا يبلغه، ثم يخبرونه بأنهم لن يناولوه الكوب حتى يقول: «ماء». غير أنهم لم يجنوا بذلك شيئًا، فحتى إذا اشتدت به آلام العطش، لم يكُن «سالباتييرَّا» ينبس بكلمة واحدة.
ولكن ما نجحوا فيه حقًّا أنهم جعلوه يرسم ما يريد. بعد ذلك، بدأ يرسم باستخدام الألوان المائية. لم تُحفظ رسوم تلك الفترة (في الواقع، عندما بدأ يرسم على القماش الضخم في العشرين من عمره، أشعل النيران بنفسه في كافة أعماله السابقة). وفقًا لما كان يُحكى، فقد وُضِع فراشه أسفل التكعيبة خلال فترة تعافيه، حيث كان يرسم طيورًا وكلابًا وحشرات وبورتريهات مختلسة لبنات عمه المراهقات، وعماته الخمسينيات، بينما يتناولن عصير الليمون الطازج تحت ظلال الساعات الأخيرة من النهار.

4
وضعه خرسه والوقت الذي قضاه في التعافي على هامش الدور المقرر لرجال العائلة الأصحاء الصاعدين، كما أعفياه من آمال والده الإسباني الكبرى. كان جدي «رافاييل سالباتييرَّا» وشقيقه «بابلو» قد وصلا إلى الأرجنتين وهما في العشرين من العمر، حيث عملا مزارعَين في «كونسِبسيون ديل أوروجواي»، ثم ناظرَي مزارع في «كولون»، ثم في وقت لاحق، بعد تجاوزهما الأربعين، استطاعا شراء بضع أراضٍ رملية لم يرغب فيها أحد بمنطقة «بارَّانكاليس». خلال العشاء، كان من عادة جدي أن يقول لأبنائه، في لفتة تغمر غرفة السفرة الضخمة، بل وتسعى لأن تتمدد كي تشمل أفدنة الأراضي المحيطة بها: «بدأتُ من الفقر المدقع ووصلت إلى هنا، أما أنتم فتبدأون من هنا، وسنرى إلى أين تصلون». أعفت ركلات الحصان الأرقش أبي من تلك الوصية المفعمة بالتحدي.
وإذا به قد صار الأخرس الصغير، أبله العائلة. كانوا يسمحون له بالبقاء وسط النساء، من دون مطالبته بإبداء مظاهر الرجولة التي كان يُطالب بها باقي الذكور، كإطلاق النيران باستخدام البندقية أو تقييد العجول أو امتطائها، فيتنزه برفقة بنات عمه اللائي كنَّ يصطحبنه جيئة وذهابًا؛ كان عندهن كالدمية، يلعبن معه لعبة الأستاذة والتلميذ ويعلمنه كل ما يعرفن. كنَّ يرغمنه على الكتابة حتى لا ينسى الحروف الهجائية، ويحملنه على التواصل معهن بكتابة كلمات فوق السبورة، ويسبحن معه في النهر. وفقًا لحكايات عمتي «دولوريس»، فقد كنَّ يرغمنه على أن يوليهن ظهره فيما تبدل الفتيات ثيابهن لخوض المياه، وسط أشجار الصفصاف المطلة على النهر. كان يصفق مرة – وهو أسلوبه في السؤال عما إذا أصبح بإمكانه النظر – فيجبنه بالنفي. ثم يعاود التصفيق بعد حين، فيعاودن الإجابة بالنفي، ويقلن له ألا يفكر حتى في أن يلتفت، إلى أن ترن الضحكات فيلتفت ليرى بنات عمه وقد خضن المياه.
لا بد وأن «سالباتييرَّا» قد شقي بتلك الدعابة، إذ تظهر في عمله على نحو متكرر مراهقات يبدلن ثيابهن على النور الأخضر المنبعث من صفصاف الساحل، مخضبات بالشمس، خجلى من عري أجسادهن. لا شك أنه كان يرسمهن لحاجته إلى أن يرى أخيرًا تلك المشاهد التي جرت خلف ظهره ولم يستطع مشاهدتها، تلك الحميمية المشرقة، المحرمة على قربها البالغ.

5
لو كان «سالباتييرَّا» قد سألني وأخي أن نهتم بعمله بعد وفاته، الأرجح أننا ما كنا سنفعل، أو ربما كنا سنهتم به بقدر أقل من الحماس. على العكس من ذلك، في اليوم السابق على وفاته بمستشفى «بارَّانكاليس»، عندما سأله أخي «لويس» قائلًا:
- أبي، ماذا نفعل بالقماش؟
ابتسم محركًا ذراعه بتلك الإيماءة المطمئنة، كمن يلقي بشيء وراء ظهره، نحو الماضي، وكأنه يقول: «لا يهم، فقد قضيت وقتًا طيبًا». ثم وضع سبابته أسفل عينه وأشار بالكاد إلى أمي التي أوْلتنا ظهرها فيما تزيح الستائر. وهي إيماءة فهمتها كالآتي: «لتكُن عينكما على أمكما، اعتنيا بها»، أو شيء من هذا القبيل. لم نعاود سؤاله عن اللوحة. بدا أن رسمها هو ما كان يهمه، أما فيما عدا ذلك فلا. أيًّا كان قرارنا، فسيكون حسنًا. توفي أبي فجر اليوم التالي، نائمًا في هدوء.
بعد زمن، حين قررتُ و«لويس» أن نهتم باللوحة، كان أول ما فعلناه هو الحديث إلى صديقه القديم، الدكتور «دابيلا»، طبيبنا في مرحلة الطفولة، وعلى الرغم من تقدمه في السن كان لا يزال محتفظًا ببعض العلاقات في الحكومة المحلية. أشار علينا بأن نتقدم بطلب إعانة مادية لإقامة متحف صغير. كتب عدة خطابات إلى الحكومة المحلية، مشددًا فيها على جودة العمل وأبعاده، والقيمة التي يحظى بها باعتباره مستندًا يوثق عادات الناس خلال حقبة من الزمن في إحدى المناطق. وهكذا يرجع إليه الفضل في اعتبار اللوحة «تراثًا ثقافيًّا للمقاطعة»، غير أن المساعدة الضرورية لإقامة مؤسسة لم تصل قط. بل ولم يذهب أحد من المجلس المحلي للاطلاع على ماهية العمل. لم يكن لدينا سوى المسمى، سلسلة من المستندات الرسمية تحمل أختامًا وتوقيعات مزخرفة، بدلًا من أن تساعدنا استحالت كابوسًا بيروقراطيًّا في نهاية المطاف.
مر زمن من دون أن نتمكن من عمل أي شيء. لم نذكر حتى المسألة لأمي، فلم نرغب في نبش ذلك الماضي (أو بالأحرى بسطه) على مرأى منها، إذ بدا لنا أنه قد يؤلمها. لم يكُن قرارًا تناقشت بشأنه مع أخي، بل جرى الأمر ببساطة هكذا. دائمًا ما جمعت بين أبي وأمي زمالة وثيقة، وبموته، تحملت أمي غيابه بصمت مستكين جليٍّ لم نجرؤ على مقاطعته. توفيا بفارق عامين. لم تعرف أمي بنيتنا على إخراج اللوحة إلى النور ولم تتطرق إلى الموضوع قط. لم يتعدَّ ما ذكرته ذات مرة كون مالك السوبرماركت المقام حديثًا بجوار المخزن قد عرض عليها شراء قطعة الأرض إلا أنها قابلت عرضه بالرفض.

6
في يوم جنازة أمي، وبمجرد أن تخلصنا من العمات والخالات والتعازي، لذتُ و«لويس» بالفرار، ومررنا بالمخزن بسيارته. لم نكُن قد دخلنا إلى ذلك المكان منذ أعوام. رأينا قطعة الأرض الخلفية وقد احتلها السوبرماركت حاليًّا، بعد أن كان يشغلها البوص فيما مضى. كان لا يزال للمخزن الباب الجرار نفسه. سأل «لويس»:
- أندخل؟
ساورتنا الشكوك حينًا إلى أن صففنا السيارة وترجلنا منها. استرعى انتباهنا كون الباب بلا قفل. فتحناه ثم دلفنا إلى المكان كما لو كان معبدًا، وكأننا نسأل شبح «سالباتييرَّا» الإذن بالدخول. هناك كانت لفائف القماش، معلقة بطول الدعامات بنظام. أحصينا عددها: كانت أكثر من ستين. حياة رجل كاملة. وقته بالكامل مطويٌّ، مخفيٌّ. سألت «لويس»:
- ماذا سنفعل؟
تدلت اللفائف فوق رأسينا. كانت مهمة ضخمة في انتظارنا.
- كم مترًا يبلغ طولها؟
قال «لويس»، ناظرًا إلى الأعلى، فيما يصلح النظارة:
- كيلومترات، يا أخي، عدة كيلومترات.
كنا نعرف بعضًا من أجزاء العمل، ولا سيما ما يعود منها إلى الفترة التي ساعدناه خلالها على إعداد القماش. ولكن مرات كثيرة، كان «سالباتييرَّا» يرسم مقاطع من اللوحة، وبابه موصد، فتبقى مطوية لاحقًا من دون أن نتمكن من الاطلاع عليها. أما الآن فأمام أعيننا، وبلا قيود، مجموع أعمال «سالباتييرَّا»، ألوانها، وأسرارها، وسنواتها. أعتقد أننا شعرنا بفضول عظيم، ولكن بحساب مدى ضخامة العمل، فقد شعرنا برهبة أيضًا. كنا رجلَيْن في الأربعينيات من العمر، تملك منهما الشلل، ينفثان البخار وسط برودة المخزن، ويدا كل منهما داخل معطفه.
وفجأة، سمعنا صوتًا أجوف:
- عمَّ تبحثان؟
ورأينا رجلًا قصير القامة كث الشعر، شاهرًا ماسورة من الحديد. أخبرناه من نكون. قدم نفسه إلينا بدوره، وقد أصبح أكثر هدوءًا بالفعل: كان «ألدو»، مساعدًا اتخذه «سالباتييرَّا» في أعوامه الأخيرة ليؤدي العمل الذي توقفنا عن القيام به عند ذهابنا إلى بوينوس آيرس. كنا قد قابلناه بالكاد بضع مرات. استغرق بعض الوقت حتى يتعرف علينا ونتعرف عليه. بدا لنا الآن رجلًا صلفًا، يكاد يكون التعامل معه مستحيلًا. حكى لنا أن أمي قد توقفت عن قضاء مستحقاته بعد وفاة «سالباتييرَّا»، إلا أنه واصل الذهاب إلى المخزن لاحتفاظه ببعض المتعلقات الخاصة به هناك، وبالمرة كان يتفحص تسرب المياه ويضع سم الفئران. أخبرنا أنه شاهد رجلين يحومان حول المخزن قبل أسابيع محاولَيْن فتح الباب عنوة، لهذا فقد كان على أهبة الاستعداد الآن، شاهرًا الماسورة. رأينا في أحد الأركان سريرًا قابلًا للطي وصندوقًا فوقه شمعة مطفأة. كما كان هناك قارب تجديف شبه متعفن ودراجة قديمة وبعض الصناديق والأكياس وقِطع كثيرة من أشياء محطمة أو مفككة.
سألناه عن آخر ما رسم «سالباتييرَّا». أطلعنا على اللفافة التي رسمها في عامه الأخير. كانت قريبة من الأرض، في مستوانا. فض رباطها ومن ثَمَّ أخذنا نبسطها. رأينا الطرف الذي رسمه «سالباتييرَّا» قبل وفاته بخمسة عشر يومًا. كانت الأمتار الأخيرة من القماش مغطاة بالكامل بلون المياه الساكنة، شفافة لحظات، وأكثر إبهامًا لحظات أخرى، كصمت مغمور تسبح خلاله سمكة وحيدة في بعض الأحيان وتتخلله بعض الدوائر.
تبادلت و«لويس» النظرات. أعتقد أنها راقت لنا. كانت تبث الطمأنينة في النفوس. قال «ألدو» فيما يشير إلى سمكة وبضع دوائر غير مكتملة:
اللوحة لم تكتمل.
نفدت قواه بعد أن رسم هذا الجزء ولم يرغب في الاستمرار.
كان هذا بلا أهمية، فمن المفهوم أنه، بطريقة أو بأخرى، انتهى من اللوحة حيث أراد. وكأنه بعد ذلك، قد قرر ببساطة أن يموت.
كنت قد تساءلت آلاف المرات كيف يكون طرف القماش، ذلك القماش الذي بدا لي كمَعين لا ينضب، مهما كنت مدركًا لكونه سينتهى ذات يوم، كما سينتهي أبي أيضًا، الذي كان فانيًا وإن لم أرغب في التصديق بذلك. وهناك كانت الإجابة. بكل طبيعية، هناك كانت الخاتمة.

7
عند بلوغه الرابعة عشرة من العمر، اشتدت عزلة «سالباتييرَّا»، وقد هجرته بنات عمه اللائي ضجرن منه. فتظهره إحدى الصور الجماعية التي تعود إلى تلك الحقبة ممسكًا بقبعته، منزعجًا، يكاد يشيح بوجهه عن العائلة، تبدو عليه نظرة مُهر نافر خلف ذلك الأنف البارز الذي ورثناه أنا و«لويس» عنه. كانت تسمح له أمه بزيارة رسام ألماني أناركي يُدعى «هيربرت هولت»، عاش زمنًا في «بارَّانكاليس» وكان صديقًا وتلميذًا لـ«برنالدو دي كيروس». علَّم «هولت» أبي تقنيات الرسم بالزيت.
قال لنا «سالباتييرَّا» تلك الأشياء بنفسه، بذلك المزيج من الإيماءات والإشارات الذي كان يحكي لنا به قصصًا في بعض الأحيان. كان يذهب إلى بيت «هولت» مرتين أسبوعيًّا بالدراجة (لم يعد لركوب الخيل لزمن طويل). كان يسير بحذاء النهر عبر الطريق العتيقة، حيث تقع الجادة الساحلية في الوقت الراهن، مارًّا وسط أجمة المدخل الجنوبي للبلدة، بين أشجار المُران والصفصاف والحور التي تتألف منها تلك الأنفاق الخضراء البادية في عمله. كان يصل إلى بيت «هولت» في التاسعة صباحًا، فيسمح له العجوز بأن يرسم إلى جواره، موجهًا له بالكاد بعض الإرشادات. شيئًا فشيئًا علمه استخدام المنظور، ومزج الألوان، ودراسة النِّسَب، وأهم شيء على الإطلاق، الرسم كل يوم. أحيانًا كانا يرسمان بورتريهات لمشردين متقدمين في السن كان «هولت» يحملهم على الوقوف أمامهما مقابل الكعك والنبيذ.
إلا أن «هولت» رحل، عاد إلى ألمانيا بعد انقلاب «أوريبورو». في رأي أخي أن دوافع رحيله لم تكن سياسية، بل إنه حين رأى تفوق تلميذه عليه بعد وقت بالغ القِصر، اتخذ العجوز قراره بالرحيل بحثًا عن آفاق جديدة، بعيدًا عن مثل تلك الإهانة. ما زالت له لوحتان رديئتان إلى حد كبير في نادي «بارَّانكاليس» الاجتماعي حتى يومنا هذا، سعى فيهما لتصوير ضفاف نهر أوروجواي، ولكنهما أشبه ببرودة نهر «الدانوب» الذي يمرُّ بمسقط رأسه.
في قماشه، يذكر «سالباتييرَّا» معلمه «هولت» في مناسبتين أو ثلاث. في لحظة، يرسمه كمايسترو يقود المنظر رافعًا ريشته عاليًا كالعصا، مهيمنًا. وفي لحظة أخرى يبدو جالسًا، سعيدًا، يأكل بطيخة صفراء ضخمة، تحت سماء صفراء كالحريق. حكى لنا «سالباتييرَّا» أنهما قد اختلفا ذات يوم لأنه رسم بطيخة صفراء في حين قال له «هولت» إنه ينبغي رسم الأشياء بلونها الحقيقي. ما دام البطيخ ورديًّا بلون الشفق، يجب رسمه ورديًّا بلون الشفق. حاول أبي أن يشرح له، بإيماءاته المنفعلة، أن البطيخ الأصفر له وجود. ظن «هولت» أنه يسخر منه فطرده. عاد «سالباتييرَّا» في اليوم التالي حاملًا بطيخة مستديرة كهدية. في وقت لاحق، شقها «هولت» نصفين بسكين القلم الخاص به، ولدهشة الألماني، انفتحت البطيخة عن شقين صفراوين.
خلال تلك الأعوام التي استغرقتها فترة التدريب مع «هولت»، تجنب «سالباتييرَّا» بنات عمه وإخوته بقدر الإمكان، فكان يتنزه سيرًا على الأقدام فوق الجبل الساحلي. هكذا تعرف على الصيادين الشيوخ، أصحاب قوارب التجديف، الذين كانوا يقيمون أكواخًا على ضفاف النهر ويقتاتون على ما يصطادون بالشص والشباك. شيوخ كانوا يعلقون ممتلكاتهم القليلة على فروع أشجار الخروب، خشية أن يجرفها الفيضان. من الممكن رؤيتهم على القماش بين كوكبات من الأسماك المتوحشة كعادة أسماك النهر، فتُرى أسماك القراميط بمختلف سلالاتها: «سوروبي» ضخمة مرقطة ذات شوارب طويلة، و«باجري» مُرَّة بلون الصفراء، «باتي» ذات ملامح شرقية، و«ماندوبي» ذات منقار بط، و«أرمادو تشانتشو»، التي تُعد بمثابة بارجة الأسماك، تغطي جانبيها الأشواك. هكذا يرسم «سالباتييرَّا» صيادي طفولته، كقديسين بثياب رثة، شُفعاء الأسماك السابحة في الهواء بين فروع الأشجار، بين صفائح وأوانٍ وأكياس ومغارف معلقة على الأشجار حتى لا يجرفها الفيضان. وكأن الكل يسبح في الهواء بقدر ما يسبح في المياه: الرجال والأسماك والأشياء.
يُمكن تَفهُّم عدم حبه للذهاب مع بنات عمه وإخوته إلى حفلات الرقص الاجتماعية في البلدة، كما كان يضطر للذهاب عنوة في بعض الأحيان. الأرجح أن خرسه كان يحول بينه وبين المشاركة. فضلًا عن عدم حبه للرسميات. منذ عرفته كان يرتدي شيئين: إما بدلة ميكانيكي ملطخة بالألوان للرسم، أو معطفًا رماديًّا للذهاب إلى البريد، لم يعاود استخدامه منذ تقاعده.
أعتقد أنه أخذ عن «هولت» كذلك شيئًا من الميل إلى الحرية، شيئًا من الأناركية الحياتية أو العزلة السعيدة، مدفوعًا بالتقليد أكثر من كونه متأثرًا بعقيدة الألماني العجوز. أخذ عنه تبسيطه للحياة إلى الحد الأدنى من الأشياء التي تسمح له بالاستمرار في عمل ما يحب، بلا مضايقات.
عند رحيل «هولت»، ترك لأبي كمية لا بأس بها من الطلاء ولفافة طويلة من القماش فاضت عن حاجته. كان «هولت» يقص قِطعًا بنفسه من تلك اللفافة ويشدها على إطارات مستطيلة بغرض الرسم عليها. إلا أن «سالباتييرَّا»، عندما تلقى اللفافة كاملة، قرر أن يرسم عليها، من أولها إلى آخرها، لوحة ممتدة موضوعها النهر، من دون أن يقصها. كانت تلك هي اللفافة الأولى. وكان في العشرين من عمره حين شرع في رسمها.

8
كان أول ما فعلنا قبل رحيلنا أن دفعنا إلى «ألدو» بعض النقود حتى يعتني بالقماش ويحافظ على المخزن كما فعل حتى ذلك الوقت. بعد فترة قصيرة، استطعنا ترك مشاغلنا في بوينوس آيرس لبضعة أيام والعودة إلى «بارَّانكاليس». لم تواجه «لويس» أي مشاكل في الهرب من عمله في مكتب كاتب العدل، أما أنا، فمُطَلَّق ويعيش ابني الوحيد في برشلونة، فكل ما كان يتعين عليَّ فعله أن أغلق الشركة العقارية، التي كانت متوقفة تقريبًا على كل حال، لبضعة أيام.
نزلنا بآخر بيت امتلكه أبواي، والذي كان لا يزال معروضًا للبيع. كان قريبًا من النهر، على بعد خمسة مربعات سكنية من المخزن. أمضينا تلك الأيام في رفع اللفائف وإنزالها بمعاونة «ألدو»، وباستخدام نظام مؤلف من بكرات رفع إلى جانب رافعة محركات حصل عليها «سالباتييرَّا» من ورشة تصليح سيارات قديمة. وفقًا لحساباتنا، كانت كل لفافة تزن ما يقرب من مائة كيلو. قال «لويس» معلقًا إننا قد تقدمنا في السن، وضحكنا لأن مجرد التشمير عن سواعدنا كما في الماضي، للقيام بنشاط بدني، قد حسَّن من حالتنا المزاجية.
بمجرد إنزال اللفافة على الأرض، كنا نبسطها ثم يلتقط «لويس» صورًا فوتوغرافية لأجزاء منها. كانت فكرته تتمثل في إرسال الصور مرفقة بخطاب بغرض الإصرار على طلب إعانة مادية من المقاطعة، أو دعم من أحد المتاحف أو إحدى المؤسسات المهتمة بتحمل تكاليف مشروع معرض فني، في حالة لم نتلقَّ ردًّا من المقاطعة.
كان عرض القماش كاملًا في مكان واحد مستحيلًا. فكَّرنا أنه ربما أمكن عرضه على أجزاء. فقد سبق عرض جزءين متتاليين في بوينوس آيرس خلال الستينيات، لوقت قصير جدًّا، إلا أن «سالباتييرَّا» لم يرغب في الحضور. كان لديه شعور دائم بأنه من كوكب آخر، تشخيصي بين لاتشخيصيين، ابن أقاليم بين أبناء مدينة بوينوس آيرس، فاعل بين المنظرين. فضلًا عن أنه كان زمن فن التجهيز والحدث، جماليات بعيدة كل البعد عن «سالباتييرَّا». وفي مناسبة أخرى، حمل صديقه دكتور «دابيلا» جزءًا من اللوحة إلى بينالي فني في «بارانا»، بعد أن اتفق مع أبي على اقتسام قيمة الجائزة في حالة فوز عمله. وقد فاز. حضرنا جميعًا مراسم تسليم الجائزة. أحس «سالباتييرَّا» بالضيق الشديد ولم يعاود إقامة معارض فنية قط. لم يكن مهتمًّا بها، بل كانت تعترض عمله اليومي. لم يكن في حاجة للاعتراف به كفنان، إذ لم يكن يعرف كيف يتعامل مع هذا الأمر الذي بدا له غريبًا عن مهمته.
أعتقد أنه كان يتصور قماشه باعتباره شيئًا شخصيًّا أكثر مما ينبغي، كيوميات حميمية، أو سيرة ذاتية مصورة. ربما كان «سالباتييرَّا»، بسبب من خرسه، في حاجة لأن يروي ذاته لذاته. أن يحكي لنفسه عن تجربته في جدارية متواصلة. كان سعيدًا برسم حياته، لم يكن في حاجة لأن يظهرها. كان عيش الحياة عنده يعني رسمها.
كما أعتقد (لم أدرك هذا الأمر سوى الآن) أنه ربما كان يخجل قليلًا من ضخامة العمل المفرطة، ذلك الحجم المنافي للمقاييس، العملاق على نحو جروتسكي، فيكاد يكون أقرب إلى تراكم عادة سيئة أو هوس منه إلى لوحة تامة.
قررت و«لويس» أن إعداد كتيب يبين بعض أجزاء القماش مصحوبًا بشرح وبعض صور «سالباتييرَّا» قد يكون أفضل من توزيع صور مرفقة بخطاب. كما قررنا إدراج صورة للمخزن حيث اللفائف المعلقة، حتى يمكن إدراك مدى ضخامة العمل والمشروع.
كان اختيار اللقطات المناسبة من أجزاء القماش المختلفة أمرًا بالغ الصعوبة، إذ كان «سالباتييرَّا» يرسم بلا أُطُر جانبية، ويستطيع خلق استمرارية بين المشاهد. كان ذلك هو الهاجس المسيطر عليه. أراد أن يرصد في لوحته انسيابية النهر، انسيابية الأحلام، كيفية تحوُّل الأشياء إلى أحلام، بكل طبيعية، من دون أن يبدو التغيير سخيفًا، بل حتميًّا، وكأنه عثر على ذلك التحول العنيف الذي يتوارى داخل كل الكائنات، كل الأشياء، كل المواقف.
ومن أمثلة ذلك، الجزء الذي يرجع تاريخه إلى فبراير 1975، والذي يبدأ بحفل بين الأشجار، في حديقة حيث يرقص الأزواج ويضحكون، يبدو أن ثمَّة جلبة شديدة في الهواء، ثمَّة سكارى مطروحون أرضًا، رجل يجرُّ امرأة نحو الشجيرات، رجلان على وشك الاشتباك في شجار، هناك مخمور بالزي العسكري، وآخر جاثٍ على ركبتيه، يبدو عليه أنه يعاني من شيء مغروس في معدته، ثم رجل عسكري يهز امرأة من ذراعها بشدة، ثم المزيد من الرجال يتصارعون بين الأشجار، يتعاركون متعانقين بزيهم الرسمي، متلاحمين، بالحراب والسيوف، ناس يقتتلون في هرج ومرج عظيمَيْن، ناس مطروحون أرضًا، قتلى، وإذا باللوحة معركة نشبت في قلب الجبل. وتنجح اللوحة، إذ تنقلب من حفل إلى معركة على هذا النحو، في إقناع المرء بقبول التحوُّل وكأنه نتيجة منطقية وبديهية.
وبسبب من تلك الاستمرارية التي تتسم بها اللوحة، كان من الصعب اختيار اللقطات المناسبة لتصويرها. لم يكن للقماش أطر، ولا حتى عند طرفَيْ كل لفافة، فكانت نهاية كل منها تلتئم وبداية اللفافة التالية على أكمل وجه. لو كان في مقدوره، لاحتفظ بها «سالباتييرَّا» مجتمعة في لفافة واحدة عملاقة، حتى وإن أصبح بذلك الحفاظ عليها أو نقلها مستحيلًا.
كانت كل لفافة تحمل التاريخ والرقم مدوَّنَيْن بوضوح على الجزء الخلفي من القماش. قبل رحيلنا بيوم، حين بدأت في إعداد قائمة باللفائف، لاحظت نقص إحداها. كان ثمَّة عام بالكامل مفقود: 1961. قفزت التواريخ المدوَّنة على الجزء الخلفي من القماش من 1960 إلى 1962. لم يتوقف «سالباتييرَّا» عن الرسم يومًا واحدًا. لذا فمن المستحيل أن يكون قد توقف عن الرسم عامًا كاملًا. في الحال نظرنا إلى «ألدو» بريبة. أما هو فقال إنه لا يملك أدنى فكرة أين يمكن أن تكون اللفافة، وفي حال كان لها وجود من الأساس، فهي لم تكن هناك منذ زمن، لأن الترتيب المتبع في تعليق اللفائف لم يتبدل منذ وقت طويل. لو كانت قد سرقت منذ فترة قصيرة، لتركت فراغًا ملحوظًا. من جانبي صدقتُه، أما أخي فلا.
حاولنا استرجاع ذكريات ذلك العام. ماذا حدث عام 1961؟ لم نتذكر شيئًا على وجه التحديد. كنا نسكن بيتًا بالقرب من منتزه البلدية آنذاك. وكان عمري عشرة أعوام، أما «لويس» فخمسة عشر عامًا. كانت أختي «إستيلا» قد توفيت. وكان «سالباتييرَّا» يعمل في مكتب البريد، بينما تُدرِّس أمي الإنجليزية... كما كانت الحال دومًا. إن لم يكن قد سرقها «ألدو»، فماذا جرى لتلك اللفافة؟ أين يمكن أن تكون؟ أتكون قرضتها الجرذان ولذا أخفاها «ألدو» أو تخلص منها؟ أيكون سرقها شخص آخر؟ أيكون «سالباتييرَّا» قد أتلفها أو باعها أو أهداها بنفسه؟ كانت اللفائف الثلاث التي سبق عرضها في بوينوس آيرس و«بارانا» هناك، ولم تكن اللفافة المفقودة واحدة منها. بقينا حينًا نحاول حل المسألة، ثم اضطررنا للمضي قدمًا في العمل نظرًا لعودتنا إلى بوينوس آيرس في اليوم التالي.

9
كان «سالباتييرَّا» في الخامسة والعشرين من العمر ويعمل بالبريد حين تعرف على «إيلينا راميريس»، أمي. أما هي فكانت في الحادية والعشرين، وتعمل بمكتبة «أورتيس»، في «بارَّانكاليس»، حيث كان «سالباتييرَّا» يذهب صباح أيام السبت للقراءة عن حياة الرسامين العظام والبحث عن كتب تضم صورًا ونقوشًا. ثمَّة انتقال بطيء على القماش الذي يعود لتلك الفترة من المشاهد الليلية إلى وضح النهار. في بادئ الأمر تبدو مشاهد انتقالية ممتدة، مع بزوغ الفجر، حيث تُرى نساء سوداوات يغسلن ثيابًا على ضفة النهر (كان دكتور «دابيلا» يحكي أن «سالباتييرَّا» كان يعبر أحيانًا برفقة الصيادين إلى الضفة الأوروجوانية في ليالي الصيف، حيث تُحسن استقبالهم مجموعة من النساء العاملات بغسيل الثياب). رسم «سالباتييرَّا» تلك الساعة حين تنعكس صورة أولى النجوم فوق صفحة المياه ويبدأ كل شيء في الاختلاط وسط الظلال. في أحد أجزاء اللوحة، يشعل أحدهم عود ثقاب وبالكاد تُرى في العتمة امرأة باسمة، مثيرة، خلف النباتات.
ثم بدأت تطغى على لوحته المشاهد النهارية، ضواحي البلدة فجرًا وشوارع طويلة تصطف على جانبيها الأشجار، حيث يمر راكبو الدراجات أشباه نيام. تتزامن تلك المشاهد الانتقالية مع الفترة التي تعرَّف خلالها إلى أمي. ثمَّة عدد من البورتريهات لها: فتُرى جالسة إلى المكتب الخاص بأمينة المكتبة، بعيدًا في بادئ الأمر، في أقصى الجانب الآخر من القاعة الخالية، ثم أقرب، مشرقة دائمًا، مستغرقة في القراءة، فتاة ذات رموش بالغة الطول، لا ترفع بصرها أبعد من ذلك كثيرًا. كان من عادة أمي أن تقول عن أبي إنه خجول كالأرانب، يبقى في أقصى الجانب الآخر من القاعة، متصفحًا كتبه، بينما يسترق إليها نظرات مختلسة. وفقًا لقولها، كانت تلاحظ حين يرسمها، فتعجز عن القراءة، كما تحس بوخز في جسدها وبضيق شديد وبوعي مفرط لذاتها.

10
في اللحظة الأخيرة، قبل عودتنا إلى بوينوس آيرس، استطعنا إحضار أحد موظفي البلدية للاطلاع على عمل «سالباتييرَّا». كنا نرغب في معرفة ما إذا كانوا سيتخذون قرارهم بدعم مشروع إقامة متحف أخيرًا. في حال لم نحصل على المساعدة، كنا على استعداد لعمل شيء بالجهود الذاتية. كان دكتور «دابيلا» قد توفي وتوالت حكومتان منذ استطاع إعلان اللوحة «تراثًا ثقافيًّا». أما الآن فكانت «بارَّانكاليس» تحت حكم حركة «أنداندو»، وهو حزب مؤلف من أحد الفروع «البيرونية» نجح في الفوز بمناقصات تنظيم الكرنفال، بالتحالف مع راديكاليين سابقين تقع الإعانات المادية المخصصة للتشجير تحت إشرافهم.
حضر السكرتير الخاص بمسؤول الأنشطة الثقافية، ولم يتوقف لحظة عن الرد على هاتفه المحمول. أطلعناه على بعض اللفائف. بسطناها له على الأرض. أخذت أشرح له، إلا أن هاتفه المحمول كان يرن فيتلقى المكالمة. كان يسير حتى باب المخزن فيما يتحدث بصوت مرتفع، بعبارات من قبيل: «قل للفِرق المشاركة في الكرنفال إن النقود جاهزة». كان يسير في دوائر، ملوحًا بيديه، يسب أحدهم على الطرف الآخر، يقترب، يبتعد، يقول: «ولكن يا أخي، هؤلاء لا يملكون حتى ثمن السولار».
في لحظة ما، وبينما يستمع إلى حديث أحدهم عبر الهاتف، بسط إحدى لفائف القماش أكثر قليلًا بطرف حذائه، كي يتطلع إليها. وكانت تلك لفتة الاهتمام الوحيدة التي بدرت عنه. ثم أخبرنا أنه ينبغي الحديث بهذا الشأن مع حاكم المقاطعة، وربما أمكن إرسال خطاب إلى الحكومة المحلية. وقال:
- مع ذلك، أنبهكم إلى عدم وجود نقود. الحصول على نقود أمر في غاية الصعوبة. ولكن على كل حال، تقدما بمشروع.
أخبرناه أننا كنا قد تقدمنا بمشروع بالفعل. من الواضح أنهم لم يكونوا على علم به.
قبل أن يستقل سيارته، سألنا عما إذا كنا على علم برغبة شخص يدعى «بالدوني»، مالك السوبرماركت المجاور ومسؤول الرعاية الاجتماعية، في شراء قطعة الأرض المقام عليها المخزن. تذكرت العرض الذي تلقته أمي. ألقى الرجل نظرة على المخزن ثم عرض علينا أن نبيع قطعة الأرض بلا مقدمات، وأن نحتفظ بالعمل في مكان آخر يمكنه مساعدتنا في العثور عليه، وبتلك النقود نقيم المتحف.
لم تبدُ الفكرة سيئة. ترك له «لويس» البطاقة الخاصة به. اتفقنا على الحديث بهذا الشأن ثم رحل. في اليوم التالي عدنا إلى بوينوس آيرس، ولم أتمكن من العودة إلى «بارَّانكاليس» لعدة شهور.